يسود الاعتقاد عند المثقفين عموما، بل حتى عند بعض الباحثين المتخصصين، بأن الحديث عن المسألة الأمازيغية إبان عهد الحماية إنما يعني أساسا الظهير البربري بتاريخ 16 مايو 1930. وهذا الاعتقاد خاطئ لا محالة؛ لأن ظهير 1930 لم يكن في الواقع إلا تتويجا ونتيجة حتمية لمسلسل بدأت الإيديولوجيا الكولونيالية في رسم حلقاته منذ أمد بعيد، وهو ما يسعى إلى تبيانه الدكتور الطيب بوتبقالت في السلسلة الرمضانية لهذه السنة. 30/21..دور الاستعلامات العسكرية في توطيد الاختراق لم يكن احتلال البلاد سنة 1912 مفاجأة بالنسبة للفرنسيين، بل على العكس من ذلك استغرب بعض المحللين صمود المغرب زمنا طويلا أكثر مما كان متوقعا أمام الغزو الفرنسي، لكن سرعان ما تبين لهم أن سر ذلك كان يكمن بالأساس في الصعوبات والعراقيل التي أفرزتها إشكالية التسويات الكولونيالية بصدد «المسألة المغربية». وأما بعد مارس 1912 فكل الآراء كانت تجمع على أن الأمور أصبحت على ما يرام ولم يبق على فرنسا إلا مواصلة المسير على هدى من التخطيط الاستعماري المستنير. وفعلا لقد تم اختبار وسائل الاختراق بما فيه الكفاية، وجاءت بعده مرحلة التطبيق، لكن هذا لم يكن يعني الاندفاع والتهور أو استعراض العضلات تحت ذريعة «المشروعية القانونية» التي كان المستعمر يلوح بها في وجه كل مقاومة مغربية كيفما كان مصدرها، مدعيا أن معاهدة فاس أعطته الضوء الأخضر من أجل «تهدئة» البلاد وإدخال «الإصلاحات» على مرافقها الحيوية. وهكذا رغم استيلائها على السلطة المخزنية واحتلالها لأجزاء كبيرة من البلاد، دأبت فرنسا على تعزيز خطتها الرامية في المقام الأول إلى إنجاز التكامل والتداخل لمختلف وسائل وأساليب تغلغلها، وعلى رأسها التوثيق وجمع المعلومات الاستخباراتية التي ستمكنها من تحقيق أكثر عدد ممكن من المكاسب بأقل عدد ممكن من الخسائر. التقنيات الاستخباراتية لضباط الشؤون الأهلية من بين المهام التي أسندت لضباط الشؤون الأهلية تلك التي كانت تقتضي منهم التهييء الاستخباراتي لتسهيل عمليات الاحتلال العسكري اللاحقة. لقد تطرق لهذا الموضوع بإسهاب، وبتحليلات مفيدة، القبطان فاليري الذي جاءت شروحه لتلقى مزيدا من الأضواء على كيفية اختراق فرنسا للمجتمع المغربي مستعملة من أجل ذلك كل الوسائل المتاحة، وكانت صياغة عنوان مؤلفه صريحة وملغومة في الوقت نفسه: "الاختراق العسكري للمغرب: مساهمة في الدراسات السوسيولوجية للتواصل بين الشعوب". وفي معرض حديثه عن دور ضباط الشؤون الأهلية وما كان يجب عليهم القيام به خلال تحركاتهم الميدانية في الخطوط الأمامية قبل زحف الجيش الكولونيالي، يقول القبطان فاليري: "من المهام الرئيسية لضباط الشؤون الأهلية المتواجدين في المواقع الأمامية بحث وجمع المادة التوثيقية المتعلقة بالمنشقين (هكذا تنعت الدعاية الاستعمارية المقاومة المغربية)، وهي عملية يجب أن تتم قبل أن تحدد القيادة العسكرية المنطقة بالضبط التي كانت الخطة العسكرية تنوي احتلالها وتركيز المجهودات السياسية والعسكرية عليها. ولما تنتهي عملية تحليل المعلومات وتركيبها توضع المادة التوثيقية بكاملها رهن إشارة القيادة العسكرية؛ بعد ذلك تقوم هذه الأخيرة باختبارها واعتماد ما يبدو لها مفيدا بالنسبة للنقطة الأولى في خطة الهجوم العسكري". كانت تقنيات عملية «التهييء» ترتكز على خمس نقاط تشكل في مجموعها القاعدة الذهبية لتحركات ضباط الشؤون الأهلية: - إجراء عملية «التهيىء» على مراحل مضبوطة بشكل يسمح بقطع مرحلة معينة دون ضرورة ربطها بالمرحلة التي سبقتها أو تلك التي ستليها. - إجراء اختراق قبيلة واحدة أو مجموعة قبائل كل ما كان ذلك ممكنا. - إجراء هذه العملية في مناطق يسهل الوصول إليها حتى لا تكون تكاليف العمليات العسكرية التي ستتبعها مرتفعة. - إجراء استغلال العناصر الموالية "لفرنسا"، المندسة في صفوف من كانت الدعاية الاستعمارية تطلق عليهم "المتمردين" أو "المنشقين". - إجراء تنسيق العمليات بشكل تساتلي. وبطبيعة الحال كانت إستراتيجية «التهيىء» تشير في البداية إلى نقطة الهدف التي يجب تحديدها كقبيلة معينة أو مجموعة دواوير، لتنطلق مباشرة بعد ذلك أساليب الضغط الدعائي الذي كان القبطان فاليري يسميه «العمل السياسي»، ويوضح ذلك قائلا: «إن هذا العمل السياسي لا يعتمد على أي قاعدة محددة وإنما على التجربة فقط. إنها فرصة سانحة يبرهن خلالها ضباطنا في الشؤون الأهلية عن حنكتهم ولباقتهم الدبلوماسية، ومرحلة التهيىء السياسي تتطلب وقتا طويلا، لاسيما وأن الوقت عند الأهالي لا قيمة له وهذا ما يسعفنا»... ومن الناحية العملية فإن أول شيء يقوم به ضابط الشؤون الأهلية في هذا الإطار هو رسم خريطة للمنطقة المزمع احتلالها، إذ كان عليه تجميع المعطيات الجغرافية والطبوغرافية بواسطة الطلعات الجوية فوق المنطقة المستهدفة، تضاف إلى ذلك المعلومات التي تم الحصول عليها حول الهدف عن طريق سكان المناطق المجاورة التي تم احتلالها، وحتى عن طريق السكان المتواجدين في المنطقة المعنية، والذين كانت لهم علاقات مباشرة أو غير مباشرة مع الفرنسيين. وبالموازاة مع الطلعات الاستكشافية والتحركات التجسسية، يقوم ضابط الشؤون الأهلية بغربلة المادة التوثيقية المتوفرة، والتي عادة ما تشمل كل خصائص الحياة الاجتماعية في المنطقة أو القبيلة التي كانت قوات الاستعمار تتأهل للاستيلاء عليها. الدعاية السياسية لم تكن الدعاية ذات الطابع السياسي الاستخباراتي التي مارستها عناصر ضباط الشؤون الأهلية خاضعة لأسلوب جمع المعطيات التوثيقية، فبينما كان جمع المعلومات يرتكز على تقنيات منهجية ثابتة ومعقلنة، كانت خطة الدعاية السياسية جد متغيرة لتتلاءم مع الظروف الزمانية والمكانية، بحيث لا تتحكم في مجرياتها وحيثياتها الدوائر الاستعمارية المركزية، وإنما كانت بطبيعتها موكولة إلى خبرة الفرق الاستخباراتية العاملة والمتواجدة في المكان. ولم تكن العمليات العسكرية في هذا المجال تستجيب دائما لرغبات ضباط الشؤون الأهلية، والسبب في ذلك كان راجعا حسب تحريات وتجربة القبطان فاليري إلى المشاكل الناتجة عن تدبير عامل الزمن: "كانت لقاءاتنا وأحاديثنا مع الأهالي تدوم لمدة أسابيع وشهور، وأعوام في بعض الأحيان. وكان التسرع من جانب القيادة العسكرية يعيدنا إلى نقطة الصفر، وتضيع بذلك كل مجهوداتنا وتنقطع اتصالاتنا بالأهالي حيث يتهموننا بخيانة الثقة. وتبدو بعد ذلك عملية استئناف مساعينا السياسية صعبة للغاية ونتائجها غير مؤكدة". وهكذا في حالة ما إذا تعذر القيام بالدعاية السياسية حسب خطة ضباط الشؤون الأهلية لسبب من الأسباب، فإن للقيادة العسكرية أوامرها وإكراهاتها. وهذا لا يعني أن هناك تضاربا في الأهداف المرسومة، وإنما فقط في عدم تمكن وسيلة معينة من أداء مهمتها في وقت محدد. والقاعدة العامة الكولونيالية كانت دائما تؤكد على تكامل وسائل التدخل، ما يلغي فرص تناقضها: «إذا اتضح تماما عدم جدوى العمل السياسي فإن استعراض القوة لم يعد كافيا، بل يجب استخدامها ليصبح بذلك العمل العسكري هو الراجح. ولكي تكون عملياتنا العسكرية حاسمة، تسفر على إثرها استسلامات كثيرة في صفوف المنشقين، كان علينا أن نسدد ضرباتنا الهجومية بالدرجة الأولى للقبيلة التي كانت تتمتع بأقوى نفوذ في المنطقة». وأدى الغرور ببعض الضباط العسكريين إلى اقتراح خطة اكتساح رقعة الحماية بكاملها في غضون شهور معدودة، إلا أن من كان يمسك بزمام الأمور الكولونيالية ويخطط للعمليات المدنية والعسكرية على السواء هو الجنرال ليوطي، فهو الذي كان دائما يحذر من مغبة السقوط في متاهة التعقيدات الناتجة عن عدم التريث وتبني سياسة النظرة الضيقة، مع تجاهل ما قد تسفر عنه تلك الخطة من مشاكل تنظيمية داخلية وأخرى ذات علاقة بالتزامات فرنسا الكولونيالية تجاه «محميتها» وكذلك تجاه حلفائها ومنافسيها