منير شنتير يخلف المسعودي بجماعة تازة    جمعية الطلاب المغاربة في إسبانيا ترى النور بمدريد    لوديي يشيد بتطور الصناعة الدفاعية ويبرز جهود القمرين "محمد السادس أ وب"    مكتب الصرف يطلق خلية خاصة لمراقبة أرباح المؤثرين على الإنترنت    حماس "مستعدة" للتوصل لوقف لإطلاق النار    زخات مطرية مصحوبة بتساقط الثلوج ورياح عاصفية قوية اليوم وغدا بعدد من الأقاليم    جثة عالقة بشباك صيد بسواحل الحسيمة    "السودان يا غالي" يفتتح مهرجان الدوحة    مهرجان الفيلم بمراكش يكشف عن قائمة الأسماء المشاركة في برنامج "حوارات"    جلالة الملك يهنئ الرئيس الفلسطيني بمناسبة العيد الوطني لبلاده و جدد دعم المغرب الثابت لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة        هذه اسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    قتلى في حريق بدار للمسنين في إسبانيا    اقتراب آخر أجل لاستفادة المقاولات من الإعفاء الجزئي من مستحقات التأخير والتحصيل والغرامات لصالح CNSS    المركز 76 عالميًا.. مؤشر إتقان اللغة الإنجليزية يصنف المغرب ضمن خانة "الدول الضعيفة"    كارثة غذائية..وجبات ماكدونالدز تسبب حالات تسمم غذائي في 14 ولاية أمريكية    الطبيب معتز يقدم نصائحا لتخليص طلفك من التبول الليلي    "خطير".. هل صحيح تم خفض رسوم استيراد العسل لصالح أحد البرلمانيين؟    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    التوقيت والقنوات الناقلة لمواجهة الأسود والغابون    وكالة الأدوية الأوروبية توافق على علاج ضد ألزهايمر بعد أشهر من منعه    مدينة بنسليمان تحتضن الدورة 12 للمهرجان الوطني الوتار    بمعسكر بنسليمان.. الوداد يواصل استعداداته لمواجهة الرجاء في الديربي    ارتفاع كبير في الإصابات بالحصبة حول العالم في 2023    رصاصة تقتل مُخترق حاجز أمني بكلميمة    ترامب يواصل تعييناته المثيرة للجدل مع ترشيح مشكك في اللقاحات وزيرا للصحة    رئيس الكونفدرالية المغربية: الحكومة تهمش المقاولات الصغيرة وتضاعف أعباءها الضريبية    الأحمر يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    وليد الركراكي: مواجهة المغرب والغابون ستكون هجومية ومفتوحة    نفق طنجة-طريفة .. هذه تفاصيل خطة ربط افريقيا واوروبا عبر مضيق جبل طارق    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على الجزء الأول من مشروع قانون المالية 2025        الأردن تخصص استقبالا رائعا لطواف المسيرة الخضراء للدراجات النارية    فيضانات إسبانيا.. طبقا للتعليمات الملكية المغرب يعبئ جهازا لوجستيا مهما تضامنا مع الشعب الإسباني    تصريح صادم لمبابي: ريال مدريد أهم من المنتخب        10 قتلى جراء حريق بدار مسنين في إسبانيا    وفاة الأميرة اليابانية يوريكو عن عمر 101 عاما    أسعار النفط تتراجع وتتجه لخسارة أسبوعية    محكمة استئناف أمريكية تعلق الإجراءات ضد ترامب في قضية حجب وثائق سرية    النيابة العامة وتطبيق القانون    حرب إسرائيل على حزب الله كبدت لبنان 5 مليارات دولار من الخسائر الاقتصادية    "الأمم المتحدة" و"هيومن رايتس ووتش": إسرائيل ارتكبت جرائم حرب ضد الإنسانية وجرائم تطهير عرقي    جدعون ليفي يكتب: مع تسلم ترامب ووزرائه الحكم ستحصل إسرائيل على إذن بالقتل والتطهير والترحيل    اكادير تحتضن كأس محمد السادس الدولية للجيت سكي    عامل إقليم الجديدة يزور جماعة أزمور للاطلاع على الملفات العالقة    مثل الهواتف والتلفزيونات.. المقلاة الهوائية "جاسوس" بالمنزل    حوالي 5 مليون مغربي مصابون بالسكري أو في مرحلة ما قبل الإصابة    الإعلان عن العروض المنتقاة للمشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للمسرح    تمديد آجال إيداع ملفات الترشيح للاستفادة من دعم الجولات المسرحية    حفل توزيع جوائز صنّاع الترفيه "JOY AWARDS" يستعد للإحتفاء بنجوم السينماوالموسيقى والرياضة من قلب الرياض    أكاديمية المملكة تفكر في تحسين "الترجمة الآلية" بالخبرات البشرية والتقنية    الناقد المغربي عبدالله الشيخ يفوز بجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هكذا راهن الاستعمار على الأطباء والراهبات لاختراق المجتمع المغربي
تنوعت أنشطتهم بين التجسس والتبشير واستغلت حاجة المغاربة إلى التطبيب واتنشار الأمراض
نشر في المساء يوم 25 - 05 - 2014

في بداية عمله بالمغرب، بعث الماريشال ليوطي برقية، مخاطبا الطبيب «كالييني»: «أرسلوا لي أربعة أطباء، أرجع لكم أربعة فيالق»، لاشك بأن ليوطي «باني» المغرب الحديث، كان يعي جيدا الدور الطلائعي لسلك الأطباء في حملته الاستعمارية على المغرب، فإلى جانب الدور الاستخباراتي الذي لعبة هؤلاء، كان لهم بالغ الأثر في عملية التقرب من الأهالي، وضمان بيئة صحية سليمة لتحرك الجيوش الغازية.
كان المغرب قبيل الاستعمار، يعرف دورات مميتة من الأوبئة والقحط، كادت في العديد منها أن تدفع بالمغاربة إلى حافة الانقراض، لولا سياسة الحجر الطبي التي مورست منذ القدم لتطويق تلك الأمراض ذات الفتك الجماعي. لكن مع قدوم المحتل سواء الفرنسي في منطقة «المغرب النافع» أو الإسباني في المنطقة الخليفية، سوف تعرف الوضعية الصحية والغذائية للمغاربة تحولات جذرية، كان لها الأثر على التزايد المطرد في معدلات التكاثر الطبيعي وارتفاع عدد السكان، الذي كان مطلبا ملحا للرأسمالية الاستعمارية في بحثها عن «قوة عمل» بشرية لمشاريعها وطموحاتها التوسعية بالمغرب، لكن هذا النظام الصحي الاستعماري لم ينصب فقط على الجانب الصحي. بل شكل في عمقه تبني غير مشروط لمقومات الحضارة الغربية التي حملها الرجل الأبيض على فوهة مدافعه أحيانا، وعلى أكف الراهبات الممرضات أحيانا أخرى.
فإلى جانب الأطباء العسكريين، الذين اعتنوا بصحة الأهالي، -في تمييز واضح- عن الطب المدني الذي استفاد منه الأوربيون، كانت هناك جحافل من الراهبات، اللواتي اشتغلن بدورهن في قطاع الصحة العمومية بالمغرب، أغلبهن يتحدرن من كنائس كاثوليكية سواء فرنسية منها أو إسبانية، وقمن بدورهن الإنساني –المشوب بكثير من الغموض- في رعاية المغاربة وتحسين وضعيتهم الصحية والغذائية، وكذا الاندساس في أقصى المناطق الحميمة للمغاربة، ألا وهي أجسادهم وثقافتهم الصحية...
بالرغم من كل هذا، يحتفظ جل المغاربة بذكرى جد طيبة عن فترة التطبيب الاستعماري، وعن صرامة الطبيب الاستعماري وتنويه الراهبات للأمهات المعتنيات بصحة أولادهن. وذلك أمام الوضعية الكارثية التي يشهدها قطاع الصحة حاليا، والتي تلعب الأطقم الطبية دورا مركزيا في مآلاتها.
هذا، وأعادت قضية «المبشرات» اللواتي تم إيقافهن قبل مدة بعين اللوح، إلى الواجهة أنشطة البعثات التبشيرية بالمغرب، وتركيزها على المناطق الفقيرة النائية، مستغلة عوز وقلة يد السكان المحليين لبث دعايتها للمعتقدات النصرانية، والتي تتقدمها كنائس إنجيلية وبرتستانتية أمريكية في أعمها. وبغية الوصول إلى هذه الغاية نظم التنصيريون لقاء عالميا بمدينة «سياتل» بولاية واشنطن الأمريكية يومي 18 و19 شتنبر 2008 تحت شعار: «انهض وتألق أيها المغرب»، أطلقت خلاله مبادرة «السنة الدولية للصلاة من أجل المغرب» ''An international year of prayer for Morocco''، ونوقشت فيه إمكانيات العمل التنصيري بالمغرب وتقييم النتائج المحققة وتحسين وسائل الاشتغال في هذا المجال.
