يسود الاعتقاد عند المثقفين عموما، بل حتى عند بعض الباحثين المتخصصين، بأن الحديث عن المسألة الأمازيغية إبان عهد الحماية إنما يعني أساسا الظهير البربري بتاريخ 16 مايو 1930. وهذا الاعتقاد خاطئ لا محالة؛ لأن ظهير 1930 لم يكن في الواقع إلا تتويجا ونتيجة حتمية لمسلسل بدأت الإيديولوجيا الكولونيالية في رسم حلقاته منذ أمد بعيد، وهو ما يسعى إلى تبيانه الدكتور الطيب بوتبقالت في السلسلة الرمضانية لهذه السنة. 30/27 .. المشروع التنصيري سطحية إسلام البرابرة، عداوتهم الأزلية للسلطة المخزنية، نفورهم من اللغة العربية، أصولهم اللاتينية شبه المؤكدة، هويتهم المسيحية القديمة، انتماء القديس أغسطين إليهم، بشرتهم ولون عيونهم، كلها مؤشرات دامغة على قابليتهم للرجوع إلى أصلهم الحقيقي الأوربي المسيحي. هذه في مجملها هي المحاور التي كانت تعتمدها الدعاية المسيحية في تعاملها مع المجتمع الأمازيغي الشمال إفريقي عموما. وها قد تم استعمار المغرب، فلماذا لا تتأجج نار التبشير المسيحي، وتقوم بما كانت دائما تقوم به تحت غطاء الحذر والسرية منذ ظهور الإسلام في هذه المنطقة بالذات؟ إنها أسئلة لم تعد للنقاش أو للدعاية الكلاسيكية، إذ تعالت الأصوات الكاثوليكية منادية بالشروع في تنصير البرابرة تنصيرا مستعجلا وشاملا. نعم، كان هناك بعض المتشككين في مدى فاعلية وجدوى مشروع تنصير البرابرة، وهم في أحضان جمهورية علمانية ليس للدين في مرجعيتها السياسية ذلك الدور الذي يلعبه في الأنظمة التيوقراطية، سيما أن فرنسا أعلنت منذ مطلع القرن العشرين فصل الدين عن الدولة، ناهيك عن تصاعد التيارات اليسارية والشيوعية الإلحادية، التي كانت تهز حلبة الصراع الإيديولوجي في أعماق المجتمع الفرنسي. وفوق هذا وذاك ألم تلتزم فرنسا باحترام و«حماية» الإسلام بموجب مقتضيات معاهدة فاس؟ وهنا تجدر الإشارة مرة أخرى إلى أن ليوطي، من خلال سياسته الدينية الماكرة، استطاع أن يحافظ على نوع من التوازن بين الحماس التبشيري للأوساط الكاثوليكية من جهة، وضرورة ظهور فرنسا في المغرب بمظهر الدولة التي تعهدت بما تعهدت به من «إصلاحات» لم يكن الدين فيها من بين الأوراش التي ينتظر فتحها، من جهة أخرى. لم تكن البراغماتية الكولونيالية لتكترث بهذا الطرح، خاصة في سياق الحركة الاستعمارية التي لا يهمها إلا تحقيق الأهداف العملية. ودعما لهذا التوجه تحالفت هذه الأخيرة تحالفا موضوعيا مع الحركة التبشيرية، بدليل أن ما كان يجمعهما أكثر بكثير مما كان يفرقهما، وفعلا فرضت الواقعية الكولونيالية على الحركتين التوافق المنهجي المبني صراحة على المنفعة المتبادلة. توزيع النفوذ الديني بين فرنسا وإسبانيا منذ القرن الثالث عشر كانت جماعة الفرنسيسكان الإسبانية وحدها التي تتوفر على ترخيص رسمي من الفاتيكان لممارسة العمل التبشيري بالمغرب، ولما وجد ليوطي هذا الوضع رأى فيه مسا بالسيادة الفرنسية في منطقتها المغربية، وخطرا على تنظيم سياسته الدعائية. إذ لم يكن يعقل، في نظره، أن يبقى الوضع التبشيري كما هو عليه، ومنطقيا ما دام المغرب محتلا من طرف دولتين مسيحيتين، فإن استمرار وجود رجال الكنيسة الإسبان في منطقة الحماية الفرنسية لم يعد له ما يبرره، وحتى إذا كان لا بد من فرنسيسكان، فلماذا لا يكونوا من جنسية فرنسية؟ هذه الإشكالية شغلت بال ليوطي منذ الأيام الأولى لقيام نظام الحماية، وبعد أخذ ورد وجد لها حلا في إطار المعاهدة الفرنسية- الإسبانية الموقعة بتاريخ 27 نونبر 1912. إنها الوثيقة التي رسمت الإطار الملائم لمنظور ليوطي، حيث نصت مادتها الثامنة على ما يلي: «تتعهد حكومة صاحب الجلالة ملك إسبانيا، فيما يخصها، على القيام بكل ما من شأنه أن يضع حدا لاستمرار الامتيازات التي يتمتع بها حاليا الإكليروس الإسباني القانوني وغير القانوني في المنطقة الفرنسية، غير أنه في هذه المنطقة بالذات تحتفظ الإرساليات الإسبانية بمؤسساتها وبممتلكاتها الحالية، ولا تعترض حكومة جلالة ملك إسبانيا على تعيين رجال الدين من جنسية فرنسية بها. ويعهد إلى رجال الدين الفرنسيين بالإشراف على المؤسسات الجديدة التي تؤسسها هذه البعثات». وبناء على هذه المعاهدة أصدر رئيس الجمهورية الفرنسية يوم 5 ماي 1913 مرسوما منظما لهيئة الإرشاد العسكري ومحددا لطبيعة نشاطها داخل الجيش. وفي هذا السياق أبرق وزير الحربية إلى الجنرال ليوطي موضحا: «إن الرهبان، سواء تعلق الأمر بأولئك الذين يقدمون مساعفات دينية لجنود قوات الاحتلال داخل الثكنات أو ضمن الكتائب، يجب أن يخضعوا مسبقا لموافقتكم». وبهذا يكون الجنرال ليوطي قد أفلح في وضع الإطار القانوني الذي بواسطته سيتمكن من مراقبة الأنشطة الدعائية الكاثوليكية، ويضبط تحركات عناصرها، ليس داخل الحاميات العسكرية فحسب، بل حتى داخل المجتمع الأوربي الناشئ، وفي أوساط الأهالي المغاربة المغلوب على أمرهم. ومما تجدر الإشارة إليه في ميدان السياسة الدينية التي قادها ليوطي أنه تمكن بعد الحرب الكبرى من إخفات أبواق الدعاية الصهيونية التي استهدفت اليهود المغاربة، والتي كان يقودها ناحوم سلوش، حيث إن الإقامة العامة لم تمنعها، وإنما طلبت من مؤطري اليهود المغاربة أن يلتزموا السرية والحيطة، من أجل الحفاظ على الأمن العام بالمفهوم الاستعماري. وكان الزاكوري هو المستشار الخاص للجنرال ليوطي في كل ما يتعلق بقضايا الطائفة اليهودية المغربية. تصاعد حركة التبشير بدأت الظروف الموضوعية تتوفر تدريجيا أمام الدخول الوشيك لمشروع تنصير البرابرة حيز التطبيق. ومع نهاية 1916 كانت منطقة الحماية الفرنسية موزعة إلى عشرة مراكز للإرشاد الكاثوليكي، التابع لجماعة الفرنسيسكان الفرنسيين، وهذه المراكز هي: الدار البيضاء، مراكش، مكناس، فاس، قصبة تادلة، وجدة، بركان، تاوريرت، كرسيف. وفي مطلع العشرينيات كان الإكليروس الفرنسي يشرف على أكثر من أربعين كنيسة تم بناؤها في منطقة الاستعمار الفرنسي، التي كان يطلق عليها اسم المنطقة السلطانية، ولم يحدث أي تعارض يذكر فيما يتعلق بالعمل التبشيري والعمل الكولونيالي في مغرب الربع الأول من القرن العشرين، بل على العكس من ذلك تضافرت جهود كل أطراف المؤسسة الاستعمارية في المغرب وفرنسا على السواء. لقد جاء في تقرير أعدته لجنة الشؤون الخارجية التابعة للجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي)، وقدمه النائب موريس باريس في جلسة 4 فبراير 1924، فقرة تدعم بكل وضوح العمل التبشيري بالمغرب: "إنه من الضروري، على سبيل التغلغل الفرنسي، أن تؤسس مراكز تبشيرية في كل من وزان، سوق الأربعاء، مشرع بلقصيري، سيدي سليمان، وادي زم، خريبكة، ابن أحمد، سطات، برشيد، أكادير". وهكذا ارتفع عدد المبشرين الفرنسيين إلى حوالي 200 راهب، تمثل الراهبات ضمنهم أكثر من النصف. وينضاف إلى هذا العدد الرهبان الإسبان الذين لم يغادروا المراكز الساحلية (آسفيوالجديدة). فيما انطلقت حركة تأسيس المدارس المسيحية، ومن بينها مؤسسات تحمل اسم المستكشف الجاسوس شارل دو فوكو. كما أحدثت مؤسسات اجتماعية وطبية عديدة، وكانت كلها تحت إشراف وتدبير هيئات التبشير. وتأسست سنة 1921 مجلة تحمل عنوانا دالا على خطتها التحريرية، هو «المغرب الكاثوليكي»، وكانت تلعب دور المنبر الرسمي لحركة الكاثوليك بالمغرب، واتضح جليا من توجهات رجال الكنيسة أنهم دخلوا مرحلة التبشير المباشر، ولم يعودوا قادرين على كتمان سر طالما ظل سجينا في مخيلتهم، فبادروا إلى إطلاق سراح مشاعرهم الصليبية، مستهدفين كل شرائح المجتمع المغربي. أبعاد المشروع التنصيري وثماره الأولى في يوم 16 يوليوز 1916 هاجم مقاومون