يسود الاعتقاد عند المثقفين عموما، بل حتى عند بعض الباحثين المتخصصين، بأن الحديث عن المسألة الأمازيغية إبان عهد الحماية إنما يعني أساسا الظهير البربري بتاريخ 16 مايو 1930. وهذا الاعتقاد خاطئ لا محالة، لأن ظهير 1930 لم يكن في الواقع إلا تتويجا ونتيجة حتمية لمسلسل بدأت الإيديولوجيا الكولونيالية في رسم حلقاته منذ أمد بعيد، وهو ما يسعى إلى تبيانه الدكتور الطيب بوتبقالت في السلسلة الرمضانية لهذه السنة. 30/25 .. سياسة "القواد الكبار" بمجرد ما وطئت أقدام جنود الاحتلال منطقة الشاوية وتأهبت لتواصل توغلها في مناطق الأطلس المتوسط، تجندت قبائل الجنوب المغربي تحت راية الجهاد، وكان ماء العينين أحمد الهيبة هو من تزعم هذه الحركة الجهادية، التي التحمت فيها قبائل الصحراء بقبائل سوس. وهكذا توجهت فلول المقاومين إلى الدارالبيضاء، التي اتخذها الفرنسيون القاعدة الرئيسية، التي كانت تصل إليها باستمرار التعزيزات والإمدادات العسكرية، والتي كانت تنطلق منها عمليات الغزو والاحتلال. ولما وصلت عناصر أحمد الهيبة مع بداية شتنبر 1912 إلى بلدة سيدي بوعثمان، على بعد حوالي 70 كلم من مراكش في اتجاه الدارالبيضاء، وجدت أمامها الجيش الفرنسي بقيادة الكولونيل مونجان. وكانت نتيجة المواجهات بالطبع لفائدة من يمتلك الأسلحة الحديثة والتنظيم العسكري المتطور. وهكذا انسحبت «حركة» الهيبة من المعركة وتراجعت لتستقر مرحليا في تارودانت ريثما تسترجع أنفاسها لتستأنف الجهاد. وباستيلائهم على مراكش يوم 7 شتنبر 1912 اكتشف الفرنسيون عن قرب التنظيم الإداري للمناطق الجنوبية والنفوذ الكبير الذي كان يتمتع به بعض القواد الإقطاعيين هناك. ونظرا إلى شساعة الجبهة الجنوبية، وما كان يترتب عن ذلك من بعد المسافات عن نقاط الدعم العسكري، وحقنا للدماء الفرنسية، التي كانت من انشغالات ليوطي الدائمة، وحتى يتسنى للمصالح الاستخباراتية أن تتوغل داخل منطقة سوس وتجمع ما استطاعت من المعلومات عن قدرات قبائل آيت باعمران الدفاعية ومدى التفافها حول زاوية ماء العينين.. لهذه الاعتبارات ارتأى الجنرال ليوطي أن يترك المناطق الجنوبية في وضع «جبهة غير مفتوحة». ومعنى ذلك أن استراتيجيته على المدى القريب لم تكن ترتكز على الاكتساح العسكري بالدرجة الأولى، وإنما على «العمل السياسي» بالخصوص. واعتبر ليوطي مراكش آخر محطة احتلال عسكري في اتجاه الجنوب. وكانت هذه هي الدوافع التي جعلته يعقد تحالفات مع قواد القبائل الجنوبية ليجعل منهم حاجزا بينه وبين القبائل الثائرة أو «المنشقة»، حسب التعبير الدعائي الكولونيالي. وكل الترتيبات الرامية إلى استغلال هؤلاء القواد، وضرب بعضهم ببعض، وتعزيز نفوذهم أحيانا، كان الهدف منها التحضير المحكم لبسط السيطرة النهائية على القبائل، التي كان هؤلاء القواد ينتمون إليها. وهذه الخطة هي ما كان ليوطي يسميه "سياسة القواد الكبار". خيانة قواد الجنوب بعد مرور أسابيع