كشفت حملة مقاطعة منتجات مغربية معينة، بسبب ارتفاع أسعارها أو نقص جودتها، عن حاجة المغرب الملحة إلى مجلس المنافسة المعطل منذ حوالي خمس سنوات بسبب عدم تعيين أعضائه بعد نهاية ولايته، خصوصا في ظل تهرب الحكومة من الضرب بيد من حديد على يد الشركات المخالفة لقوانين السوق والتنافسية بداعي وجود "دركي الأسعار" المنصوص عليه في الدستور. عبد العالي بنعمور، رئيس مجلس المنافسة، فجّر، في حواره هذا مع جريدة هسبريس، معطيات مثيرة للقلق، مؤكداً أن سمعة المغرب تضررت كثيراً أمام الشركات العالمية متعددة الجنسيات بفعل جمود هذا المجلس؛ وهو ما دفع إحدى الشركات الأجنبية الكبرى بالمملكة إلى الاحتجاج. وحول حملة المقاطعة غير المسبوقة في تاريخ المغرب، والتي استهدفت ثلاث شركات كبرى تعدّ رائدة في قطاعاتها وهي: مياه "سيدي علي" المعدنية، ووقود شركة "أفريقيا"، وحليب شركة "سنترال دانون"، أكد بنعمور أنه لو كان مجلس المنافسة يقوم بدوره بالشكل المطلوب لتفادى المغرب هذه الحملة؛ لكنه ألمح إلى وجود لوبيات اقتصادية ترفض وجود سلطة رقابة لمجلسه. كما يرد رئيس مجلس المنافسة على لحسن الداودي، وزير الشؤون العامة والحكامة، الذي رمى بعطالة المجلس في مرمى المؤسسة الملكية. إليكم نص الحوار: بداية، ما هي أسباب استمرار جمود مجلس المنافسة منذ ما يقرب 5 سنوات؟ ماذا سأقول لك؟ مجلس المنافسة بدأ عمله في بداية هذه الألفية، وكان هناك قانون 06.99 الذي ينظم اشتغاله؛ لكنه لم يدم العمل به إلا بضعة أشهر، لأن أعضاء المجلس اكتشفوا أن هذا النص لا فائدة منه ويعطيهم فقط دورا استشاريا، فبقي المجلس جامداً إلى غاية 2008 حينما عينني صاحب الجلالة على رأس المجلس. بعد هذه الفترة، ناضلنا لما يقرب 7 سنوات لإخراج نص جديد في 2015، وهو القانون الذي جاء متقدماً مثل عدد من الدول الرائدة؛ لكن للأسف كانت المصادفة أن مدة انتداب الأعضاء انتهت في أكتوبر 2015، بدون تجديد ولايتهم إلى غاية اليوم. خلاصة القول إن مجلس المنافسة أمضى سبع سنوات بنص غير صالح، واليوم يوجد نص صالح بدون مجلس قانوني. تبدو هذه الوضعية غريبة، هل تتحمل الحكومة السابقة مسؤولية التأخير الذي وقع؟ ليس فقط الحكومة السابقة؛ بل جميع الحكومات، من ضمنها حكومة العثماني الحالية، لأن القانون الجديد ينص على أن الملك محمدا السادس يعين الرئيس لمدة خمس سنوات متجددة، وبالنسبة إلى الأعضاء فرئيس الحكومة هو من يعينهم بعد استشارة الأوساط المعنية بالأمر. فنحن لا نعرف أسباب عدم تغيير هؤلاء الأعضاء إلى حدود اليوم. في البداية، كنا نعتقد أن الأمر يتعلق بالبطء الإداري؛ ولكن مع مرور السنوات يحق لنا التفكير في أسباب أخرى تقف وراء هذا الجمود. وهنا أستحضر ما كان زملاؤنا في المجلس الألماني للمنافسة الذي كانت تجمعنا معه توأمة، حيث كان يحذرنا دائما من أن مجالس المنافسة دائماً تتعرض في بداياتها لمقاومة شديدة من قبل بعض الجهات نظرا لوجود مصالح متداخلة يمكن أن تمس بمصالحها الاقتصادية والربحية. أنت تُلمح بشكل واضح إلى وجود حرب تخوضها لوبيات اقتصادية كبرى ترفض وجود سلطة رقابية لمجلس المنافسة. هل يمكن أن نعرف من هي؟ سأعطيك مثالاً يرد على سؤالك. عندما كنا نناضل من أجل إخراج نص جديد للمجلس كانت جميع الأوساط المعنية (إدارية واقتصادية وأكاديمية وحقوقية) تشجعنا بكلام جميل على المضي قدما لإخراج نص متقدم؛ لكن وراء هذا التشجيع تأخر النص لسبع سنوات. ماذا يعني هذا؟، يعني ببساطة أن الخطاب لا يواكب العمل، أو الشفوي في واد والتصرف في واد آخر. نحن الآن داخل مقر مجلسكم الذي يُوجد في فترة عطالة لسنوات، والأكيد أنكم تتقاضون رواتبكم بشكل مستمر بدون عمل. هذه وضعية مُثيرة تجعلكم أشباحاً. هل تتفق مع هذا الطرح؟ يُوجد داخل هذا المجلس 20 إطاراً موظفاً.. وبطبيعة الحال، نحصل على رواتبنا، وهذا الأمر يجعلنا في عقدة دائمة. (يضحك) الغالب الله "الناس جالسة والعمل الحقيقي مكيديروهش". أما بالنسبة إلى الأنشطة التي نقوم بها، نحن لا نقوم بالإحالة الذاتية أو إخراج دراسات للعموم في ظل غياب تركيبة المجلس، نقوم فقط بالنظر في شكايات وطلبات الرأي التي نتوصل بها، حيث أقوم بتكليف مقرر لإعداد دراسة في موضوع معين. مثلاَ، أعددنا طلب رأي بخصوص قضية المحروقات وانتهينا من ذلك، ولدينا مقترحات عملية بخلاصات واضحة؛ لكن أين هو هذا المجلس الذي سيبث في التقرير كما ينص على ذلك القانون. يعني أنكم تقومون ب"تحليل رزقكم" وفقط، بالرغم من أن العمل الذي تنجزونه يبقى حبيس هذه الجدران؟ في بداية الأمر، كنت أحيل الطلبات التي نتوصل بها على المقررين وأشجعهم على القيام بذلك كما لو أن المجلس موجود.. كنا، فعلا، متحمسين جداً؛ لكن عندما تقوم بهذه الإجراءات بدون جدوى لمدة شهور وسنوات تتلاشى قريحتنا.. أطر المجلس مدمرون إزاء هذه الوضعية؛ لأنه من غير المعقول أن ننجز دراسات وآراء لنملأ بها الخزانات. هل يُمكن أن نعرف طبيعة الشكايات التي تتقاطر على مجلسكم؟ لا يمكن أن أتحدث عن الجهات التي تراسلنا؛ لكن نتوصل دائماً بشكاوى من قبل جمعيات وأخرى تخص خروقات في طلبات العروض وقطاع المحروقات والتجارة الإلكترونية وقطاعات كثيرة. وصلنا اليوم إلى أكثر من 60 طلب رأي وإحالة؛ منها 40 إحالة قمنا بدراستها، والبقية في طور الإنجاز. في كثير من الأحيان، نحس بالضحك.. تخيل معي نتوصل بطلبات تخص التمركز مثلاً، نستلم الطلب وندرسه ونستدعي المعنيين بالأمر ونحيل القرار على رئيس الحكومة الذي يؤشر بدوره بنعم أو لا، وكل هذا فقط من أجل التجربة. طيب، نمر إلى حملة مقاطعة مغاربة لثلاث شركات كبرى. لو أن مجلس المنافسة يقوم بدوره هل كان بإمكانه تقديم إجابة عملية وإجراءات زجرية لو ثبت تقصير شركة معنية؟ لتوضيح الأمور لقراء هسبريس، الاقتصاد المغربي له ركيزتان أساسيتان، الأولى ما يُسمى بles Oligopoles، أي هيمنة 3 أو 4 شركات على القطاع المعني بالأمر. وعالمياً ليس فقط في المغرب، عندما تدرس التصرف اللاتنافسي داخل هذه الشركات يمكن أن تتفق مثلاً مع بعضها من أجل إبراز شركة معنية أو أن تقوم الشركة الرائدة بتحديد ثمن منتج معين على أساس أن تتبعها بقية الشركات لتقوم بزيادات تحت طائلة المنافسة؛ لكن في الواقع هناك اتفاق سري لرفع الأسعار بهذه الحيلة. لا أقول إن هذا يحصل في المغرب. حالات أخرى غير أخلاقية يمكن أن تتجلى في تصرفات تعسفية من لدن شركات مهيمنة، وأريد أن أشير هنا إلى أن هيمنة الشركات ليس ممنوعا بل الممنوع هو استعمال الموقف المهمين في تصرفات لا تنافسية. كمثال على ذلك شركة "x" تنتج مادة معنية وجاءت شركة أخرى تريد الدخول إلى السوق قصد المنافسة، فتقوم الشركة "x" المهيمنة بالبيع بثمن أقل لصد الأبواب أمام الشركة المنافسة.. وهذا يعتبر تعسفا من قبل الطرف المهيمن، وهو أمر ممنوع في قوانين المنافسة الشريفة. إذن، الاقتصاد المغربي بحكم أن جزءا كبيرا منه يدخل في هذا الإطار يمكن أن يحتوي على تصرفات منافية للمنافسة، وبالتالي علينا مراقبة هذا القطاع. أما بخصوص المقاطعة، لو أن المجلس بصلاحياته بطبيعة الحال كان سيعمل على مراقبة ما يجري داخل بعض الشركات الكبرى، ولا ربما تفادينا بعض المشاكل الموجودة اليوم في الساحة وأسهمنا في تخفيف حدة الاحتقان. كيف ذلك؟ سبق أن قمنا بدراسة حول مادة الحليب منذ ست سنوات، ولو أن المجلس يعمل كان يمكن أن نعود إلى خلاصات هذه الدراسة للتحقيق في وجود اختلالات من عدمها. قانون المنافسة يعطي الحق أن نفرض عقوبات تصل إلى 10 في المائة من رقم معاملات الشركة المخالفة. النص يشدد على ردع المخالفين إلا أنه ينص على أن العقوبة لا يجب أن تؤدي إلى إغلاق الشركة وقطع الأرزاق. أقصد أن المجلس كان سيعمل على مراقبة هذه الشركات التي قاطعها المغاربة للوصول إلى نتيجة واتخاذ قرارات ضد المخالفين. ما هي أبرز الخلاصات التي وقفت عليها الدراسة السابقة المنجزة حول مادة الحليب؟ هي فقط دراسة مسحية، حيث وجدنا بوادر تصرفات منافية لقوانين المنافسة، من قبيل شركة رائدة تقوم أولاً بتحديد سعر الحليب لتتبعها فيما بعد بقية الشركات؛ ولكننا لم نقم بالتحري، لأنه لم يكن لدينا حق فتح تحقيق كما يتيح لنا القانون الجديد اليوم، لكن لم نستعمله بعد لأننا في حالة عطالة. يعني أن الفراغ الذي تركه مجلس المنافسة مهد الطريق أمام الشركات لرفع الأسعار بطرق غير قانونية، خصوصا أمام موجات ارتفاع الأسعار التي شهدها المغرب منذ سنوات؟ بطبيعة الحال، نحن نعيش في اقتصاد سوق معولم، والمغرب ذهب في هذا الاتجاه، والقانون الذي يؤطر ذلك هو حرية الأسعار والمنافسة على شرط عدم وجود تصرفات منافية للمنافسة؛ غير أن المجلس المفروض فيه أن يقوم بدور دركي القطاع غير موجود، وهذا ما يفتح الباب أمام جميع التصرفات المنافية للمنافسة. إذن، ننتظر موجات جديدة من ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية؟ أكيد، ليس فقط في المغرب؛ بل في جميع البلدان التي لا تتوفر على مجالس المنافسة. لحسن الداودي، وزير الشؤون العامة والحكامة، قال، في جلسة برلمانية صاخبة حول حملة المقاطعة جوابا عن سؤال تفعيل مجلس المنافسة، إن "الحكومة ستقوم بواجبها في انتظار تعيين الرئيس الجديد". هل ترى أن الحكومة رمت الكرة في مرمى المؤسسة الملكية باعتبارها المخولة بتعيين الرئيس؟ فعلا، الرئيس يعينه الملك؛ ولكن الأعضاء يتم تعيينهم على مستوى الحكومة، ورئيس الحكومة يملك صلاحيات تحريك المؤسسات بينما رئيس الدولة يُمكن أن يكون لديه انشغالات كثيرة، ما الذي يمنع الحكومة من تحريك هذا الملف الجامد؟. سبق لي أن التقيت عبد الإله بنكيران عندما كان رئيسا للحكومة وعندما كنت أطرح الموضوع، كان جوابه: "درنا شغلنا"، وهو نفس الشيء مع الرئيس الحالي سعد الدين العثماني. ما هي أبرز تأثيرات غياب مجلس المنافسة على عمل الشركات؟ القانون الجديد يعطينا حق البت في التمركزات الاقتصادية. في البداية، كنا نتوصل بملفات مهمة وراءها شركات عملاقة متعددة الجنسيات؛ لكن الحكومة كانت تتباطأ في تدبير شؤون هذه المقاولات، فتبين لنا أن الأمر يسيء إلى سمعة المغرب، خصوصا عندما احتج علينا محامي إحدى الشركات الأجنبية وأخبر المقرر العام في اجتماع يأن هناك شركات منحها رئيس الحكومة الرخصة انطلاقا من القانون القديم بينما منعت شركته، فقمنا بالاتصال بمصالح رئاسة الحكومة لإعطاء الترخيص إلى الشركة انطلاقا من القانون القديم لأن الأمر يتعلق بسمعة الدولة. في فرنسا، ضبط مجلس المنافسة 5 شركات أوروبية تُنتج الصابون وتتواطأ داخل السوق الفرنسية لرفع ثمن المنتوج، فقام مجلس منافسة هذا البلد بفرض غرامة بلغت 360 مليون أورو. نحن لا نقول إن جميع الشركات فاسدة؛ لكن -كما يقوم المثل المغربي- "حوتة تخنز شواري". ما هو موقف المؤسسات الدولية المالية من استمرار غياب مجلس المنافسة بالمغرب؟ هذا سؤال مهم جدا، بالفعل البنك الدولي والاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي في إطار العلاقات التي تجمعهم مع الحكومة المغربية يؤكدون في اجتماعات متكررة على ضرورة تعيين أعضاء مجلس المنافسة، وأتوفر على مراسلات في هذا الشأن. هذا شرط ضروري يطالبون به؛ لأن اقتصاد السوق لا يمكن أن يكون سوياً في غياب مجلس المنافسة. للأسف، وضع المغرب محرج مع المؤسسات العالمية. لديّ اجتماع مباشرة بعد هذا الحوار مع البنك الدولي، والأكيد أنهم سيستفسرون عن المجلس مجدداً.