يسود الاعتقاد عند المثقفين عموما، بل حتى عند بعض الباحثين المتخصصين، بأن الحديث عن المسألة الأمازيغية إبان عهد الحماية إنما يعني أساسا الظهير البربري بتاريخ 16 مايو 1930. وهذا الاعتقاد خاطئ لا محالة، لأن ظهير 1930 لم يكن في الواقع إلا تتويجا ونتيجة حتمية لمسلسل بدأت الإيديولوجيا الكولونيالية في رسم حلقاته منذ أمد بعيد، وهو ما يسعى إلى تبيانه الدكتور الطيب بوتبقالت في السلسلة الرمضانية لهذه السنة. 30/23.. خدعة "الضربة المدوخة" من بين الوثائق الإدارية لسياسة الحماية الأكثر مثارا للتساؤل، والاستغراب في الوقت نفسه، تلك الوثيقة التي أصدرها الجنرال ليوطي بتاريخ 18 نونبر 1920، والتي كانت تحمل عنوانا غامضا هو «الضربة المدوخة». والوثيقة عبارة عن مذكرة موجهة بسرية تامة إلى كل مسؤولي ورؤساء المصالح الإدارية التابعة للإقامة العامة، ولم يكشف النقاب إعلاميا عن وجودها إلا سنة 1948. والقراءة الأولية لهذه الوثيقة تعطي الانطباع بأن ليوطي كان تحت ضغط مساءلة ضميره؛ والواقع أنه كان بصدد تحيين سياسته المغربية على ضوء المعطيات الجديدة التي أفرزتها أحداث النزاع المسلح الأوربي. وبما أن ليوطي كان يتوجه في هذه الوثيقة إلى معاونيه على اختلاف درجات مسؤولياتهم، فإنه بدا وكأنه يكشف عن عمق تفكيره. وفعلا كانت الظرفية التاريخية حبلى بالمستجدات والتطورات: من تهديد للمد البلشفي الأوربي، وتنامي لتيارات الصحوة الإسلامية التي كانت تخترق المشرق العربي، وظهور لمبدأ «حقوق الشعوب في تقرير مصيرها» على مستوى العلاقات الدولية، وتأثيرات للدعايات المناهضة لفرنسا، وانعكاسات للمشاركة المغربية في الحرب الكبرى، إلخ. كل هذه المعطيات كانت تتطلب من المقيم العام أخذها في الحسبان، وذلك من أجل تهييء الأجيال المغربية الصاعدة لقبول واقع الحماية الفرنسية عن طواعية واستسلام. وفي تلك السنة كانت انشغالات ليوطي منصبة على تقدم برنامج الاحتلال العسكري، واستئناف أنشطة الاستغلال الاقتصادي للمناطق الخاضعة لسلطة الحماية، في انتظار المزيد من مكاسب "التهدئة". كان إذن من الضروري أن تعيد الإدارة الاستعمارية النظر في تنظيماتها قصد تعزيز تمركزها على مختلف الأصعدة، لذلك جاءت مذكرة «الضربة المدوخة» على شكل برنامج عملي شامل يثير بقوة انتباه الأطر المسيرة للشأن الكولونيالي وبلهجة تحذيرية يغلب عليها شيء من التبصر الماكر. النقد الذاتي الكولونيالي استهل الجنرال ليوطي مذكرته «الضربة المدوخة» بنوع من النقد الذاتي الخادع، كان الغرض منه بالأساس هو تنبيه مرؤوسيه إلى ضرورة بذل مجهودات استثنائية والتحلي باليقظة الدائمة من أجل الحفاظ على توجهات السياسة الاستعمارية العامة، حتى لا تباغتهم تطورات الأحداث الجارية. "لقد حان الوقت لإعطاء ضربة مدوخة في ما يتعلق بالسياسة الأهلية ومشاركة العنصر الإسلامي في تدبير الشأن العام. يجب علينا أن نواجه الأوضاع في العالم الإسلامي كما هي، وإلا فإن الأحداث ستتجاوزنا". وبطريقة غير معهودة نصب ليوطي نفسه ضد الدعاية الفرنسية المعادية للمغرب، والتي كانت دائما تطعن في القيم الاجتماعية والنظام السياسي للشعب المغربي، لكن موقفه هذا كان يهدف قبل كل شيء إلى دعوة مساعديه الأقربين إلى المزيد من الحرص والانضباط، حتى لا يقعوا في مصيدة رغبة التجاوزات الجامحة التي من شأنها أن تعرض سياسة الحماية للخطر: "نقولها بكل صدق، لقد وجدنا في المغرب دولة وشعبا..