قليلة على توقيع معاهدة فاس، بادرت القوات الاستعمارية إلى جس نبض قواد الجنوب، وما لبثت أن وجدت فيهم قابلية للتعامل مع «الاحتلال»، مما شجع ليوطي على التخطيط لتوجيه ضرباته العسكرية إلى المناطق الوسطى من البلاد، تاركا الجهة الجنوبية إلى حين. وفي هذا الشأن كتب المقيم العام بتاريخ 10 يونيو 1912 مؤكدا على أن اتصالات مصالحه الاستخباراتية مع قواد الجنوب كانت جد ناجحة، مشيرا إلى أنها أسفرت عن «إعلان موافقتهم على جميع النقاط المتفق عليها وتضامن مصالحهم معنا». كان اهتمام المخابرات الكولونيالية منصبا على المدني الكلاوي، المنحدر من قبيلة كلاوة، الذي كان سابقا الصدر الأعظم في عهد السلطان مولاي عبد الحفيظ، وعلى أخيه الأصغر التهامي الكلاوي، باشا مدينة مراكش، وعلى القائدين عبد المالك المتوكي والطيب الكندافي. بالإضافة إلى مجموعة من القواد من ذوي النفوذ المحلي المحدود أو حتى بدون نفوذ، والذين جعلتهم فرنسا يدورون في فلك «القواد الكبار». وكان ضمن هذه الفئة الثانية قواد ألحقتهم الإقامة العامة تدريجيا برتبة "قواد الفئة الأولى"، وهم القائد العيادي، والقائد أنفلوس، والقائد حيدة ومويس. لقد وضع أولئك القواد نفوذهم رهن إشارة السلطة الكولونيالية، وأصبحوا مجرد دمى وفزاعات تتحرك تحت تأثير هبوب رياح الاستعمار العاتية. ونظرا لكون مراكش أضحت القاعدة الرئيسية لتمركز جنود الاحتلال ومصالح استخباراتها الاستعمارية، فإن ليوطي أولى اهتمامه الخاص بعائلة الكلاوي، وعلى رأسها باشا المدينة التهامي الكلاوي، الذي أصبح واسطة العقد بالنسبة إلى سياسة «القواد الكبار» ومحركها الأساسي الذي تم تشغيله بشكل مكثف إلى درجة بدأ يظهر معها بمظهر إحدى الشخصيات البارزة في المحافل الاستعمارية. وصار التهامي الكلاوي عنوانا ساطعا لنجاح خطة فرنسا في صنع النخب الأهلية المزيفة. وكان يفخر بقيامه أحسن قيام بهذا الدور الذي ظل متمسكا به إلى نهاية عهد الحماية. وقد عملت السلطات الكولونيالية على تقوية وتوسيع نفوذ الكلاوي الشخصي، وتعزيز ذلك النفوذ بمجموعة من القواد التابعين له. وهكذا ما لبث أن ذاع صيت الكلاوي وشاعت أخبار كثيرة عن «هيبته» المصطنعة، التي لم تكن سوى عبارة عن سلوكات إقطاعية همجية ضد مواطنيه، وعبودية خانعة لأسياده الفرنسيين. وكان طغيانه يمتد ليشمل قبائل أحمر والمنابها والودايا وأولاد دليم وحربيل ومجاط وفروجة وتامصلوحت وشيشاوة ومسفوية ومزكيطة وآيت عوينيين ولحمادة. بالإضافة إلى عدد من القواد الذين كانوا يعملون تحت أوامره مباشرة، ومنهم القائد العربي ادردور، الذي كان يشرف بالنيابة عن الكلاوي على قبائل الزناكتة وآيت زميع وآيت رحال، والقائد الحاج أحمد بن حيدر، الذي كانت قيادته متوغلة في إقليم سوس لتشمل تارودانت وهوارة وجزءا من المنابها وأولاد يحيى واشتوكة، وكذا أخوه القائد حمادي الكلاوي، الذي كان قائدا على ورزازات وسكورة وأمران، وابن عمه