عندما تقرر الدولة الدينية التحول إلى دولة علمانية وتفصل بين الدين والدنيا ، هل تحولها ناتج عن حتمية تاريخية تمشيا مع التطور الذي عرفته أم هي تتحول فقط كي يقال عنها أنها دولة ديمقراطية ، تحترم حقوق الإنسان ولا تنتج أو تدعم التطرف؟ وإلى أي حد يلعب الدين داخل الدولة الدينية - انطلاقا من الحدود التي يرسمها - دور" الرقيب" الذي يساهم في الحفاظ على منظومة القيم التي تمنع المجتمع من التحول إلى غابة يحكمها قانون مخترق بفيروسات الفساد وعلى رأسها الفضائح الاجتماعية والسرقات المالية والرشاوى والاستبداد ؟. فعلى الأقل ورغم الانحرافات الدخيلة مازالت بعض الدول الدينية تحارب الزواج المثلي ، وتحارب الدعارة وكما تحارب الخمر والمخدرات ، والسؤال هل سيكون باستطاعة الدولة المتحولة –بالتبعية- من دينية إلى علمانية محاربة زواج المحارم مثلا لو ظهرت بوادره ؟ وعلى أي أساس ستبني منعها ذلك مادام المنع لا يوجد إلا ضمن التعاليم الدينية التي تخلت عنها ؟ فقد يظهر في الدول التي تقلد ولا تجتهد من المشاكل الاجتماعية والانحرافات والشذوذ في حالة تفشي الفساد بين حراس الدين ، ما لم يظهر في الدول التي راهنت باقتناع على العلمانية وتلقى مواطنوها تربية تؤهلهم ليكونوا صالحين . لكن ، من جهة أخرى ، أليست تركيا دولة علمانية ؟ فلماذا لم يظهر فيها فساد "قوم لوط" علانية وزواج المحارم ، وزنا المحارم وغيرها من الانحرافات؟ ربما الجواب في تركيا نفسها ، حيث 99% من سكانها مسلمون ، متشبثون بتقاليدهم العريقة وأصولهم وأصالتهم حتى النخاع . فتدينهم لا يمنعهم من الاستفادة مما يحققه غيرهم من تقدم فيما يتعلق بالإنجازات " العلمية" . فهم مدركون أنه لا بد من تربية الإنسان التربية الصالحة كي يتطور الإنسان والمجتمع ، و يستطيعا الصمود في وجه التيارات الفكرية الجارفة والعقبات الممانعة . فالدولة التي تهتم بالاقتصاد والمصالح فقط ولا تهتم بتكوين مواطنيها التكوين السليم ، ستكون أول ضحية لمّا تتحول ساحتها إلى ساحة فساد في السلم، وساحة حرب زمن الفتن. قال جون لوك (1632-1704) الفيلسوف التجريبي والمفكر السياسي :" الطفل صفحة بيضاء " . والإشارة لتاريخ ميلاد جون ووفاته فقط لإدراك الزمن الفاصل بين جون لوك ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم القائل:" كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " . بمعنى أن التربية الحقيقية والأصيلة تنطلق من الأسرة التي هي نواة المجتمع ، وعلى أن تعزز هذه التربية وتتغذى خارج مؤسسة الأسرة في النوادي واللقاءات والمدارس والمعاهد،لتحضير المرء لتحمل المسؤولية محليا أو دوليا. فالتربية التي يتلقاها الطفل داخل أسرته هي بمثابة نظام التشغيل ( windows)بالنسبة للكومبيوتر ، والتي بدونها لن يستطيع الطفل تأهيل نفسه ليكون فاعلا ومتفاعلا . أما ما يتعلمه المرء خارج نظام الأسرة فهو بمثابة " البرامج الإضافية" التي تغني نظام التشغيل وترفع من أدائه . وإن أهم ما يتعلمه الطفل داخل الأسرة " المسلمة" حب الله وحب الوالدين والناس، معرفة الرسل، وجود الجنة والنار والثواب والعقاب ، وإلى جانب ذلك بنك من القيم الأخلاقية النبيلة . فإن وضع نظام التشغيل جيدا ، فإن ذاك النظام سيعمل بطريقة جيدة وسيرضي دون شك كل من يتعامل معه . وإن وضع لهذا النظام كلمة سر " اتق الله حيث كنت " فبطبيعة الحال سيكون مؤمنا و لا خوف عليه. بطبيعة الحال لو ربى الأبوان طفلهما التربية الصالحة فحتما لن تؤثر فيه التغييرات المفاجئة ولا الثقافات الغريبة عن تربته ، لأن له الحصانة الكافية التي يكتسبها يوميا داخل البيت و بثقة عميقة . وإذا كان جان جاك روسو يرى