كانت البلاد تمر فعلا بأزمة فوضى، ولكنها أزمة حديثة نسبيا وهي أزمة حكومية أكثر منها اجتماعية (...) لقد وجدنا في المغاربة شعبا له قابلية للانفتاح على كل ما هو جديد.. إننا بعيدون كل البعد عن سكان بدائيين، ومتوحشين وسلبيين. مثل هؤلاء السكان لا يوجد في شمال إفريقيا، حيث البلاهات والمناورات المرتجلة سرعان ما يؤدي أصحابها الثمن غاليا". وتطرق ليوطي بعد ذلك إلى تناقض مفتعل بين مفهومي «الحماية» و«الإدارة المباشرة» مبديا تحفظاته في ما يخص تطبيق نظام الحماية في المغرب منذ ثماني سنوات، وملاحظا في السياق نفسها أن الانزلاق نحو «الإدارة المباشرة» هو بمثابة ضربة في عمق الأسس السياسية التي بني عليها نظام الحماية، وأن هذا الأخير أصبح وهما لا أقل ولا أكثر. وواقع الأمر أنه لا يوجد في هذا التحليل أي عنصر جديد، ذلك أن ليوطي كان يعلم جيدا، حتى قبل 1912، أن نظام الحماية ما هو إلا نظام للاستعمار المباشر تحت ستار «معاهدة الحماية» التي كانت تتيح للمستعمر مزايا متعددة. وبالفعل كان نظام الحماية يضمن للمستعمر امتيازات اقتصادية كبيرة من خلال استحواذه على المؤسسات القائمة والاستغلال المباشر للبنى التحتية للدولة «المحمية» ولمواردها المادية والبشرية؛ ناهيك عما كان يوفره هذا النظام على المستوى العسكري من تقليص للخسائر البشرية في صفوف القوات الغازية؛ وذلك تحت ذريعة زحفها طبقا للتعاقد الذي حصل مع السلطات الشرعية للبلد «المحمي»!. لقد كان ليوطي منذ البداية على علم تام بحقيقة ما ألحقه نظام الحماية بصلاحيات السلطان الإدارية والسياسية، لاسيما وأنه هو الذي سهر شخصيا على وضع الأسس لهذا النظام الجائر. وفي هذا الصدد قال ليوطي وكأنه يكتشف وضعا جديدا: «إن كل القرارات الإدارية تتخذ باسم السلطان، فهو الذي يوقع الظهائر ولكن ليست له أي سلطة حقيقية، ولا علاقة له إلا بمستشار الحكومة الشريفة الذي يلتقي معه يوميا، وهذا كل شيء في ما يخصه..إنه معزول جدا، وقابع في قصره، لقد وقع تهميشه بإفراط في ما يتعلق بتدبير الشأن العام (..) وأما الصدر الأعظم ووزراء الحكومة الشريفة الآخرون فإنهم لا يشاركون في أي شأن ذي أهمية، وكل القضايا المهمة تتم معالجتها من طرف المصالح الفرنسية، ولا يعلمون عنها إلا النزر القليل الذي يمدهم به مستشار الحكومة الشريفة؛ وهذا الأخير نفسه لا يعلم عن تلك القضايا إلا أشياء محدودة، خاصة أن تكوينه لا يسمح له بالقيام بعروض تقنية". جاذبية "الإصلاحات" إن ما كان يبدو مشكلة حقيقية وعقبة كأداء أمام مواصلة هذه السياسة الاستعمارية، ليس هو واقعها الموضوعي كما جاء في هذا التحليل الصادق للجنرال ليوطي نفسه، وإنما هو إشكالية تغيير هذا الواقع وفقا لمعطيات ما بعد الحرب العالمية الأولى. بمعنى آخر، كانت كل عناصر الإدارة الكولونيالية، بدءا من المساعدين الأقربين للجنرال ليوطي، ووصولا إلى أعوان التنفيذ، على معرفة دقيقة بطبيعة النظام الاستعماري الذي فرضته فرنسا على المغرب؛ لكن الجديد بعد مرور ثماني سنوات على إقامة هذا النظام هو أن المغاربة شاركوا مشاركة فعلية في الحرب الكبرى من أجل الدفاع عن فرنسا وتحرير أجزائها المغتصبة، وها هي فرنسا بعد الحرب الكبرى مازالت متمادية في استعمار بلادهم، ولا تتردد في مواصلة الحرب ضدهم حتى وإن كانت تسميها «تهدئة» ! أليست هذه مفارقة هائلة؟ وهكذا، تفاديا لوقوع أي انفجار شعبي محتمل ضد الاحتلال، عمد الجنرال ليوطي إلى استغلال سذاجة وعدم تبصر بعض شرائح المجتمع المغربي من خلال إعطائها المظهر الخادع لاهتمامه الشخصي بضرورة مشاركتها في تدبير الشأن العام، وهذا ما كان مطابقا تماما لالتزامات فرنسا في ما يتعلق بالقيام ب«إصلاحات» في البلاد منذ 1912... وتجدر الإشارة إلى أن كلمة «إصلاحات» كانت لها شحنة سحرية لم تسلم من تأثير تنويمها المغناطيسي أعداد وفيرة من المغاربة في ذلك الزمان. لقد تم القضاء على التجمعات المهنية (الحنطات) ولم يبق منها سوى القليل في فاس ومراكش، وازدهرت في مقابل ذلك اللجان البلدية، وغرف التجارة والفلاحة والجمعيات؛ وكلها تنظيمات تعود فيها سلطة القرار ومساطر التنفيذ للعناصر الفرنسية. لقد تم القضاء على روح كل المؤسسات المؤطرة للشعب المغربي، وهذا هو ما كانت تعنيه «الإصلاحات» على أرض الواقع ! وإذا ما أضفنا إلى هذه الحصيلة نظاما تعليميا عنصريا تعطى فيه الامتيازات لليهود وللأوربيين، ونظاما دعائيا كان من مهامه كبت حرية التعبير عند الأهالي، وممارسات استعمارية غاشمة تقوم باستصدار ما تريده من ظهائر، مستهدفة من ورائها الاستغلال لخيرات البلاد والعبث بمقومات الهوية الثقافية لسكانها، عندها تكتمل عناصر المشهد الكولونيالي التي لم تكن خافية عن دهاء ليوطي ومكره. وكان مما زاد في ارتباك المقيم العام تدهور الوضع الدولي تحت تأثير الدعايات الاشتراكية ولهيب الثورة البلشفية المناهضة للإمبريالية. لقد «داخ» ليوطي وكان رد فعله هو قراره بتوجيه مذكرة «الضربة المدوخة» إلى كافة معاونيه، محذرا إياهم من مغبة الانغماس في ملذات الغنائم الاستعمارية: "إن الاعتقاد بأن المغاربة لا يدركون أنه تم تهميشهم في تدبير الشأن العام هو حتما اعتقاد من صميم الخيال ليس إلا، إنهم يتألمون لذلك ويعبرون فعلا عن ألمهم هذا؛ إنهم يتابعون الأحداث عن كثب وعلى علم حقيقي بما يجري في العالم، ويمكن الجزم بأن هناك تيارات فكرية وتجمعات سرية تأسست بجوارنا وبدون علمنا، وأن التعليقات حول الأحداث العالمية والوضع الإسلامي لا بد في يوم ما أن تأخذ شكلا من الأشكال وتنفجر في وجهنا إذا لم نأخذ في أقرب وقت ممكن زمام المبادرة". ولم ينس ليوطي أن سياسته المغربية في خطوطها العريضة كانت رهينة بمدى تقدم العمليات العسكرية، وأنه في هذه النقطة بالذات كانت إستراتيجيته وستظل هي حقن دماء الفرنسيين قبل كل شيء، مستحضرا بالمناسبة دروس أستاذه الجنرال كالييني الذي عنه تعلم أساليب الحرب الكولونيالية حين كان تحت أوامره في مستعمرة مدغشقر: "وأضيف أن انشغالي المهيمن سيظل هو حقن الدم الفرنسي، واعتقد أنه من حقي الإعلان عن التزامي الدائم بهذا المبدأ، تماما كما علمني رئيسي وأستاذي الجنرال كالييني الذي كان يعتبر ذلك من الأساليب الخاصة للحرب الكولونيالية، بحيث يجب دائما استعراض القوة لتفادي استخدامها". وركز ليوطي في مذكرته على ضرورة خلق «نخبة» مغربية تتشكل عناصرها من طبقة الأعيان وعلماء جامعة القرويين، ولكن شريطة أن يخضع تطورها لمشيئة السلطة الاستعمارية. عندها، يقول ليوطي، "سوف لن تسلك هذه النخبة مسارا خارج النطاق الذي رسمناه لها، وسوف تكون في منأى عن المؤثرات الخارجية والدعايات الثورية". كما جاء التركيز على رمزية السلطان وضرورة توظيفها بشكل مكثف: «ليس في وجه القبائل الخاضعة فحسب، بل كذلك في وجه القبائل المنشقة». وتجدر الإشارة إلى أن مذكرة «الضربة المدوخة» لم تأت بشيء يذكر حول المسألة البربرية، ما قد ينم عن تشكك ليوطي في نجاحها، لاسيما وأن المذكرة اعترفت بوحدة الشعب المغربي، وبأنه كان يجتاز أزمة حكومية أكثر منها اجتماعية. ومهما يكن من أمر، فلقد تجلى دهاء ليوطي في تغلبه على الإكراهات التي واجهته بعيد الحرب الكبرى، واستطاع بالإضافة إلى ذلك أن يدخل المرحلة الجديدة بأسلوب قديم في جوهره الاستعماري ولكنه متجدد في مظهره الدعائي. لقد كان ليوطي داهية كولونيالية من الصنف الأول، وكانت ضرباته للهوية المغربية فعلا مدوخة!. *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة - طنجة