القائد سي حمو، الذي كان قائدا بالنيابة عن الكلاوي على قبيلته كلاوة وزغيطة وتلوات وسكتانة وسردانة ودادس وآيت تفنوت. إن ذكر هذه القبائل الأمازيغية في مجملها فصلا ومفصلا يكفي لإعطاء نظرة موجزة عن انتشار نفوذ الكلاوي، وتغلغل النفوذ الاستعماري في ظله. لقد أطلقت الإقامة العامة له الحبل على الغارب، وجعلته إمبراطورا إقطاعيا مريبا في أعين القبائل التي كانت تحت وطأته، وخادما تافها وذليلا في أعين المستعمرين الذين كانوا يسخرونه. ويأتي مباشرة بعد الكلاوي، من حيث سلم الأهمية بالنسبة إلى الاستراتيجية المرسومة في إطار «سياسة القواد الكبار»، القائد سي بوشعيب الكندافي، الذي كانت قيادته لقبيلة كندافة تشكل ممرا استراتيجيا إلى منطقة سوس، بالإضافة إلى قبيلة جويد ميوة التي كانت تابعة له. ثم يأتي في الرتبة نفسها، تقريبا، القائد عبد المالك المتوكي، رغم بعض التحفظات التي كانت السلطات الاستعمارية تبديها بشأنه، وكان قائدا على قبيلة متوكة وحاحا والشياظمة وأجزاء كبيرة من القبائل المحاذية لمنطقة نفوذه. بينما شكل القائد العيادي بلهاشمي آخر حلقة في هذه السلسلة من القواد المتواطئين عن طواعية مع الحكم الاستعماري، وكانت قيادته تحدها جنوبا زاوية سيدي رحال حيث تبدأ قبائل كلاوة. كما كانت قبائل الرحامنة وأولاد سلامة وزمران والسراغنة كلها تحت نفوذه. أهداف سياسة التسخير يقول الكولونيل ماس لاترى في معرض دراسة خصصها للقائد الكندافي: «خلال سنوات طويلة كنا متريثين، وكان الجنرال ليوطي يردد دائما عبارة «جبهة غير مفتوحة». وبناء على هذه التعليمات شرعنا في نهج تلك السياسة الناجحة، التي مكنتنا من الاستغناء عن استعمال قواتنا الفرنسية واستبدالها بقوات أهلية تعمل لصالحنا في إطار ما أسميناه "سياسة القواد الكبار"". وبالنظر إلى الموقع الجغرافي الذي كانت تحتله قبائل أولئك القواد، حيث كانت تشكل بوابة الأطلسين الكبير والصغير، وبالنظر كذلك إلى العلاقات التي كانت تربط هؤلاء القواد شخصيا بأعيان قبائل منطقة سوس، فلكل هذه الاعتبارات، يقول ماس لاترى، لعبت قياداتهم «دور رأس الجسر ماديا ومعنويا بالنسبة إلى توغلنا. ولولا مساعدتهم لنا في جنوب الأطلس لما كنا لنقضي على الخطر الداهم الذي كان يشكله أحمد الهيبة». وكانت هذه الخطة بطبيعتها تتقاطع مع المحاور الكبرى، التي اعتمدها الاستعمار الفرنسي انطلاقا من زعمه تطبيق «معاهدة الحماية»، حيث إن الدعاية الكولونيالية كانت تحرص دائما على تقديم التواجد الفرنسي كتجسيد لإرادة المخزن، وعلى رأسه السلطان مولاي يوسف. وفي هذا الصدد وردت في رسالة للجنرال ليوطي في أبريل 1913 فقرات توضح تماما جوهر تكتيكه الاستعماري بالمنطقة حيث قال: «إن الجزء الأساسي من العمليات التي تقوم بها «حركات» سوس يعتمد حصريا على تدخل العناصر الأهلية التي تكافح لحساب مولاي يوسف ضد أحمد الهيبة. إننا قطعا لا نتدخل في هذه المواجهات حتى لا نعطي