«المساء» تربط صفحات الماضي بالحاضر، مسلطة الضوء على إحدى أهم القضايا المتعلقة بالمغاربة وهي مسألة الصحة العمومية بالمغرب، ومختلف الرهانات «الاستعمارية» و«الإنسانية» و«الدينية» التي خضعت لها. فكيف استغلت الحملة الاستعمارية بداية القرن، أصحاب المهنة الرحيمة وملائكة الرحمة للتقرب من المغاربة والاختراق السلس لمجتمع الأهالي؟ وما هي أهم الآثار الاجتماعية والثقافية التي خلفها تبني الطب العصري بالمغرب؟ أسئلة ضمن أخرى يحاول الملف التالي ملامستها.
عندما شكلت البعثات التنصيرية طلائع الحملة الاستعمارية بالمغرب
بدأ عملها على التجسس قبل أن يطال المجال الطبي
لا يمكن الحديث عن فترة الاحتلال الفرنسي للمَغرب، دون الإشارة إلى حضور شخصية بارزة تركَت بصمات واضحة في منطقة شمال إفريقيا ككل، وهو المنصر الفرنسي شارل دو فوكو، الذي ساعد المحتل الفرنسي على التغلغل داخل المَغرب، وأمده بكل المعطيات الضرورية التي مكنته مِن التعرف على طبيعة تفكير المَغاربة، سيما وأن شارل دو فوكو كان يتنقل بين المدن المغربية، ويلتقي بسكانها، ويَكتشف نمط عيشهم...
شارل دو فوكو
اتضحت أساليب التبشير في المَغرب مع شارل دو فوكو (1858 - 1916م) الذي كان يسجل الأخبار والمعلومات-بدقة بالغة- لتبليغها إلى رجال الاستعلامات الاستعمارية، واهتم بالمغرب اهتماما كبيرا لبحث الوسائل التي تسهِّل التغلغل الاستعماري، فقد تنكر هذا المبشر في لباس يهودي، ذلك أن المغاربة اعتادوا رؤيةَ اليهود يوميا، ولأنهم يعاملونهم كمغاربة معاملة شرعية لائقة.
ومع دخول المغرب تحت نظام الحماية الفرنسية في 30 مارس 1912م، قسمت المملكة إلى ثلاث مناطق؛ فرنسية، وإسبانية، وثالثة دولية، وتبعًا لتلك التقسيمات توجَّب على الكنيسة التأقلُم مع أوضاع النفوذ المستجدَّة.
وهكذا نرى أن ظهور الحركات التنصيرية في الجنوب المغربي كان مبكرا، وارتبط بدخول المحتل إلى المغرب، وقد حاولت هذه الحركات استغلال كل الوسائل المتاحة لنشر المسيحية بين صفوف المغاربة المسلمين، ويَظهر ذلك من خلال نهجِهم الأسلوب غير المباشر، كافتِكاك الأَسرى المسيحيين، أو عن طريق الدبلوماسية، والأسلوب المباشر والمَكشوف، مثل دعوة المسلمين لاعتناق الدِّين المسيحي.
إن البعثات التنصيرية في الجنوب المغربي، تعكس جليا تاريخ التنصير في المغرِب بشكْل عام (جامع بيضا، الوجود المسيحي بالمغرب)، الذي يعتبر قضية بالغة التعقيد والصُّعوبة، ولا يُمكن بأي حال مِن الأحوال أن نتحدَّث عن واحدة منهما بمعزل عن الأخرى؛ ذلك أن المجموعات التنصيرية في المغرب كان جل أعضائها لا يَستقرون في مكان معين، بل كانوا يتنقلون بين مدن وقرى المغرب، مِن أجل القيام بمهمة التنصير، مما يجعل مسألة التحديد الزمني لدخول طلائع المنصرين إلى الجنوب المغربيِّ صعبةً للغاية.
اعتبر المغرب - ومازال - قلعةً حصينة للإسلام في وجه تيار التنصير، بسببِ موقعه الجغرافي القريب مِن أوربا، وارتباطه الوثيق بأصالته وثقافته التي يشكل فيها الإسلام عنصرا مركزيا، إلى جانب روافد ثقافية أخرى.
كل هذه العوامل السالفة شكلت منه قبلة لجحافل المنصرين الذين توافَدوا من مختلف بلدان العالم نحو بوابته، محاولين اختراق ثقافته التي ظلت مُتماسِكًة على مدى قرونٍ ماضية، قصد تحطيم هذه المقوِّمات الثابتة، وقد سخَّرت الكنائس العالمية كل الوسائل المُمكنة لتحقيق أهدافها المُسطرة في المؤتمر الشهير الذي عقد في ولاية كولورادو بالولايات المتَّحدة الأمريكية عام 1978م، ولعل مِن أهم هذه الأهداف التي وضعها القساوسة نصب أعينهم تحويل أكبر عدد مُمكن من المسلمين إلى الديانة المسيحية.
تاريخيا، يعتبر وصول خمسة من الفرنسيسكان للمغرب بداية القرن الثالث عشر الميلادي، ومحاولتهم إدخال المغاربة المسلمين في الديانة المسيحيَّة، أقدم بعثة تبشيرية وصلت للمغرب، حيث انتشار جماعة الفرنسيسكان على عهد الناسك فرنسوا داسيز Françoisd'Assise 1226- 1182م.
ويؤكد بعض الباحثين أنه ابتداء من هذا التاريخ اتجهت أوربا نحو طريقة جديدة للقاء المسلمين، تمثَّلت في محاورتهم مباشرة ودعوتهم للمسيحية، وعدم الاقتصار على المواجهة الحربية التي كانت تُعتبَر الطريقة الوحيدة للقائهم، وفي هذا السياق كانت تَندرِج محاولة فرنسوا داسيز مؤسِّس النِّحلة الفرنسيسكانية زرع الكنائس، وإرسال البعثات التبشيرية للبلدان الإسلامية، وذلك بهدف تهيئة أسباب الانتصار للحروب الصليبية.
وتشير بعض المصادر إلى أنه في عام 616 ه / 1219م أرسل القدِّيس فرانسيس إلى مراكش عددًا من المنصِّرين، ولكنهم توفُّوا جميعًا في المدينة وقد أدركت الكنيسة طوال الفترة الممتدَّة مِن القرن الثالث عشر الميلادي وإلى عصرنا الحالي أن المواجهة المباشرة تؤدِّي إلى تمسك المسلمين أكثر بدِينهم. (بديعة الخرازي، تاريخ الكنيسة النصرانية في المغرب الأقصى).
واصل التيار التنصيري عمله في المَغرب، واتَّخذ جميع الوسائل الممكنة لتحقيق هدفه المَنشود، ألا وهو تثبيت الدين المسيحي ونشرُه في هذا البلد، وتمثَّل هذا الأمر في استغلال الفاتيكان لمؤتمر مدريد، الذي عُقد للنظر في مُشكلة الحماية القُنصليَّة، ووجَد فيه الفرصة السانحة لطرح مسألة حرية التديُّن في المغرب. (محمد السروتي، التنصير في المغرب المفهوم والتاريخ والوسائل).
فقد جاء في رسالة مؤرَّخة في خامس ماي 1880 من ديوان الفاتيكان إلى سفير النِّمسا: يطلب مِن الدوائر العليا للدول الكاثوليكية أن تتبنَّى - خلال المؤتمر - توصية حول الحرية الدينية بالمغرب، وأن قداسة البابا يَفرض عليه واجبه الدِّيني الاهتمام بكل أمر قد يُفيد في تعزيز المصالح الدينية.
لم يَقتصِر الأمر على المجموعات الكاثوليكية فحسب، بل شهد المغرب حضورًا مبكِّرًا للبروتستانت، يعود إلى 1839 و1847م، لكن نشاطهم باتَ أكثر تنظيمًا وفاعلية بحلول الراعي كريغتون جنسبيرغ، الروسي الأصل، والبريطاني الجنسيَّة، بأكادير، حيث ضمَّ إلى جانبه فريقًا من المبشِّرين المتحمِّسين. (عز الدين عناية، نحن والمسيحية في العالم العربي وفي العالم)
لقد توالت الحملات التنصيريَّة على الجنوب المغربي، فقام البروتستانت بتوزيع الأناجيل، بلغت أعداد النُّسَخ الموزَّعة شهريًّا بمراكش وحدها ألف نسخة، وجرَت الاستعانة بعشرات المَغاربة في التوزيع، كما سعَوْا إلى تقديم بعض الخدمات الصحية والاجتماعية.