الأوربيين... تعليمات ليوطي كانت نظرة ليوطي في ما يخص إرساء نظام الحماية بالمغرب نظرة تتماشى وميوله الارستقراطية المتشبعة بالإيديولوجية الاستعمارية في مراحل نضجها الإمبريالي، وكانت خططه العسكرية منبثقة من تعاليم مدرسة الجنرال كالييني، إذ سبق له أن كان أحد ضباطه المقربين في مستعمرة مدغشقر بسنوات عدة قبل تسلمه زمام السلطة الكولونيالية بالمغرب.. وتوحي بعض مواقفه بأنه كان يطمح إلى جعل منطقة الحماية المغربية جوهرة الاستعمار الفرنسي وتجربته الناجحة بكل المقاييس، بل إنه كان يحلم بضم كل المناطق المغربية التي تم توزيعها بين السلطات الكولونيالية الأوربية (إسبانيا وبريطانيا) إلى النفوذ الفرنسي، لتصبح بذلك إفريقيا الشمالية بكاملها تحت الراية الفرنسية. وعليه يمكن القول إن سياسة ليوطي في بعدها الزماني كانت مبنية على نظرة متأنية بعيدة المدى دون إغفالها مواجهة الواقع الآني بكل تقلباته؛ وهذا على الأرجح هو العامل الحاسم الذي جعله ينجح حيث أخفق الكثيرون من المقيمين العامين الذين خلفوه. وهي السياسة الاستعمارية التي اتخذت من معرفة المجتمع المغربي المبدأ المؤسس لمشروع هيمنتها والمعول الذي لم تتردد في استعماله لهدم الذاتية المغربية، وليست هذه استعارة أملتها ضرورة الشعر أو شيء من هذا القبيل، بل واقع تاريخي مدون في سجل مفتوح. لقد كتب الجنرال ليوطي رسالة بعث بها إلى وزير الخارجية، بيشون، بتاريخ 13 شتنبر 1913، موضحا فيها طبيعة السياسة التي كان بصدد اتباعها بالمغرب، حيث قال: "كيف يمكننا أن ننجح ونحن نواجه حشودا من الأهالي المنضوية تحت راية تكتلات منظمة والتي تعيش في بلد له خصوصيته، إذا لم نكن نعرف معرفة دقيقة المميزات الإثنية والظروف التاريخية والاجتماعية لهذه الأهالي؟. يجب أن نكون على علم تام بلغة السكان، ودينهم ومؤسساتهم المتنوعة. يجب أن نتعرف على العائلات والشخصيات التي لها نوع من التأثير على السكان. وبعبارة وجيزة يجب أن تكون لنا معرفة بكل القوى التي يتوجب علينا أن نوظفها بمهارة فائقة لبلوغ أهدافنا...". وبتركيزه على الجانب المعرفي لأغراض اختراقية، كان ليوطي يبحث دائما عن أنجع السبل لتحسين جمع المعلومات وتحليلها لفائدة تطوير سياسته الاستعمارية، ولم يكتف بما توفره له التجربة الفرنسية في هذا المجال، بل اهتم كذلك بأسلوب التنظيم الكولونيالي الذي كانت تنهجه كل من هولندا وانجلترا في المستعمرات التابعة لهما، ولاحظ أنه كان يكفي مثلا 1200 من الوكلاء الانجليز لتأطير الحياة السياسية لحوالي 300 مليون هندي. والتجربتان الإنجليزية والهولندية جديرتان في نظره بالاهتمام، فقد تساعد نتائجهما العملية على اكتشاف بعض العيوب الإدارية التي يجب تجنبها في المغرب الفرنسي. ولا يمكن تحقيق هذه النتيجة في نظره بدون الاعتماد على العناصر المكلفة بالاستخبارات السياسية، والتي بدونها تصبح إدارة شؤون الأهالي ومستقبل نظام الحماية مرشحة لكل الاحتمالات، ومنها احتمال الفقدان التام للسيطرة على الوضع برمته. لهذا كان ليوطي يحث دائما المسؤولين العسكريين والمدنيين المقربين إليه على إيلاء الأهمية البالغة للمعرفة الجيدة بكل مكونات المحيط الاجتماعي الذي يناورون بداخله. وإجمالا، يقول ليوطي، "تشكل مصلحة الاستخبارات إلى جانب مصالح التنفيذ الجهاز الخاص بجمع كل الوثائق العلمية التي ستعتمد كأساس ليس لممارسة المراقبة الفرنسية في المناطق التي تم احتلالها فحسب، بل كذلك للعمل السياسي في المناطق المتمردة. وبصفة عامة ستعتمد هذه الوثائق في التنظيم المعقلن لإدارة الحماية الفعلية على امتداد الإمبراطورية المغربية". وكانت هذه النظرة الشمولية بالذات هي التي توجه سياسة فرنسا البربرية. ومن الجدير بالملاحظة أن أوضاع الحرب العالمية الأولى التي باغتت هذه السياسة لم تغيرها قيد أنملة!. *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة – طنجة