بأن الإنسان طبيعة خيرة والفساد من المجتمع ونظمه، فإن رؤيته تلك لم تأت من فراغ . فالذين يَثِقُون في نظم المجتمع ويتخلون عن تربية أبنائهم بأنفسهم طبق المبادئ والقيم الرفيعة إنما يعرّضون أبناءهم للفساد . فالدولة مسؤولة عن شؤون مواطنيها ولا يمكنها درء الفساد كله عنهم لأسباب موضوعية، فهي ليس بإمكانها منح كل طفل على حدة ما يستحق من تربية صالحة ، إيمانا منها بأن المسؤولية الأولى والأخيرة تقع على عاتق الآباء قبل السياسيين . فقد يخضع السياسيون لتوصيات أممية ، لكن القول الفصل يبقى للآباء في إتباع أو عدم اتباع سياسة الدولة المقترحة إن أدركوا أن تلك السياسة لا تتمشى وإرثهم وأصالتهم ، لأنهم هم المسؤولون المباشرون عن تربية فلذات أكبادهم ( الحرية للطفل ليس معناه عدم المراقبة والمحاسبة) . فالوالدان هما الراعيان الأساسيان المباشران في تربية الأبناء ، وليس المؤسسات الحكومية ." كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته، الحديث". يضع الوالدان قبل غيرهما مسؤولان عن التربية التي يتلقاها الأبناء .وإذا كان النظام التربوي التي تقترحه الدولة بالإمكان رفضه .وعلى ذلك الأساس قام الربيع العربي ، حيث خرجت الشعوب لتقول كفى للفساد والإفساد . لكن السؤال ، إذا كان واقع الحال يشهد عن تخلي المواطنين سنة بعد أخرى عن أصولهم وأصالتهم بعد تعرضهم للغزو الفكري- وهم ضمن الدولة الدينية - فكيف سيصبح حالهم في ظل الدولة العلمانية ؟ يقول أردوغان:" لست علمانيا ، فأنا مسلم لكني رئيس وزراء دولة علمانية [..] والدولة العلمانية لا تعني اللادين. و السؤال ، هل" لست علمانيا " كما قال أردوغان ، تحيلنا إلى تربيته الأولى ، ونظام تشغيله الإسلامي الذي يقبل التحديث والتطوير والتجديد ولا يقبل الردة ؟ هل معنى ذلك أن نواة ثقافته المبنية على الإسلام وما يحفل به من قيم، مصانة ببرنامج حماية من الطراز العالي اسمه " الايمان الصادق" . وأن كل التجارب التدبيرية والسياسية في علاقتة مع الغرب ومع الهيئات الدولية ما هي إلا برامج تكميلية تطور الذات ولا تخربها؟ وهل الإنسان المسلم حسب ثمثلات السيد أردوغان يستطيع التكيف مع جميع الحضارات والأديان شريطة إيمانه الحق بوجوده ، وبغائية هذا الوجود كمسلم ، وإلا ضاع وتهالك ؟ قد تنجح دولة علمانية وتحقق التَّميُز، وقد لا تنجح دولة أخرى وإن اختارت أن تصبح علمانية. وعلى العموم ، لا الدولة العلمانية ولا الدولة الدينية ولا الدولة الليبرالية استطاعت أن تؤمن للفرد "جوهره" ، وأن تحافظ على توازن الأسرة دون تشوه ، الأسرة تتلاشى يوما بعد يوم عبر العالم . فالقوانين التي تشرعها الدولة عبر مؤسساتها انطلاقا من مرجعيات دولية ، و يتم فرضها على المواطن ، تجعل رب الأسرة عاجزا تماما عن التحكم وتربية أبنائه التربية الصالحة ، وخاصة عندما يكون الزوجان غير واقعيين ، أي تائهان بين الأصالة والمعاصرة. وما النجاحات التي تحققها بعض الأسر إلا ثمرة تفاهم عميق بين الزوجين ونتيجة لفهمهما الفهم الصحيح للدين وتطبيق تعاليمه في كل المعاملات . أما الأسر التي تحررت من كل الضوابط ، وبدأت تستهلك أي شيء ، وتتيه تحت ضغط الإكراهات فلا نظنها ستقول كما قال أردوغان بأنها علمانية ولكنها مسلمة لسبب واحد : أنها لم تعد تفرق بين الدين واللادين. وبالعودة إلى تصريح السيد أردوغان :" لست علمانيا ، فأنا مسلم ، لكني رئيس دولة علمانية " نتساءل إن كان يريد أن يقول بينه وبين نفسه :" أنا لست علمانيا ، فأنا لا أفرق بين الدين والدولة في قرارات نفسي، فالدين جوهري" القرص الصلب الإيماني" ، ولكن ،رغم ذلك أسير دولة علمانية تتطلب مني أن أضمر ديني وأحول