الأطباء المبشرون الدينيون
عندما تطلب التغلغل الأوربي المتزايد، عملا يتعدى حدود البلاط والدبلوماسية، وعندما أصبح التجسس والدعاية بين جمهور السكان ضروريين، تسلم البريطانيون الزمام، فكانت جمعياتهم التبشيرية هي السباقة للقيام بعمل جماهيري منهجي. لقد اضطرت هذه الجمعيات إلى إخفاء نشاطات المبشرين بسبب عداء المسلمين المعروف للتبشير المسيحي، واختارت الطب كمصدر للإغراء، وجندت غالبية المبشرين في المغرب، إما من الأطباء المتمرسين أو من الذين حصلوا على تدريب طبي قبل إرسالهم إلى ميدان العمل .
وإذا كانت بداية العمل التبشيري متواضعة، فانه قد نما بسرعة، حوالي 1885. فبعد عشر سنوات كانت هناك ست جمعيات تبشيرية تضم حوالي خمسة وسبعين مبشرا. وقد بدأ واحد من أوائل المبشرين الذين وصلوا إلى المغرب، وهو الدكتور « تشر تشر « عمله في طنجة، حيث أقام المقرات العامة لبعثة شمال إفريقيا، وساعد على توجيه المجندين التبشيريين الجدد. وبعد أن قضى سبع سنوات في طنجة، أقام في فاس مركزا تبشيريا متقدما. أما الدكتور «روبيرت كير»، وهو من الذين وصلوا مبكرا أيضا، فقد جمع بين عمله التبشيري والدعاية النشيطة للتوسع الإمبراطوري بين المستمعين إليه في البيوت، وكان يخبر قراءه في البلد الأم بأن الطب مفيد حيث أنه «يفتح العديد من الأبواب الموصدة في وجه الآخرين».
تمركز أغلب العمل التبشيري في العيادات الطبية – التبشيرية الصغيرة المقامة في المدن الكبرى، حيث يتجمع السكان المحليون من أجل العلاج، ولكنهم ينبغي عليهم أن يستسلموا لإرث ديني روحي، وكمثال على ذلك، فقد رتبت إحدى الجمعيات الأمر كالتالي: عندما يدخل الناس للعيادة، يجلسون في أحد جوانب الغرفة الرئيسية، وبعد أن يستمعوا إلى قراءة الإنجيل، يمكنهم أن ينتقلوا إلى الجانب الآخر حيث يجري الفحص الطبي. وقد وصفت الصحيفة التبشيرية البريطانية «الرّبير» الطب «كوسيلة لاجتذاب السكان البالغين وحملهم على الاستماع إلى الإنجيل»، وحسب رأيها، فإن للطب ميزة أخرى، إذ أنه يجتذب المتبرعين بالمال في البلد الأم، الذين يفضلون الإنسانية الطبية على الإقناع الديني .
زار المبشرون الطبيون أيضا التجمعات الريفية المجاورة، وحاول بعضهم الإقامة الدائمة في بعض المناطق. إن هذا الاندفاع نحو الريف، جاء نتيجة لإستراتيجية مدروسة بخصوص شمال إفريقيا. فالشعوب التي تتكلم البربرية، كانت تعتبر عرقيا وثقافيا أكثر تقبلا للنفوذ الأوربي. وهكذا فقد ترجم بعض المبشرين المتحمسين نصوصا إنجيلية إلى عدة لهجات بربرية، آملين أن ينقلب البعض منهم على الإسلام. ولكنه ثبت أن التغلغل في الريف كان خطيرا وصعبا في آن واحد، إذ أن البربر لم يلتفوا حول الإنجيل، مما أدى إلى انحصار النشاط التبشيري في المناطق الريفية. وبالرغم من أن عدد المنقلبين عن دينهم كان ضئيلا وسط سكان المدن، فإن ذلك لم يمنع من النمو السريع للنشاطات التبشيرية، ذلك لأن التجربتين الحضرية والريفية، منحتا للمبشرين فرصة غنية لدراسة الظروف الاجتماعية والاتجاه السياسي للسكان، وتمكنت الدبلوماسية البريطانية من الاستفادة من المقالات المفصلة والتقارير المرسلة إلى المقرات التبشيرية المركزية بلندن.
أطباء ليوطي
يعود الفضل في تطوير «الطب إبان فترة «التهدئة» (1907-1936) إلى « المارشال ليوطي « عبر الأطباء «وكلاء التهدئة» الاستعمارية، حينما أمر القوات الغازية الأولى، بالحرص على تطبيق البرنامج الجديد حول الوحدات الصحية المتنقلة، وكانت خطة « ليوطي « هي فصل الأطباء العسكريين عن مسؤولياتهم الاعتيادية ( العناية بالجنود والجرحى والمرضى ) وتنظيمهم داخل وحدات يمكنها التحرك بشكل مستقل عن الجيش، فتستطيع بهذه الطريقة أن تندفع في الأراضي غير المحتلة، وتهيئ السكان للاستسلام، وذلك باستخدام العناية الصحية. وصف «ليوطي» هذه الوحدات فيما بعد بما يلي: «جنود سلميون قلائل يزحفون باستمرار ويتغلغلون إلى أبعد المناطق، وداخل مناطق الجماعات المشبوهة جدا، ونحن ندين لهم بعلاقات عديدة، وبالتعاطف معنا وحتى بالاستسلام لنا».
لم يتوفر «لليوطي» في الطور الأول لا الوقت ولا الأيادي العاملة الطبية لإقامة برنامجه بالكامل، غير أنه مع ذلك نقل الأطباء فورا إلى طليعة الجيش الغازي، والتحقت مجموعة الإسعاف بطوابير الاستطلاع، وقامت بعمليات في الأراضي المعادية لعرض حسن نية الفرنسيين، وإغراء القادة المحليين بإجراء المفاوضات. وأرسل «ليوطي» الأطباء في بعثات الاستخبارات العسكرية إلى داخل البلاد ليصرف الانتباه عن بعثات الاستخبارات، ولتجميع المعلومات ذاتها من المرضى، وانتقلت وحدات طبية كاملة لوحدها إلى أراضي غير محتلة .
كانت المناطق غير الخاضعة، جبال وصحاري بشكل رئيسي، قد شهدت مقاومة رائعة على شكل حرب العصابات، وبدأ دور فرق التهدئة أولا حملة في الأطلس المتوسط (1918 – 1920) ثم في الريف (1920 – 1926) وأخيرا في الأطلس الكبير والأطلس الصغير والصحراء (1931 – 1934) . ويرى « ليوطي «أن دور الأطباء كان ثمينا، إن لم نقل جوهريا في كل الانتصارات العسكرية، واحتلت الشخصيات الطبية القيادية في هذه الحملات مثل الدكتورين «كولومباني» و«شاتينيير» مواقع بارزة في التاريخ الاستعماري الفرنسي .
يقول «ليوطي» في خطاب ألقاه في مؤتمر طبي ببروكسيل سنة 1926: «في اليوم الذي تقرر فيه إحدى الشخصيات البارزة، أو زعيم ما، أو أي شيطان أو مريض أن يرى طبيبا فرنسيا ثم يترك عيادته وهو مشافى، يذوب الجليد، وتتم الخطوة الأولى وتبدأ العلاقة في أخد مسارها ..... من المؤكد أن للتوسع الاستعماري جوانبه الصعبة، فهو لا يرقى عن اللوم، أو أنه ليس دون نقائص. ولكن إذا كان هناك شيء يضفي عليه الشرف ويبرره فهو عمل الطبيب، عمل يفهم كتبشير ورسالة إلهية».
إن تصريحات «ليوطي» وأتباعه تحتوي على جرعة كبيرة من الأسطورة الاستعمارية، ذلك أن تصريحات بعض القادة العسكريين الأكثر جرأة توضح حدود التهدئة الطبية «السلمية» وتفضح الوحشية التي تعمل بها . إن كتاب تاريخ حياة الجنرال « غيرو « يسجل وثائق التدمير والتقتيل وحرق المدن وإبادة السكان المحليين. كما عبر الجنرال «غيوم» عن شكوكه حول تصريحات «ليوطي» ومعاونيه حول عملية «التهدئة السلمية « : « قبل الفشل النهائي الكامل للعمل السياسي لهذا المد أو ذاك، هناك حاجة للعمل العسكري لتحطيم مقاومة القبائل العنيدة بالقوة. ليس هناك قبيلة واحدة تتحول نحونا ذاتيا، ولم تخضع أية واحدة دون قتال، وبعضها قاومت حتى استنفدت آخر وسائل مقاومتها. إن صيغ « ليوطي « الداعية إلى « إظهار القوة لتجنب استخدامها « لا يمكن أن تطبق بشكل مناسب على السكان المصممين على الدفاع عن استقلالهم إلى الحد النهائي «. لقد مات مائة ألف مغربي، وعشرون ألف جندي فرنسي في هذه المجزرة الاستعمارية .
