هذه الحلقات الرمضانية هي تأملات وقراءة أولية لبعض جوانب حراك الريف، وهي مستوحاة من نبض وزخم الحراك الذي حظيت بفرصة ملاحظة وتتبع بعض لحظاته، والإصغاء الهادئ إلى إيقاعات هزاته وارتداداتها، ونقل شهادات حية من قلب الريف لشباب شاركوا أو تعاطفوا مع الحراك. ناصر، عزي أحمذ وهارت.. صدفة اللقاء ذات صباح وهو يتجول وسط مدينة إمزورن، وبينما كان مارا أمام دكان سي امحمذ بائع الجرائد والكتب، لمح عزي أحمذ كتابا طالما كان يريد الحصول عليه، كيف لا وهو يتحدث عن قبيلته، قبيلة أيت ورياغل، التي يعتز أيما اعتزاز بالانتماء إليها، إنه كتاب "آيت ورياغر، قبيلة من الريف المغربي، دراسة إثنوغرافية وتاريخية" للأنتروبولوجي الأمريكي دايفيد مونتغمري هارت، الذي ترجم إلى اللغة العربية وصدرت طبعته الثانية. إنه كتاب ضخم يتكون من جزأين، يرصد ويحلل فيه الباحث بلغة أنتروبولوجية فاحصة وذكية، وبمنهجية الملاحظة بالمشاركة البنيات الاقتصادية والسوسيو- ثقافية التقليدية للمجتمع الورياغلي بالريف. تحمس عزي وفرح كثيرا لرؤية الكتاب، أخذ يتفحص شكله الخارجي الأنيق، وسأل عن ثمنه. لم يستسغ الثمن الباهض للكتاب، إذ لم يكن يتوفر على المبلغ كاملا، ولم يتمكن من اقتنائه. كان عزي أحمذ مشدوها للكتاب، لم يفارق مخيلته، ووجد نفسه بعد أسبوعين عائدا إلى المكان ذاته وعيناه مسمرتان لا تنفكان عن التطلع إلى الكتاب، يخفق قلبه وينقبض ويتردد كثيرا في طلب الكتاب واقتنائه، فالثمن ليس في متناوله. بقي يمشي، ذهابا وإيابا، مدة بين شارع الدارالبيضاء والشارع 17، وأخيرا قرر أن ينسحب مرة أخرى دون أن يحوز الكتاب! كان عزي أحمذ يداوم على حضور العديد من الجولات الميدانية لناصر الزفزافي في مختلف أحياء مدينة الحسيمة وبعض مناطق الريف، ففكر أن يهدي شيئا رمزيا لناصر. وخلال تجمع الحراك الشعبي بحي المنزه أهداه جرة طينية صغيرة (ثَقْذُوحْثْ) كهدية رمزية تحيل على الماضي القريب للريف. كان عليهم أن يتوجهوا بعد ذلك إلى جبل مُورُو فْييِخُو حيث سيكونون على موعد مع تجمع خطابي ضخم. خلال ذلك التجمع سلم ناصر هدية لعزي أحمذ. وحين فتح الغلاف الخارجي للهدية إذا بأسارير وجهه تنفتح وينشرح قلبه، إنه كتاب "آيت ورياغر"، الذي طالما رغب في الحصول على نسخته. يقول عزي أحمذ: "حين أبصرت الكتاب شعرت من أعماق القلب وكأن أبوابا تنفتح بسرعة البرق أمامي، هل هي مجرد مصادفة لم تكن في الحسبان، أم قدر ورسالة ذات معنى؟ الصدفة تكون أحيانا هدية من القدر، على كل حال أنا ممتن، بعد الله، للحراك ولناصر لأنهما أعادا إلي الاعتبار والقيمة، وأصبحت أشعر بأن لدي مهمة وأمانة علي أن أوفيها". يحرص عزي أحمذ أيما حرص على أن يضع الكتاب الذي أهداه إياه ناصر على الطاولة داخل بيت الضيوف (أَخَامْ إِمَنْجِوَنْ)، إلى جانب كتب عن الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي، ويشعر بالاعتزاز والافتخار حين يحكي هذه القصة التي جمعته بناصر الزفزافي. وعلى سبيل الختم، عزي أحمذ مواطن يفضل أن يضيء محيطه، وأن يطارد الأمل البعيد لا أن يلعن الظلام، ينشد لوطنه الكرامة والحرية والحياة الطيبة، يرفض اللامبالاة ويعتبرها خذلانا، ومرات عديدة خلال سرده شذرات من سيرته كان يعبر عن ألمه وعدم ارتياحه ورضاه كلما شاهد ظلما أو إهانة، سواء تعلق الأمر بالباعة المتجولين أو النساء أو الشباب أو مختلف الفئات المهمشة. ستبقى صورة وشخصية سفير تماسنت راسخة في ذهن وقلوب كل من تابع الحراك وتفاعل معه. إنه صوت من أصوات الريف العميق والبسيط والأصيل الذي بدأنا نفتقده بالريف. سيرة ومسار حياة أحمد الخطابي تحمل معاني إنسانية عميقة تجسد الخصال والطباع الفطرية العفوية، التي يتصف بها الإنسان المغربي الأمازيغي البدوي، الذي يرفض الذل والخنوع لنفسه ولغيره، ويتوخى العيش في وئام مع بيئته وقيمه وكرامته. ثمة تجارب ومسارات حياتية تستحق أن تكتب وتؤرخ في الذاكرة المجتمعية، وعزي أحمذ كيمياء يصعب سبر معادلاتها ورموزها وتفاعلاتها بسهولة، كل المتعة أن تجالسه وتصغي إلى روحه الدافئة بإمعان، ستحس بخيط رفيع يدفعك نحو الماضي ويوقظ فيك مشاعر دفينة وجميلة. ولا زال من التفاصيل ما سيبقى حبيس القلب والذاكرة، وأجمل الأيام هي تلك التي لم نعشها بعد ... *أستاذ حقوق الإنسان والعلوم السياسية بجامعة محمد الأول بوجدة