تعاليمه – دون الإشارة إليه صراحة- إلى معاملات طيبة دنيوية وأن أسعى – بطريقتي - لجلب المصالح لضمان قوة تركيا وبالتالي قوة بلد إسلامي . ويمكنكم محاكاتي في ذلك إن كان لكم نفس الاستراتيجيا". لكن الذي لم ينتبه إليه السيد أردوغان ربما، هو أن قناعاته أو قناعات شعبه –ربما- ليست بنفس الدرجة مع قناعات شخصيات وشعوب أخرى . فالتربية تختلف، والتاريخ مختلف والظروف ليس هي نفسها بالنسبة للناس كافة ،وقدرة الإنسان على إخفاء حبه للدين والظهور بمظهر العلماني ليست في متناول أي أحد. ولأن الربيع العربي عرى على واقع عربي رث ، وكشف عن مقت بعض الحكام العرب لشعوبهم إلى حد قتلهم بالبارود، ولأن جامعة الدول العربية أثبتت فشلها مرة أخرى ، وتبين بالملموس أن البلدان التي تملك القوة والنفوذ هي الدولة الغربية ،كما رشح أن أموال الدول العربية من ألفها إلى يائها تملأ بنوك الغرب ، بينما دول عربية فقيرة لا تجد الوسيلة ولا الفضيلة لانتشال شعبها من الفقر. وكما اتضح ظهور قوى الأقليات في كل بلد عربي ، فأصبحت تلك القوى تشكل تهديدا لأوطانها رافعة يافطة التقسيم مرة ، ويافطة قلب الطاولة مرة أخرى ، مشكلة طابورا خامسا للدول الاستعمارية. في هذا الوقت بالذات ، يرى أردوغان أن العلمانية "حل" لما قد ينشأ من مشاكل في الوطن العربي في حالة محاولة " إسلاميين عائدين بقوة" في مصر وتونس وليبيا واليمن والأردن ، العمل على قيام الدولة الإسلامية التي لن يقبل الغرب بقيامها على طريقة طالبان وعلى حدوده ، لكنه قد يقبل بدولة دينية معتدلة ، تحقق حاجته للأمن . والسؤال هل باستطاعة أي دولة أن تتحول بين ليلة وضحاها من دولة دينية إلى دولة علمانية كما اقترح أردوغان على المصريين مثلا، ودون المرور من مراحل تحضر فيها الدولة نفسها وتحضر شعبها كذلك ليتعامل مع المستجدات دون التفريط في أصالته ومحجته ؟ فلكي يدرك المسلم بأنه يستطيع العيش داخل الدولة العلمانية (تكتيك جلب المصالح)وهو مسلم لا بد له من أن يفرق بين احتياجاته واحتياجات دولته ، وبين هدفه في الحياة وهدف دولته، ثم بين منهجيته لتحقيق رفاهيته ومنهجية دولته لتحقيق رفاهيتها . ولا يمكن تحقيق ذلك إلا إذا أدرك المواطن المسلم بأن "إيمانه " رأس ماله الذي لا يمكن التفريط فيه تحت أي ذريعة تأتي بها الدولة . فالدولة لها أن تشرع كما تشاء وأن تحين قوانينها في انسجام مع الهيئات الدولية كيف تشاء " ، لكنه ، هو كمسلم لا بد له أن يحتفظ بعلاقة طيبة تربطه مع ربه، ولألا ينجر وراء الشبهات والمظاهر الزائفة .وقتها يمكن للدولة أن تتحول إلى دولة علمانية وهي مطمئنة لأنها تعلم أن شعبها متمسك بعقيدته بقوة، ولا خوف عليه من التأثيرات الخارجية. هناك مثل صيني مشهور يقول:" لا تعطيني سمكة بل علمني كيف أصطاد السمك" . أي علمني كيف أعول على قدراتي كي أحيا وأعيش . فعندما تهتم الدولة بالأسرة اهتماما شرعيا لا اهتماما اقتصاديا ومعيشيا ، ستبنى الأسرة بناء صحيحا قادرا على مقارعة كل التحولات ، وستقوم الدولة الدينية الديمقراطية حينها بدورها كاملا لتحقيق العدل والمساواة بين مواطنيها.فالذي يقف وراء نجاحات الدولة العلمانية هو الإنسان، والذي يقف وراء إخفاقات الدولة الدينية هو الإنسان . نفس الإنسان فأين العيب ؟ التربية . فالأول تربى على حفظ الأمانة ، بينما الثاني تربى على إشاعة الفساد و الخيانة . بالمثال الثاني لن تتمكن الدولة الدينية تحقيق أي تتطور- ولو تحولت إلى دولة علمانية - إلا إذا أعادت بناء الأسرة من جديد على أسس صحية و صحيحة –" لو كان فيهما آلهتان لفسدتا"-، وجعلت الشريعة أو القانون الطريق السيار نحو الدولة الديمقراطية حقيقة لا شعارا .