عمل إنساني، ولكن...
أقامت سلطات الاحتلال ترتيبات صحية أكثر ثباتا على الأقل في تلك المناطق التي توقعت وجود الأوربيين فيها، فأنشأت المستوصفات والعيادات ومستشفيات صغيرة حسب أهمية مراكز الاستيطان والمناطق، واهتم الأطباء في الوقت ذاته بالعمل الدعائي بين السكان المغاربة المحليين لمحاولين إقناعهم بقبول الحكم الاستعماري .
قدمت الخدمة الصحية عناية جيدة للمستوطنين وأخرى سيئة للمغاربة. فاستمر الأطباء العسكريون في العناية بالمغاربة، بينما راعى أطباء الخدمة المدنيين المستوطنين، وهذا يعكس نظام الأولويات المتبع لكل من السكان: رقابة سياسية في حالة، ورقابة صحية في أخرى .
لم تغط الخدمة الصحية، باستثناء المدن الرئيسية ذات التمركز الكبير للمستوطنين، إلا جزءا ضيقا في غالبية البلاد، فقط هناك مستوصفات يزاول فيها الأطباء بالتناوب، كما كانت هناك وحدات متنقلة بين القرى والأسواق. ومن المهام الأخرى الموكولة إلى هؤلاء الأطباء جمع المعلومات والعمل كحرس متقدم لمكتب شؤون السكان المحليين. وهكذا رسموا خرائط المناطق الريفية، وقدروا عدد السكان والموارد الطبيعية، وأحصوا الآبار والقرى وطرق المواصلات، وأكثر من ذلك أهمية، كان الحصول على معلومات حول التركيبات السياسية التي يمكن أن تلعب كأساس للسيطرة السياسية الاستعمارية .
أما في المناطق الأكثر استقرارا من الناحية السياسية، فقد قام ضباط شؤون السكان المحليين بنشاطات الاستخبارات هذه، بينما اهتم الأطباء بالدعاية وبتقديم العناية الصحية للطبقة العاملة المغربية الناشئة. وقد وصف الدكتور « كولومباني « هذه العملية سنة 1932، بأنها مزدوجة: إنسانية ونفعية، إذ يقول: « الهدف الإنساني يعني التأكيد منذ البداية على دورنا كرسل للحاضرة .... والهدف النفعي هو المحافظة بكل الوسائل التي تحت تصرفنا، على رأس المال البشري المحلي من أجل أن نحصل من العمل على أعلى ما يمكن من الإنتاج . إن مستلزمات ذلك تفرض نفسها منذ البداية من أجل بناء البلد المحتل الجديد».
مستشفيات استعمارية من ثلاث درجات
في سنة 1923 قضى وباء شديد على مئات الألوف من المغاربة، مما أدى إلى ارتفاع الأجور، فهلع الرأسماليون الاستعماريون من هذا التهديد لأرباحهم، مما دفعهم إلى الضغط على السلطات لتخصيص ميزانيات إضافية للخدمات الصحية . إلا أن نقص اليد العاملة لم يدم طويلا، فقد استفاد المغاربة من برنامج القضاء على الأمراض المعدية، فانخفض معدل وفيات الأطفال، وأصبح أحسن من مثيله في مدينة كبيرة كباريس، وتضاعف عدد المغاربة ثلاث مرات خلال الحقبة الاستعمارية. ولما استمر انتزاع ملكية الأرض، تدفق مئات الألوف من الفلاحين المهجرين إلى المدن باحثين عن عمل مأجور، فلم يعد لدى السلطات الاستعمارية أي حافز لتحسين الخدمات الصحية، فسمح ذلك في سنة 1928 لوباء آخر أن يأخذ طريقة للفتك بالسكان المحليين؟
بنيت المستشفيات في المدن الكبرى حيث تركزت أغلب مصادر الخدمات الصحية، التي لم تكن في متناول «الأهالي» الذين يقطنون في المناطق الريفية، حيث فرض الأطباء الأجر كمقابل للعلاج، وباعوا أدوية الخدمة الصحية التي كان من المفروض توزيعها مجانا، بتواطؤ مع أعوان المخزن المحليين.
كذلك، لم تكن المستشفيات في المدن مفتوحة أمام الجميع على قدم المساواة، حيث أقامت السلطات المحلية مستشفيات من ثلاث درجات تحت ذريعة مراعاة العادات المختلفة. كانت هناك خدمات منفصلة للأوربيين واليهود والمسلمين وللسكان الجبليين من الأمازيغ، تبعا لأطروحة الاستعمار بأن المغرب يتكون من إثنيات ومكونات ثقافية متعددة. بالإضافة إلى تعزيز نظام العمل الاستعماري. كانت المستشفيات الأوربية بالطبع كبيرة ومجهزة تجهيزا ممتازا، والمستشفيات اليهودية أقل درجة نوعا ما، أما المستشفيات الإسلامية فكانت غير مجهزة تماما. ففي فاس ومراكش ومكناس حيث يفوق عدد المسلمين عدد الأوربيين بأكثر من خمسة أضعاف، نجد أن مخصصات مستشفيات المسلمين مساوية لعشر مخصصات الأوربيين .
بقيت صحة المغاربة بعيدة عن مستوى هذا القرن، وإذا كانت الخدمة الصحية الاستعمارية قد حققت قليلا من التقدم، كتقليص حالات التيفوس، والتراخوما، وانخفاض وباء الطاعون والجدري والجذام والسل والسيفيليس أو مرض النوّار ... إلا أن المقارنة تكمن في أن ظروفهم الصحية اليومية ربما أصبحت أسوأ مما كانت عليه في الفترة السابقة للاستعمار، وقلبت التحولات البيئية الناتجة عن تبني نمط الزراعة الحديثة موازين الصحة في المناطق الريفية. فأمراض الرئة أخذت قسطها الوافر في المناجم، وتحطمت الترتيبات الصحية القديمة في المدن: الحمامات العمومية، والعلاج بالأعشاب، ولم تعد هذه الترتيبات قادرة على احتواء المرضى في الأحياء المدنية المزدحمة ومدن الصفيح المنتشرة، وعرفت الأمراض التناسلية أوسع انتشار بسبب انتشار مواخير البغاء المنظم والمؤدى عنه. ومع ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية، لم يستطع العمال شراء نفس كمية الغداء التي اعتادوا استهلاكها في ظل «اقتصاد الكفاف». ففي عام 1880 كان المغاربة يتناولون اللحم بمعدل ثلاث مرات في الأسبوع ، أما في عام 1940 فبمعدل مرة واحدة فقط، كما انخفض استهلاك الحبوب، وعانى المغاربة من سوء التغذية والأمراض الناتجة عنه.
راهبات من الفرنسيسكان يؤسسن جمعية «التضامن النسوي» بالمغرب
بدار الراهبات بحي راسين بالدار البيضاء، تعتكف -حاليا- مجموعة من الراهبات، بعد أن قضين شبابهن في خدمة المحرومين والمرضى واليتامى والفقراء. فمن هنا، مرت أولى الراهبات لما كانت الدار مجرد كوخ خشبي إلى أن أضحت تمتد على مدى 14 هكتارا، منحها المعمر الفرنسي المشهور «راسين» إلى الراهبات، وتضم خيرية ومدرسة ومصلى.
من هذه الدار، انطلقت رحلة الراهبات قبل قرن. فبعد أن كان عددهن يصل إلى المئات، اليوم لا يتجاوز عددهن، 129 راهبة من مختلف الطوائف الكاثوليكية، حسب إحصائيات أبرشية الكنيسة الكاثوليكية بالرباط، أغلبهن في مدينة الدار البيضاء، التي عرفت انطلاق رحلتهن.
رحلة ابتدأت يوم الثلاثاء 5 نونبر 1912، بعد سبعة أشهر من توقيع عقد الحماية، حين رست باخرة فرنسية قادمة من مدينة مارسيليا وعلى متنها ثماني راهبات فرنسيات تتراوح أعمارهن بين 20 و25 سنة. راهبات شابات لبين نداء الأب «إيربان»، القس بالكنيسة الوحيدة بالدار البيضاء آنذاك، والمارشال ليوطي، المقيم العام بمغرب الحماية.
اقتصرت مهامهن، على القيام بأعمال التطبيب والتدريس الموجهة لعائلات وأطفال المعمرين الذين رافقوا المستعمر. كما كانت الحاجة إلى الراهبات بمستشفيات الجيش الفرنسي وبالكنيسة الوحيدة الموجودة بالدار البيضاء من أجل القيام بوظائفها الدينية والصحية.