للمنشقين فرصة استغلال تدخلنا وجعلها ذريعة ملائمة لتعبئة تنظيماتهم الجهادية ضد النصارى (...) لهذا يجب الحرص كل الحرص ألا نتدخل في الوقت الراهن تدخلا مباشرا حتى لا نعرض «حركات» القواد الكبار للانتكاسة، لأن ظهورنا إلى جانبهم في حالة حدوث ذلك ستصبح انتكاستهم انتكاستنا نحن». ولكي يحقق المستعمر أعلى مردودية ممكنة لاستخدامه هؤلاء القواد، كان يعمل بطرق ملتوية على إشعال فتيل الكراهية والحسد فيما بينهم، ولكن ليس إلى درجة يصبح معها استغلالهم عديم الجدوى أو مثار قلق حقيقي على مستقبل الاحتلال بالمنطقة. والخطة التي كانت متبعة من طرف ليوطي هي تشجيعهم على تمتين روابط ولائهم للإقامة العامة، وتظاهر هذه الأخيرة بأنها كانت دائما مستعدة للوقوف إلى جانبهم. وفي بعض الأحيان كانت حدة الخصام والجفاء تصل إلى درجة تصبح فيها المواجهة القبلية بين القواد على حافة الانفجار، آنذاك تتدخل الإقامة العامة وتتظاهر بأنها تريد الخير للجميع، وتسعى إلى جبر الخواطر وتهدئة الأوضاع لما فيه المصلحة الشخصية لكل قائد على حدة. وكل إنجاز يحققه هذا القائد أو ذاك كان يحصل في مقابله فورا على التهاني والمزيد من الدعم المادي. وهكذا جاء في رسالة بعثها ليوطي إلى التهامي الكلاوي بتاريخ 12 ماي 1913 ما يلي: «لقد علمت بنجاحكم الباهر يوم 7 ماي على الموالين للهيبة، وبعد هزمكم لهم فرضتم عليهم الخضوع للمخزن. بل أكثر من ذلك استطعتم أن تضموهم إلى صفوفكم لمتابعة العمليات التي تقومون بأدائها أحسن أداء. وإنني بهذه المناسبة أبعث إليكم بأحر التهاني. إن هذه النتائج الأولية جعلتني واثقا من الانتصار النهائي. واعلموا أنني أعطيت الأوامر اللازمة بتزويدكم في أقرب وقت بما تحتاجونه من الذخيرة". ولولا "سياسة القواد الكبار" لانهار سقف نظام الحماية على رأس ليوطي إبان الحرب العالمية الأولى، وقد اعترف بنفسه بذلك عندما بعث برقية إلى باريس بتاريخ 3 يناير 1915 موضحا فيها أن أمن منطقة الجنوب المغربي بكامله كان في أيدي ستة قواد: حيدة ومويس في تارودانت، والمتوكي والكندافي في إقليم سوس، والمدني الكلاوي في الأطلس، والتهامي الكلاوي في مراكش، والعيادي في سهول الرحامنة. وأضاف مؤكدا: "إنني أعتمد فعليا على القواد الكبار، وألاحظ أنهم يسيطرون على واجهتي الأطلس، بالرغم من العجز المفرط في أعداد قواتنا المرابطة هناك، إذ لم تبق لدينا سوى كتيبة واحدة من السنغاليين ووحدات احتياط ضعيفة...". لم تنته «سياسة القواد الكبار» في صيغتها الليوطية حتى عام 1929، أي سنة واحدة قبل استصدار الظهير البربري. وطيلة تلك السنوات لم تكن السلطات الاستعمارية لتكترث بتطبيق سياستها البربرية في المناطق الجنوبية، وكانت تتغاضى -بنوع من الابتهاج- عن كل التجاوزات الخطيرة للعادات والتقاليد البربرية التي كانت شرذمة تلك القواد تدوسها تحت أقدامها. *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة - طنجة