من قبائل الطوارق الجزائرية قلعة في تامنراست كان المستكشف شارل دو فوكو قد اتخذها مقرا له، فقتلوه. إنه المستكشف نفسه الذي تجول في مناطق مغربية لأغراض استخباراتية سنة 1883، وكان متخفيا في زي يهودي جزائري. بعد ذلك بأعوام قليلة ذاع صيته كمتصوف مسيحي، وبدأ يهتم بتنصير قبائل إفريقيا الشمالية، وقد كانت تربطه بالجنرال ليوطي علاقة شخصية مباشرة على خلفية من التفاهم الكولونيالي. وكتكريم لهذا الجاسوس أقام ليوطي تذكارا له بمدينة الدار البيضاء، وكانت الحركات التبشيرية الكاثوليكية تعترف له بالجميل وتتخذه قدوة في ممارسة العمل التنصيري. لقد كتب هذا المبشر الجاسوس رسالة إلى صديقه روني بازان يحلل فيها نظرته المستقبلية لأبعاد المشروع الرامي إلى تمسيح الأهالي الذين وقعوا في قبضة الاحتلال الفرنسي بالغرب الإفريقي. ومما جاء في الرسالة: "تقطن منطقة الشمال الغربي الإفريقي ساكنة يصل تعدادها 30 مليون نسمة، والتي بفضل الاستقرار ستتضاعف خلال الخمسين سنة القادمة، وستكون عندئذ هذه المنطقة في تقدم مزدهر، حافلة بخطوط سككها الحديدية، وغنية بسكانها المتدربين على حمل السلاح، والذين من بينهم تبرز عناصر نخبوية تعلمت في مدارسنا، وإذا لم نستطع أن نجعل هذه الشعوب شعبا فرنسيا، فستطردنا بدون شك، لهذا فالسبيل الوحيد لكي يصبح هؤلاء السكان فرنسيين هو تنصيرهم". ما قاله شارل دو فوكو هو بالضبط ما كانت تروج له الدعايات الكولونيالية على اختلاف ألوانها ومشاربها. والملاحظ أنه بعد فشل الثورة الريفية انتعش المد الكولونيالي بصفة عامة، والمد التنصيري بصفة خاصة. وفي هذا السياق نشرت جريدة "لوتان" الفرنسية بتاريخ 29 يوليوز 1926 مقالا لمراسلها في روما، وكان يتعلق بمستقبل الديانة المسيحية في مغرب ما بعد الحرب الريفية، جاء فيه: «إن انهزام عبد الكريم، وما تلاه من اتفاقيات فرنسية إسبانية متعلقة بالمغرب، هو وضع جديد سيؤدي إلى النظر في تدبير الشؤون الدينية بمنطقة الريف (...) وبهذا الصدد فإن البابا، بي الحادي عشر، وفاء منه لنية غالبا ما عبر عنها، وهي تأسيس إكليروس محلي في البلدان الخاضعة للتبشير، سيعمل كل ما في وسعه لتطبيق هذا النظام في المغرب. وهذا ما سينجم عنه إضعاف لمقاومة السكان الأصليين، مع إعطاء الكاثوليكية جذورا محلية. وسيؤدي ذلك طبعا إلى مطالبة السلطات (الاستعمارية) بحماية رجال الدين المسيحيين من أصول محلية، وبالتالي ضمان استمرارية الديانة المسيحية في البلاد. إن التجربة المؤلمة للمبشرين الأجانب في المكسيك تفيد في هذا الباب". ويبقى اعتناق محمد بن عبد الجليل المسيحية من أبرز الأحداث التي هزت الرأي العام المغربي في نهاية العشرينيات. لقد التحق الطالب محمد بن عبد الجليل سنة 1928 بباريس ليتابع دراسته بالمدرسة الوطنية للغات الشرقية. وكان قبل ذلك بسنتين تلميذا داخليا بمؤسسة شارل دو فوكو الفرنسيسكانية بالرباط. ويبدو أن لويس ماسينيون، المستشرق المعروف، لعب دورا هاما في دخول ابن عبد الجليل المسيحية وتخليه عن الإسلام. وطبعا استنكرت كل الأوساط المسلمة المغربية هذا الحدث، واعتبرته من النتائج المباشرة للعمل التبشيري الذي وجبت مقاومته. وعبرت الإقامة العامة بدورها عن انزعاجها لما خلفه هذا الحدث من ردود فعل وتذمر في الأوساط المغربية المحافظة، وصرح المقيم العام ستيج الذي خلف ليوطي قائلا: «إن فرنسا كانت دائما تتعهد باحترام دين وتقاليد هذا البلد». واهتزت جامعة القرويين وأصيبت بعض الأسر الفاسية العريقة بالإحباط وخيبة الأمل. وعلى إثر ذلك كشفت الإقامة العامة عن وجود خطة لديها، قالت عنها إنها ترمي إلى إعادة الثقة وتفادي انزلاقات العمل التبشيري، وكان ما هو آت أخطر بكثير مما فات. *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة – طنجة