كانت «الراهبات الفرانسيسكانيات مرسلات» (Sœurs Franciscaines Missionnaires de Marie) أولى طوائف الرهبنة التي حطت الرحال بالمغرب، لتعقبها بعد ذلك، مجموعات أخرى على مدى قرن من الزمن، كان آخرها راهبات «مرسلات الإحسان» (MISSIONNAIRES DE LA CHARITE DE MERE TERESA)، وهي رهبنة أسستها الأم «تيريزا» بالهند واختارت أن تعنى بقضية الأمهات العازبات بحي الصخور السوداء الدار البيضاء.
ارتبط استقدام الراهبات إلى المغرب بحاجة سلطات الحماية والمعمرين والتجار الفرنسيين إلى خدماتهن. ففي السنة نفسها، التي وصلت فيها الراهبات الشابات إلى المغرب، وكما جاء في رسالة للأب «هنري كوهلر» من مكناس، سوف يبرز نداء آخر من الداخل آت من حاجة «الأهالي» إلى خدمات الراهبات.
وتلخص رسالة الأب»هنري كوهلر» ذلك بكل وضوح، حين يقول: «إنه الداخل الذي يجب أن يكون هدفا وليس الساحل، حاجة الأهالي للتمريض من جهة، والحفاظ على الإرث الثقافي الفني للسكان المحليين».
هذا «الداخل» سيستقطب اهتمام الراهبات، دون أن يتخلين عن «المركز»، كما تحكي ذلك «الأخت سيمون» وأرشيفات الراهبات الفرانسيسكانيات. هكذا، ستشد الراهبات، اللواتي بدأن يصلن تباعا، الرحال إلى مختلف مناطق المغرب، فاس ومكناس ومراكش وأعالي الأطلس المتوسط وجنوب المغرب وشماله، مرورا بالقنيطرة والرباط وتازة والراشيدية، ثم ميدلت، التي ستعرف تجربة فريدة في حفظ إرث الحياكة التقليدية للزرابي المغربية تشهد عليها «قلعة مريم» التي مازالت قائمة إلى حد اليوم.
كما تروي الناشطة المدنية عائشة الشنا، حكاية من الحكايات المرتبطة بوجود الراهبات بالمغرب. يتعلق الأمر بتأسيس إحدى أهم الجمعيات النسوية التي ستضع على عاتقها الانشغال بأحد المواضيع الاجتماعية الذي ظل طابوها بالمغرب. وهي جمعية «التضامن النسوي». التي اشتغلت حول موضوع «الأمهات العازبات».
فقد كانت «الأخت ماري جو تانتيريي» منشغلة بأوضاع النساء المهمشات، وكانت تفاتح عائشة الشنا دائما في انشغالها بوضعية الأمهات العازبات، لكن وضعها ك»أجنبية»، إضافة إلى كونها راهبة، كان يعيق إقدامها على تأسيس أي جمعية في هذا الشأن.
لكن رفقتها الطويلة مع عائشة الشنا ستجعلها تقترح هذا الأمر عليها. وهكذا، ستجتمع الشنا و»ماري جو» و»الأخت ريجان» و»الأخت لودي» للإعلان عن تأسيس جمعية «التضامن النسوي» سنة 1985.
أمراض وأوبئة في القرن التاسع عشر
أشار الدكتور أحمد المكاوي في «قضايا تاريخية»، وهو عنوان كتاب من منشورات الزمن (2009)، إلى «الدور الاختراقي والاستعماري للتطبيب الأوربي في المغرب» بتسجيل أدق التفاصيل حول المغرب والمغاربة، بتوظيف أساليب علمية في إعداد التقارير والأبحاث في مختلف المجالات - تمهيدا للاحتلال العسكري والاستغلال الاقتصادي- ومن بين هؤلاء، الطبيب ( Auguste Broussenet 1761 1807) الذي جاء إلى المغرب قبيل أن يجرف المغرب وباء الطاعون عام 1799م، فمكنته مهنته من الاقتراب من الواقع المغربي، حيث استعان بخدماته الطبية السلطان مولاي إسماعيل – بالرغم من معارضة الفقهاء والعلماء، واستغل تواجده بالمغرب، فتحول إلى دراسة الغطاء النباتي على ضفتي واد أبي رقراق ودرس غابة الأركان بجوار موكادور، ثم درس الزواحف بالمنطقة نفسها. تمكن كذلك من دراسة المخطوطات التاريخية وترجم مخطوطا حول أحمد المنصور السعدي، واستعان به قبل ذلك الإمبراطور نابوليون بونابارت في ترجمة منشور إلى العامية المصرية، نظرا لدرايته بالعربية وبعض لهجاتها...
أعد بروسوني تقريرا مهما سنة 1797م تضمن مشروعا استعماريا يبين فيه الغنى الطبيعي الذي يزخر به المغرب، ومدى سهولة احتلاله نظرا لضعف إمكاناته العسكرية...
تزامن تواجد بروسوني في المغرب مع وباء الطاعون، وأشار في رسائله إلى أن مصدر الوباء قادم من الشرق، وبالضبط من تلمسان حيث سيصل الوباء إلى المغرب في يونيو من عام 1797م، وبدأ بالتفشي والانتشار ابتداء من الريف وفاس ومكناس مرورا بمراكش ودكالة...وفسر انتشار وباء الطاعون بغياب السياسة الصحية، ثم قدم أرقاما ذات مصداقية، إذ ذكر أن ثلثي مدينة الرباط (30000) نسمة هلكوا جراء الطاعون، ولم تجد المحاصيل الزراعية من يجمعها، وسارع الناس إلى شراء أكفانهم، حتى أن الموتى لم يبقى من يدفنهم، فظلت الجثث ملقاة في الشوارع والطرقات تفترسها الجوارح والكلاب. وذكر أيضا، توقعه حلول الطاعون بالصويرة بعد أن كان قد بلغ آسفي، فلما وصل الوباء إلى الصويرة أهلك (50000) نسمة، فغادر بروسوني المدينة والبلاد هربا من الطاعون...
قدم القنصل العام لمملكة السويد والنرويج وسردينيا (Grebery de lemsõ) أرقاما ووثائق ومعلومات أكثر دقة من تلك التي قدمها بروسوني حول وباء الطاعون (1818-1819م). عايش هذا الوباء، واعتمد على وثائق وتقارير ومراسلات البعثة الفرنسية بطنجة وباقي المغرب، وكذا مراسلات السفير الأمريكي (SIMSON) مع الطبيب الإيطالي (Lion GNASSI) واستند إلى معطيات بروسوني، مما مكنه من الإدلاء بتقارير مدققة وتقديم أرقام إحصائية مضبوطة بالعدد والتاريخ. وفسر هو الآخر أسباب تفشي الطاعون بانعدام سياسة الاحتراز والوقاية الصحية عند المسلمين. ولمح إلى أن بعض السكان حاولوا صناعة ترياق من زيت الزيتون اثبت فعاليته في الاستشفاء من الطاعون في مراحله الأولى.
أتقن (Grebery) الدارجة المغربية وبعض اللهجات الأمازيغية، والأغرب هو أنه ألف كتبا في فقه اللغة العربية والأمازيغية، وعدة أبحاث حول الدارجة المغربية والرعي والراعي والمحراث الخشبي وتوابعه (Speakio géographique estatio de emperero).
جاء (Bendlac) إلى المغرب لبدء كتابة مذكراته (Le journel de Bendlac) وإنجاز تقاريره من حيث انتهى (Grebery)، وغطى عشر سنوات (1820-1830م) مباشرة بعد وباء الطاعون الذي عرفه المغرب عامي 1818-1819م، وأشار (Bendlac) إلى بداية استيراد المغرب للحبوب من إيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية وغلاء أسعار الحبوب بمدينة فاس والمغرب عموما، حيث سترتفع بالثلث ثم تضاعفت بسبب المضاربة، وهي مؤشرات الأزمة الغذائية. وصف Bendlac كيف وزع القناصل الأوربيون (الفرنسيون والهلنديون والسردينيون) الخبز على جياع طنجة مما جذب مهاجرين أكثر إلى المدينة، فوفدوا عليها من كل منطقة طلبا للخبز، واستمر ذلك إلى نهاية عام 1829م، ليتم طرد الوافدين والجياع، ثم أشار إلى اضطرار الجائعين لأكل الأطفال والجيف ونبش القبور وتناول الجثث والكلاب حتى اختفت هذه الأخيرة... وقدرت الهيأة القنصلية حصيلة الوباء والمجاعة في مدينة طنجة لوحدها ب1300 قتيل.
