وجدة مدينة مكافحة، تصنع أمجادها بجهود أبنائها وإمكانياتها الذاتية المتواضعة، وتزاحم العواصم بالأكتاف بغية إثبات الذات، فلا يخلو يوم من أيامها من نشاط ثقافي أو علمي، أو معرض أو أمسية، أو ندوة أو محاضرة... ولذلك اعتبارها عاصمة للثقافة العربية حدث مستحق، تكريما لها بين المدن، ولساكنتها بين الأمم، وهذا يثلج الصدور، ويملأها غبطة وحبورا، ولا فضل فيه لسياسي أو زير أو مسؤول أو خفير... وقد سعدت بحضور الاحتفال الافتتاحي الذي حشدت له جهود تنظيمية مشكورة، واستمعت للكلمات الجميلة والمعبرة التي تفضل بها المسؤولون، وإن كان أكثرهم لا يؤمن بما يقول، وليس بينه وبين الثقافة صلة، لكنها كانت جيدة ومعبرة، شكر الله من كتبها لهم ودبجها، وجعلهم يتحمسون في إلقائها بفخامة وكأنهم في مسابقة أحسن إلقاء... كانت عرابة الحفل متحمسة، بلغة سليمة وجميلة، وبحضور قوي على الخشبة، لكنها لخصت الحفل في عباراتها الافتتاحية بأن ثقافة المنطقة، وما يميزها هي/هو: ثقافة الرقص والغناء والطرب، وهذا ما يميز وجدة؟؟؟...وكانت كالتي نقضت غزلها، وجاء التقديم فعلا بمفهوم غريب ورديء وبئيس، جعل الانطباع الغالب فعلا أن الثقافة غناء وطرب ورقص، فما خاب ظنها، فمعظم فقرات الحفل كانت رقصا وغناء، بعضه لا صلة له بالثقافة المحلية أو الوطنية، فلست أدري ما علاقة الباليه والحركات الهندوسية بوجدة، وساكنتها البسطاء، فالباليه رقص وثقافة لأصحابه، وما كان له أن يأخذ ما أخذ من البرنامج والحضور، وإن كنا لا نحجر على اختيارات الناس... لكن ليس في أعين من حج ليطلع عن كثب على ثقافة وجدة المغربية، وحتى لا يتهمنا أباطرة الباليه بالسطو على ثقافتهم وخصوصياتهم... إن ترشيح مدينة وجدة لتكون عاصمة للثقافة العربية، لم يكن لسواد عيون المسؤولين، ولا لحذقهم وشطارتهم...إنما كان بفضل الجهود التي أنكرت، وتعمد القائمون الراكبون على المناسبات إخفاءها... اتضح ذلك جليا في الشريط المحكم الذي أنتجته الإذاعة الوطنية، وهو شريط موجه وقاصد، يصلح للترويج السياحي لا لثقافة المدينة وحضورها الوازن المتمثل في كثافة أنشطتها وتنوعها وانفتاحها واستقطابها للمثقفين من مختلف الجهات والانتماءات، رغم عزلتها المتعمدة، وبعدها عن مراكز القرار وامتيازات المغرب النافع... أتساءل مع الحاضرين من المثقفين الذين حضروا بدعوات، وحضر غيرهم ممن لم يشم رائحة الثقافة ولم يذقها بالبادجات، وتميز هؤلاء عن أولئك في: المداخل والمخارج والمرائب والمجالس... أين الجمعيات الثقافية وأدوارها؟ أين الجمعيات الفنية؟ أين اتحاد كتاب المنطقة؟ أين رابطة الأدب الإسلامي؟ أين الجامعة ونواديها الثقافية؟ أين مراكز الدراسات والأبحاث ؟؟؟ أين المدارس القرآنية والعتيقة التي تؤصل الثقافة وتبنيها، وتشيع التسامح وتربي عليه...بكفاحها وألواحها وتقاليدها، وثقافتها، وطريقة حفظها وقراءتها، وخصوصياتها...؟ أين المساجد التي تحولت إلى مدارس للتثقيف، ومحو الأمية، والتي حققت نجاحات باهرة دون أن تكلف الدولة فلسا واحدا...؟ أليست هذه مؤسسات الثقافة في اصطلاح الأمم؟ أليست هذه المؤسسات هي التي بوأت المدينة لتكون عاصمة؟؟ ألم يكن من الأجدر تقديم بيانات إحصائية بالأنشطة الثقافية التي تقام في المدينة، والتي لمركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية منها وحده ما يزيد على 400 نشاط سنويا...؟ ثم، أين الشعراء، ووجدة مدينة الشعر والشعراء، ألم يكن حريا بالمنظمين أن تلقى قصائد شعرية في المناسبة وعن مدينة وجدة وتاريخها...؟ ألم يكن حضور محمود درويش القامة الكبيرة نشازا، وغياب شعراء المنطقة الكبار، فضيحة؟ ... أين حسن الأمراني، محمد علي الرباوي، عبد القادر لقاح، عبد السلام بوحجر، وحياة خطابي، والباتول المحجوبي، ودنيا الشدادي...ومن في طبقتهم، ومن في الطبقة الثانية التي تليهم...؟؟؟ ألم يكن من المناسب أن تلقى محاضرة افتتاحية في مفهوم الثقافة ودورها في البناء والتنمية، تلقن الناس والمسؤولين مفهوم الثقافة، وتصحح ما رسخ في خرائطهم الذهنية من أن الثقافة هي السيرك والشعوذة والفولكلور والباليه...؟؟؟ مع عدم إنكارنا لكونها جزءا وليس كلا من الثاقفة. ألم يكن تقديم المرأة وتسليعها بالكثافة والابتذال ظاهرا، أليس في ذلك امتهان للثقافة، واستخفاف بالمرأة وبالمثقفين والمثقفات...وترسيخ لفكرة أن المغاربة شعب لا يغار على نسائه...؟؟؟ إن بيننا وبين الثقافة شأوا بعيدا، وهدفا لسنا نبلغه بعقليات متحجرة، تحسب ألف حساب للإنجازات التي لا توافق هواها، فتئدها، وتقبرها... وتضخم ما يناسب هواها فتلمِّعه وتضخِّمه...الإنكار المتعمد والإقصاء الممنهج لا يخدم الأوطان ولا يبني الثقافات، ولا ينميها، ولا يخدم مستقبل البلاد الذي نرجو أن يكون مشرقا بثقافة التسامح وقبول الآخر، وتنويع العرض الثقافي، بعيدا عن الإقصاء وفرض الرأي الواحد...