عندما شارك الطيران الصحي في الحرب على بن عبد الكريم الخطابي
بعد أن أخفق الدكتور شاسانغ CHASSAING في مسعاه لاحتضان الجبهة الفرنسية –خلال الحرب العالمية الأولى- غير وجهته صوب المغرب، حيث ظفر بموافقة ليوطي الذي كان يتقد طموحا وينتقد أداء الجيش الفرنسي في الحرب وكله فخر بنجاحه في «سياسة التوغل والتهدئة» بالمغرب. كما أنه كان من ناحية أخرى ينفق في بلد الحماية بلا محاسب ولا منازع. وهكذا حالف الحظ شاسانغ، فصمم خرائط أول طائرة صحية فرنسية في أوائل سنة 1917 ثم ظفر باحتضان شركة BREGUET.
وما أن حل آخر يوليوز 1918 حتى وصلت إلى الدار البيضاء أربع طائرات من نوع DORAND-DALSACE-A.R. وهي طائرات خضعت لترتيب وتهيئة حددها شاسانغ. لكن هذا السرب الأول من الطائرات لم يحالفه النجاح في مهامه. فقد وصلت هذه الطائرات غير القابلة للاستعمال في الجبهة الفرنسية بمحركات منهكة وبدون قطع غيار. بعد ذلك ارتبط الدكتور بشركة «بريكيت» فحقق ترتيب وتهيئة الطائرة الجيدة بريكيت 14A2. وفي نونبر 1920 تم الوعد بإرسال 20 طائرة طبية للمغرب و16 للشرق كتجربة. والجدير بالذكر أن هذه السنة عرفت التصنيع المعدني الكامل للطائرات، خصوصا بعد قطع محيط الشمال في سنة 1919 والإيمان القطعي بالمستقبل الزاهر للطيران في شقيه العسكري والمدني التجاري.
وهكذا وصلت إلى الدار البيضاء خلال شهري أبريل ومايو من سنة 1921 الطائرات الموعودة من طراز 14A2 ذات محرك رونو ب 300 حصان. وفور انتهاء التركيب والتجريب أرسل البعض منها إلى مدينة مكناس، لأن قوات هذا القطاع كانت تواجه اشتباكات صعبة شرق مدينة وزان الثائرة المساندة لثورة الريف، ويمكن القول حسب وثيقة المعرض الاستعماري الدولي لباريس لسنة 1931 إن أول إجلاء للجرحى بالطائرة كان يوم 29 مايو 1921، ويعتبر بحق بداية للطيران الصحي كما كان منظما وقتذاك بالمغرب.
وبين سنتي 1921 و 1922 أعقب الدكتور شاسانغ « CHASSAING « في قطاع الطيران الصحي الطبيب الرئيسي إيبولا معتمدا طائرات «بريكيت» خلال حرب الريف.
راهبات ميدلت المثيرات للجدل
يفسر بعض المهتمين بظاهرة التنصير بالمغرب، بأن استقرار بعض «الراهبات المسيحيات» في المناطق الأمازيغية كمدينة ميدلت لم يكن بأهداف دفع السكان المحليين إلى تغيير معتقداتهم. إذ ترجع أولى رحلات الراهبات إلى المغرب إلى بدايات فترة الحماية بأمر من الماريشال ليوطي، حين ركزن أنشطتهن على المناطق الداخلية، بما في ذلك المدن الكبرى كالبيضاء والمحمدية والرباط والقنيطرة ومراكش ومكناس، لكن كثيرا ما يتم التركيز فقط على المدينة الأطلسية –ميدلت- المنزوية بين الجبال. كما كان ليوطي شديد الحرص ألا يثير الراهبات المشاعر الدينية للمغاربة، في إطار سياسته للتغلغل «السلمي»، ويحكى عنه، أنه نفسه رفض دخول مقام مولاي إدريس ذات مرة، حينما طلب منه «الحفدة الإدريسيون» تغيير ستار المقام، فخاطبهم قائلا:» أنا لست مؤمنا ولا يحق لي ولوج الضريح..».
بحسب العديد من التقارير الإعلامية، فإنه لم يكن للراهبتين « ماري كوليت» و «إليزا شارل» أي نشاط تنصيري في صفوف السكان الأمازيغ بميدلت كما يشهدون هم أنفسهم بذلك. فقد كانتا تعكفان على تقديم «خدمات إنسانية» للأهالي وتُعلمان النسوة تقنيات الحياكة والنسيج التي استقدمتاها من قرية «أكوراي» بأحواز مكناس. وإليهما يرجع الفضل في تنظيم أول معرض للمنتوجات التقليدية الأطلسية بالعاصمة الرباط في ثلاثينيات القرن الماضي.
مازال السكان بالمنطقة ذاتها يتذكرون-كذلك- بإعجاب الراهبة « سيسيل دو بروفوست» التي كرست حياتها لتمريض الرحل والاعتناء بمرضاهم وشيوخهم، حيث اخترقت مجتمعهم البسيط، واندمجت في حياتهم البدوية وخاطبتهم بلسانهم الأمازيغي الذي اجتهدت في تعلمه. ومن الأمثلة التي يسوقها الباحثون كذلك للاستدلال على استهداف الدعوات التنصيرية للأمازيغ دون غيرهم، اعتمادها على اللغة الأمازيغية واللهجات المتفرعة عنها في كتابة المطبوعات وإصدار المناشير وعرض الأشرطة الصوتية والأقراص المدمجة.
بديهي أن يخاطب المبشرون أهل البلد بلغتهم ولسانهم بهدف التواصل معهم والقدرة على استمالتهم، ومثل الأمازيغية في ذلك مثل جميع لغات الأرض كالعربية الفصحى والدارجة واللغات الإفريقية والأسيوية وغيرها. وربما رأى البعض في استعمال المنصرين للأمازيغية مؤشرا على استهداف الأمازيغ في المغرب، لأنه لم يكن مألوفا في مرحلة الاستعمار وما بعد الاستقلال كتابة منشورات بها، بحكم هيمنة التوجه العروبي.
فرانكو أشاع بأن الراهبات «موحدات» العقيدة مثل المغاربة
إن الحديث عن الدور الذي لعبته الخدمات الصحية الإسبانية، بالمنطقة الخليفية شمال المغرب، تنخرط في إطار ما سماه الأستاذ التمسماني ب»سياسة الاستقطاب بشمال المغرب»، التي كانت تقوم أساسا على التقرب من «مجتمع الأهالي»، وتقديم خدمات متنوعة في المجالين الصحي أو التعليمي. لكن الجانب الصحي حظي بأولوية المستعمر الإسباني لاعتبارات عديدة، نظرا لانتشار الأوبئة والأمراض في صفوف المغاربة –آنذاك- والتي كانت تخلق غالبا حالة من الهلع والرعب بين السكان. وكان على رأسها تلك الأمراض التي فتكت بالرضع، مما أجبر سكان الشمال المغربي على التعامل مع الإدارة الصحية الاستعمارية، كذلك استوعبت إسبانيا خصائص المجتمع المغربي. فعلى طول المركبات الاستشفائية التي أنشأتها بالمنطقة الخليفية مثل تطوان والعرائش وأصيلا حرصت على إدماج العنصر النسوي في الأطقم العلاجية، حتى يتسنى لها اختراق المجتمع المحلي، الذي لم يكن ليسمح –مثلا- بفحص نسائه وفتياته من لدن رجل أجنبي ولو على سبيل الاستشفاء.
فأعيان مدينة تطوان، قدموا ملتمسا إلى السلطات الاستعمارية، عقب انتشار وباء سنة 1922 بإيفاد ممرضات للكشف عن نسائهم، وهو الأمر الذي استجابت له الإدارة الاستعمارية.
ازدادت وتيرة الخدمات الصحية بالشمال، انطلاقا من سنة 1933، بعد صعود اليمين الفاشي (فرانكو) الذي كان من جملة أهدافه الاستراتيجية تأمين الجبهة المغربية، التي طالما اعتبرها بمثابة قاعدة خلفية لتمرده العسكري على الحكومة الجمهورية الذي انطلق من مدينة تطوان، ورغبة في التقرب من السكان وتجنيدهم في حربه، قام بإنشاء العديد من المستشفيات والمدارس.
مع بداية إدماج الراهبات في سلك الصحة العمومية بالشمال، كان هناك تخوف، إلى درجة أن صحف المرحلة وهي «الريف» و«الحرية»عكست هذا الشك والارتياب، لكن تدريجيا سوف يأنس المغاربة بالطب العصري وخدماته على يد الأطباء الإسبان والممرضات الراهبات، إبان ما عرف ب«الحملة الفرنكوية» حين أشاع أتباع الجنرال كنية «المؤمنات» لنعت الراهبات، محاولا إقناع المغاربة بأنهن «موحدات» العقيدة مثلهم، في تمييز عن الشيوعيين الملاحدة الذين اعتبرهم بمثابة أعداء مشتركين لهم، وقد كان لهذه الإشاعات صدى كبيرا في تجييش المغاربة إلى جانب فرانكو. مما ساهم في انفتاح شرائح كبيرة على خدمات الراهبات الإنسانية.
بالمقابل، لم تسجل –تاريخيا- أية محاولة في اتجاه أعمال تبشيرية للراهبات، إذ انخرطن بدورهن في أنشطة استعمارية-التقرب من الأهالي- وليس تبشيرية، والكنيسة الكاثوليكية نفسها نأت بنفسها عن التورط في مثل تلك الأنشطة، التي كان من شأنها إثارة مشاعر المغاربة، لأن فرانكو كان في حاجة ماسة إلى الشعب المغربي لمحاربة التيار الجمهوري بإسبانيا.
يضيف الباحث زوكاري، بأن الراهبات كن يلجن بيوت المغاربة بقصد العلاج، ولا يترددن في بلوغ أقصى المناطق النائية، ولو سجلت -آنذاك- أية أنشطة تبشيرية لما سكت عنها أقطاب الحركة الوطنية مثل عبد الخالق الطريس أو محمد بلحسن الوزاني وآخرين المعروفين بغيرتهم الدينية.
أسامة زوكاري*
باحث في التاريخ
مقتل الدكتور موشان الذي كان وراء احتلال وجدة
[[{"type":"media","view_mode":"media_original","fid":"5866","attributes":{"alt":"","class":"media-image","height":"342","typeof":"foaf:Image","width":"765"}}]]
كان الدكتور «إميل موشان E. Mauchamp « مبعوثا للخارجية الفرنسية، وصل إلى عمله في مراكش في أكتوبر 1905. وسكن بإقامة قديمة للدكتور «لينارس Linares « .وبعد ذلك بقليل، تسلل إلى حاشية مولاي حفيظ ونال ثقة أفراد أسرة «الكلاوي» وأعيان محليين آخرين» فلم يكن من الصدفة إذن أن يتم اغتياله في مراكش في مارس 1906 وتستغل فرنسا الحادث لتعطي الإشارة لاحتلال المغرب الشرقي، معلنة بذلك انطلاق غزوها للمغرب.
ساهم تبشير الأطباء بالمسيحية، وصلاتهم مع الأتباع والمتعاونين، وتحركاتهم الغامضة في البلاد، في إثارة كراهية الجمهور لهم، حتى أن عملهم الطبي ربما ركز الاستياء الشعبي، لأن علاجهم غالبا ما أخفق، وكثيرا ما تركوا مرضاهم الفقراء لعلاج علية القوم أو للسفر في مهام دبلوماسية .
وكانت ظروف هذه القضية سياسية بشكل واضح تماما، ولو أن الروايات الخاصة بالقتل تختلف، لكن ثمة إجماع عام على أن السبب يكمن في نشاطات « موشان « التجسسية المعروفة .
فقد أصبح الأطباء مبررا للتوسع الاستعماري ورمزا للنظرة الإنسانية الأوربية «المتنورة» والعصرية . يقول « أدولف جيرو «: « في سنة 1907 تطورت أحداث خطيرة أجبرت فرنسا على العمل بقوة، والشروع في العمليات العسكرية. وقد سبب اغتيال « موشان « في مراكش صرخة هائلة في بلادنا، والسبب الأول لتدخلنا. كانت هناك حاجة ملحة للقيام بعمل تأديبي حتى تقوم الحكومة المغربية بالإصلاح اللازم « .
لم تكد تمضي عشرة أيام على مقتل « موشان «، حتى عبرت وحدات من الجيش الفرنسي الحدود الجزائرية واحتلت مدينة وجدة المغربية. وبعد أن أحكم القائد «بطايور « محاصرة المنطقة دفع جنوبا إلى مراكش « لحماية « أمن المواطنين الفرنسيين والأجانب الآخرين القاطنين بالمدينة «. لقد انتهت فترة « التغلغل السلمي « وبدأت مرحلة التدخل الاستعماري المسلح.
الحاج محمد بن عبد الجليل أول متنصر مغربي
كان له سنة 1958 لقاء خاص مع ولي العهد آنذاك الحسن بن محمد الذي سيصير بعدها بثلاث سنوات ملك المغرب، هذا اللقاء لا يعرف حتى المقربون من الأب محمد بن عبد الجليل فحواه، لكن التكهنات كانت حول محاولة السلطات المغربية حثه على الرجوع إلى المغرب، وإعلان توبته والرجوع إلى لإسلام مقابل مناصب حكومية.
كان يلقب بالأب يوحنا محمد بن عبد الجليل أو «جون محمد بن عبد الجليل» وعرف بسلك الرهبنة كقس كاثوليكي مغربي ذي أصول إسلامية، ولد في مدينة فاس العريقة يوم أبريل سنة 1904، وتوفي يوم 24 نوفمبر سنة 1979 في مدينة باريس الفرنسية وبالضبط في ضاحيتها المسماة فيلجويف. ومن أسباب تحوله التحاقه بالديار الفرنسية وهو شاب، وتأثير المراسلات التي كانت بينه وبين المستشرق لويس ماسينيون على فكره.
ولد بن عبد الجليل في أسرة مسلمة ومحافظة، يقول عنها في سيرته أن أجداده أتوا من الأندلس إلى مدينة فاس، واستقروا فيها منذ ما يقارب أربعة قرون. وقد كان بعض أعضاء أسرته يشغلون مناصب حكومية رفيعة، مثلا: والده كان خليفة باشا مدينة فاس، وعمه كان وكيل الملك في مدينة فاس. بينما أخوه الحاج عمر بن عبد الجليل كان من زعماء حزب الاستقلال، وصار وزيرا للتربية الوطنية سنة 1958.
حفظ القرآن بالقرويين في سن مبكر، ورافق والديه في رحلة الحج وهو ابن تسع سنوات. ولذلك كان يسمى الحاج محمد بن عبد الجليل منذ صغره. التحق بمدرسة شارل دو فوكو بالرباط حيث كان تلميذا داخليا، وبعدها التحق بثانوية غورو في مدينة الرباط سنة 1922 وحصل على الباكالوريا منها سنة 1925. وفي إطار جهود فرنسا في اختيار أبناء النخبة لتدريسهم في الخارج حتى يعودوا إل المغرب للحصول على مراكز قيادية، كان محمد بن عبد الجليل وأخوه عمر ومعهم آخرون مثل الزعيم محمد بلحسن الوزاني ضمن بعثة دراسية لفرنسا، قصد الحصول على التعليم العالي، وقد اختارت له وزارة التربية الوطنية آنذاك كشرط للمنحة أن يدرس الأدب العربي في جامعة السوربون، وفعلا التحق بالجامعة سنة 1925 مباشرة بعد حصوله على الباكالوريا. يحكي محمد بن عبد الجليل في سيرته الذاتية أن المارشال ليوطي هو من تدخل شخصيا حتى يحصل على منحة تمكنه من متابعة دراسته في فرنسا، حين وصل فرنسا قرر أن يتابع دراسة الفلسفة بدلا من الأدب العربي، كما قرر أن يأخذ مواد أخرى في المؤسسة الكاثوليكية رغم كونه مسلما مقتنعا بالإسلام ورافضا للمسيحية. بعد ثلاث سنوات من دراسة المسيحية اعتنق المسيحية وقرر أن يتقدم للتعميد وهو ما تم يوم السبت 7 أبريل بعدها بسنة التحق بسلك الرهبنة الفرنسيسكانية ليكون خادما للمسيح، خصوصا في مجال الكتابة والتعليم.ثم سنة 1935 تمت رسامته كاهنا. كان المستشرق لويس ماسينيون هو الراعي والأب الروحي لمحمد بن عبد الجليل الذي غير اسمه إلى جون محمد بن عبد الجليل أو يوحنا محمد بن عبد الجليل، مصرا على الحفاظ على اسمه الإسلامي محمد حتى يكون شهادة للناس على تحوله من إلى المسيحية. كان الأب محمد بن عبد الجليل واسع الاطلاع على العديد من المؤلفات وكان يحب الفلسفة، وقد تأثر بأستاذه جاك ماريتن وتأثر خصوصا بفلسفة ديكارت وفلسفة كانت. تعين أستاذا في المؤسسة الكاثوليكية منذ سنة 1936 لغاية 1964 حين قدم استقالته بسبب عجزه عن إكمال التعليم بسبب مرضه. كان يعلم اللغة العربية، والأدب العربي، وتاريخ الأديان، والإسلاميات. كان يتقن خمس لغات: العربية، والفرنسية، والإسبانية، والألمانية، والإنجليزية، وقد كان يحب أن يلقي محاضراته باللغة الفرنسية أو الألمانية. ألقى العديد من المحاضرات بكل اللغات التي يتقنها في مناسبات مختلفة كلها تصب في إطار دعوة المسلمين للمسيحية، أو محاولة فهم الإسلام والمسلمين أو في الحوار بين الإسلام والمسيحية. تتلمذ على يديه الكاتب الدكتور موريس بورمانس، والذي اهتم كثيرا بجمع مقالاته وكتاباته ومراسلاته وتدوين سيرته الذاتية ويفتخر في مقدمة السيرة الذاتية للأب محمد بن عبد الجليل أنه صديق له وتلميذه في الوقت نفسه.
بوجمعة رويان *: عند حصول المغرب على الاستقلال استفاد من بنيات تحتية صحية مهمة تركتها فرنسا
- ما الدور الذي لعبه الأطباء في الحملة الاستعمارية الفرنسية بالمغرب؟
شك، فقد لعب الطب دورا مركزيا في مساعدة الدول الأوربية-عموما- للسيطرة على المستعمرات. إذ اعتبر الطب كآلية من آليات التفوق التي توفرت في الجانب الأوربي، وظفوها بمنهجية احترافية، وحصلوا بذلك على منفعتين: الأولى هي ضمان بيئة صحية سليمة لتحرك جيوشهم، والثانية تتمثل في توفير أمثل الظروف للاستغلال الاستعماري، لذلك وجدنا الماريشال ليوطي وهو أول مقيم عام بالمغرب يسمو بالطبيب إلى مرتبة عليا، معتبرا المهام الذي أداها من أنجع الوسائل التي تساعد على استثاب الأمور بالمستعمرات، عبر التوغل وتسهيل تقرب الأجانب من مجتمع الأهالي.
ويذكر أيضا أن قادة الاستعمار بالمغرب، بداية القرن العشرين كانوا يعتبرون بأن «جعبات» الدواء واللقاحات ولفافات الأقراص، تؤدي دورا أكبر من ذلك الذي تلعبه المدافع والدبابات.
- ما هي طبيعة التدابير والتشريعات الصحية التي أصدرتها فرنسا بالمغرب؟
منذ تأسيس إدارة الصحة العمومية سنة 1912، التي كانت مصلحة تابعة للجيش، بمعنى أن جميع الأطباء الذين كانوا قيمين على إدارة الصحة العمومية، ابتداء من 1912سنة إلى غاية سنة 1926، كانوا أطباء عسكريين، وبالنسبة لطبيعة تلك التدابير فقد كانت الإدارة الاستعمارية تحرص على تطبيقها بشكل صارم، فمثلا نجد أن أعداد الجريدة الرسمية تضمنت –آنذاك- الكثير من القرارات التي تدعو إلى التصريح والإعلان عن الأمراض المعدية مثل داء السل، والزهري...، وكانت الإدارة حازمة في هذا الباب.
لكن، أشير أيضا بأن تلك الصرامة في تطبيق التدابير الصحية كانت تختلف نوعا ما، إذ كان التعامل مع تدابير الحماية من الأوبئة أكثر صرامة عن تلك المتعلقة بالأمراض المعدية، لأنها كانت ذات فتك جماعي، لا تفرق بين أوربي ومغربي. لذا كان ضروريا التعامل بشكل صارم معها. ونجحت الإدارة الصحية الاستعمارية بالفعل في تطويق الأوبئة سنة 1913 وسنة 1917 وفي سنة 1937 كذلك، وهو العام الذي لقبه المغاربة بعام التيفوس، الذي يخطئ البعض وينسبه لعام 1945، الذي هو في الحقيقة «عام بوهيوف»، وفي السنة نفسها انتشر أيضا نوع من الحمى تسمى بالحمى الراجعة، واستمرت بالمغرب زهاء سنة كاملة.
- إلى جانب الأطباء، اشتغل عدد كبير من الراهبات، ما طبيعة مهامهن؟
مهام الراهبات أساسا ذات طابع إنساني أكثر منه سياسي أو ديني، إذ لم تكن هناك أدنى إشارة من طرفهن، على نيتهن بالدعاية لدين النصرانية بالمغرب، وهو الأمر الذي تثبته جميع الوثائق التاريخية التي اعتنت بالموضوع. وذكر ليوطي ذات مرة بأن الراهبات طالما لعبن دورا أساسيا في عملية التقرب من قلوب المغاربة، وكذا لإقبال الأهالي على التطبيب العصري، لأن التطبيب الذي جلبته فرنسا أو ما يسمى بالطب الباستوري بسبب اعتنائه بمكافحة الميكروبات والجراثيم. كان على طرف نقيض من الطب التقليدي الذي اعتاد عليه المغاربة لقرون...
أضف إلى ذلك، بأن الطب لم يكن وحده وسيلة التقرب، فإلى جانبه كان منح بعض المواد الغذائية، فمثلا، كثيرا ما استعمل السكر لتشجيع الناس على التلقيح، خاصة بالأرياف، بعد عزوف بعض المناطق الجبلية على ذلك.
- أين تواجدت راهبات الخدمات الصحية؟
أساسا بالمدن الكبرى، كانوا بالرباط والبيضاء ومكناس ومراكش، وكانت هناك جريدة ناطقة باسمهم وهي «المغرب الكاثوليكي»، أما المناطق النائية فقد كان يتوجه إليها الأطباء الذين كانوا يرافقون عادة فيالق الغزو ل»تهدئة» القبائل وإخضاعها، إذ كان الأطباء يتقدمون الجيوش ويوزعون «جعبات» الدواء على السكان المحليين ...
كما كان ليوطي حريصا على عدم إثارة المشاعر الدينية للمغاربة، فهو نفسه رفض ولوج حرم مولاي إدريس مخاطبا أعيان فاس «أنا لست مؤمنا وغير مسلم لكني أحترم حرم مولاي إدريس..».
- كيف تعاملت الحركة الوطنية مع النظام الصحي الاستعماري بداية الخمسينيات؟
لم يثبت أن طلب الوطنيون من المغاربة يوما بعدم الاستفادة من خدمات الطب العصري الذي قدمه الفرنسيون، فصحيح أن الحركة الوطنية أسست مجموعة من المدارس الحرة، لكنها لم تؤسس «مستشفيات حرة» وكذا لم تدعوا إلى مقاطعة الطب الفرنسي.
- لكن، تم تسجيل حوادث هجوم المغاربة على بعض المستشفيات بعدد من المدن، كما وقع بفاس؟
الأكيد أنه وقع هجوم على عدد من الأطباء بداية دخول الاستعمار إلى المغرب، مثل حالة الدكتور موشان بمراكش الذي قتل بطريقة بشعة، حيث تلقى أزيد من ثلاثين طعنة في جسده، والسبب كان هو أنشطته التجسسية التي لم تكن خافية..
أما ما أشرت إليه، فلا يعدو مجرد حوادث منعزلة، نتجت في حمأة المطالبة بالاستقلال وبعودة المغفور له محمد الخامس من منفاه، إذ اعتبر نفي السلطان بن يوسف بمثابة مس بالشعور الوطني للمغاربة.
- هل استفاد المغاربة من الخدمات الصحية الاستعمارية على وجه المساواة؟
لا، فقد كانت استفادة المغاربة من الخدمات الصحية الاستعمارية متنوعة بين سكان «المغرب النافع» من جهة و»المغرب غير النافع» من جهة أخرى، ف»مغرب المدن» والسهول، حيث تواجد المعمرون والأوربيون، استفاد كثيرا من الخدمات الصحية، أكثر من مغرب الجبال والمناطق النائية.
- كيف تطورت وضعية الصحة العمومية بعد الاستقلال؟
عند حصول المغرب على الاستقلال، استفاد «المغرب المستقل» من بنيات تحتية صحية مهمة –لا يجب إنكارها- تركتها فرنسا، أو إسبانيا بالشمال. كما تمكنت فرنسا من تطويق والقضاء-نهائيا- على العديد من الأوبئة، لكن الأمراض المرتبطة بالفقر بقيت مثل مرض الزهري الذي كان مرتبطا بالدعارة، وكذا أمراض الرمد وحمى المستنقعات والسل..
كذلك، لعب تحسين الوضعية الصحية للمغاربة دورا مهما، في التزايد الديمغرافي للسكان، وارتفاع منسوب «الوعي الصحي». كما استمر بعض الأطباء الفرنسيين في الخدمة بالمغرب، حتى منتصف السبعينيات من القرن الفارط.
* أستاذ جامعي
بجامعة ابن طفيل
أعد الملف - منصف يوسف


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.