الخليفة عبد الرحمن الداخل سفاح/ السلطان صلاح الدين الأيوبي أحقر شخصية في التاريخ/ المعراج خرافة/ في سورة "النجم" آية شيطانية/ المسجد الأقصى لا يوجد في القدس، بل في الطريق إلى الطائف... لو كانت هذه الادعاءات صادرة عمن كلامهم يُطوى ولا يُروى ولا يؤدى لحق إهمالهم والإغضاء عنهم؛ أما وأن القائل بها عبر الصوت والصورة هو د. يوسف زيدان، الأديب الموفق والباحث المرموق، فلا مناص من الرد عليها بمقتضى الجهد والاستطاعة، لا سيما أن لا أحد، مغاربيا، حسب علمي، فعل ذلك من قبل. التقيت بالأستاذ يوسف زيدان مرتين، الأولى في 2008 في أبوظبي، بمناسبة فوزه بجائزة البوكر الأولى عن روايته "عزازيل"، وحصولي عليها في القائمة القصيرة عن روايتي "هذا الأندلسي". وأذكر أني هنأته وتبادلنا كلمات مقتضبة، وأخرى عن ناشرنا المشترك "دار الشروق". أما المرة الثانية فكانت في مكتبة الإسكندرية وقت كان يشتغل فيها مدير قسم المخطوطات، فجالسته مع الراحل جمال الغيطاني، ود. آغا نعسان وزير الثقافة السوري الأسبق. وما لا أنساه في هذا اللقاء هو انكفاء الرجل على آلته آيباد، يكاد لا يلتفت إلى جلسائه إلا من طرف خفي، وينطق أحيانا بكلمات قصار ذات علاقة بما يتتبعه في آلته. وفي الغد أنبأني الغيطاني، ربما للتخفيف من استيائي، أن صاحبنا هكذا دأبه حتى مع نخب المصريين، يعاملهم بكثير من الخيلاء والاستكبار. أتجاوز عن كون الرجل أمسى ظاهرة إعلامية، وعن سلوكه العنجهي المركوز في طبعه، لأقف على بعض حضوره الكاسح في الشبكة العنكبوتية "يوتوب"، التي يجول فيها ويصول بصالونه الأدبي، وبالأخص بتصريحاته، التي بجعجعتها وخروجها عن الصواب العلمي، تستفز الأخصائيين وأهل الدراية والمعرفة. ولن أطيل الكلام حول ما تصدى له بعض هؤلاء، فحسبي أن أذكر منهم المؤرخ محمود مكي، المتخصص ذا الباع الطويل في الدراسات الأندلسية، الذي اعترض على قولة زيدان، وهو معه في المنصة نفسها، من أن الخليفة الأندلسي عبد الرحمان الداخل رجل سفاح، وساق له من الدلائل والقرائن ما أسكته. أما تصريحه الآخر -أو لنقل مفرقعته الأخرى- فهو في زعم أن "صلاح الدين الأيوبي أحقر شخصية في التاريخ"، وقد فنده وأظهر سخفه مؤرخون متخصصون في الحروب الصليبية ودور بطل حطين (1187) في هزم الصلبيين وتحرير القدس من خطرهم وشرورهم... وإن كان من إضافة خليقة بالإيراد فهي في ما حظي به القائد المسلم من إجلال وتقدير فائقين خصه بهما عدوه الأشرس ملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد، وكذلك فرقة فرسان الطاولة المستديرة الذين أدرجوا صلاح الدين (Saladin) في أول قانونهم من حيث إن قيمهم (الإقدام والعدل والنبل) تنطلي عليه وتتشخص فيه. وكانوا جميعهم قد علموا بشهادات في حسن معاملته للأسرى والناس العزّل بالعفو عند المقدرة، كما توصي بذلك الأخلاق الإسلامية. فكيف للدكتور زيدان أن يدعي نقيض كل ذلك؟ إن سبب ذمه للخليفة الأندلسي والسلطان الأيوبي هو أن كليهما، في تقديره، "سفاح"، قتل الكثير من الناس، ولا يتساءل عن أيِّ ناس، مع أن المراجع التاريخية تتحدث عن الذين حملوا السلاح ضدهما وسعوا إلى قتلهما طمعا في الاستبداد بالسلطة، ولو بالتحالف مع أعدائهما الخوارج والبرانيين، والاستقواء بهم. وما كان لزيدان أن يقول ما قال لو أنه استحضر، تجنبا للسذاجة في النظر والحكم، شيئا من كتابات العهد الوسيط في طبائع الحرب والسياسة، أو على الأقل "مقدمة" ابن خلدون وكتاب "الأمير" لماكيافيلي؛ ثم ما باله يسكت، من جهة أخرى، عن جرائم الحملات الصليبية المدمرة، وقيام غريمه ريتشارد قلب الأسد بإعدام 3000 أسير مسلم في مدينة عكا بعد أن رفض صلاح الدين تسليمه قطعة من خشبة صلب المسيح. أما مسألة الإسراء والمعراج فإنه يتفضل بإقرار صحة الأول، لكنه ينكر الثاني قائلا بلهجته العامية: "ما عرفشي منين چابوه"، هذا مع أن فريضة الصلاة نفسها شرعت خلاله. وقد رد على إنكاره الكثير من العارفين والفقهاء، كما ردوا على إنكاره الآخر حول مكان وجود المسجد الأقصى، إذ عينه في طريق الطائف، مما أثار إعجاب السلطات الإسرائيلية وجعلها تنوه به وتثني عليه. ووافق ذلك قرار رونالد ترومب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، هذا وقد قلل المنكِر من حجية الآية الفاصلة: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله" (الإسراء،1). أما المفرقعة الأخرى، وهي من المغربات، فتقوم في ما اعتبره يوسف زيدان آية شيطانية، على غرار سلمان رشدي من قبله، وهي الواردة، حسب تقديره، في سورة "النجم": "تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجي". ومن دون ذكر أي مرجع، يدعي بأن الصحابة قالوا للنبي عليه السلام: أتمدح آلهة قريش؟ فأجاب: تلك آية أدخلها الشيطان عليّ. ونعلم أن تلك الجملة لا وجود لها في المصحف العثماني، فيتكلم كما لو أنها صحيحة لا يتطرق إليها الشك، وسنده المزعوم في ذلك تفسير الطبري الذي يحيلنا عليه، بيد أنه لا ذكر لها ولا أثر في هذا التفسير ولا في أي تفسير غيره. فما العمل إذن؟ إما نتهم صاحبنا بالافتراء وسوء فهمه لبنية الآيات وتدرجها الدلالي، وإما نعتبر جدلا أن تلك الجملة لربما وردت بنحو ما، لكنها نسخت كما حصل في الآية 144 من سورة "البقرة": "فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام" بعد أن كانت قبلة الصلاة هي بيت المقدس. هذا علاوة على أن الآية 106 من سورة "البقرة" تقول: "ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأتِ بخير منها أو مثلها"، (انظر أيضا الآية 101 من سورة "النحل"). هذا إذن من باب الافتراض الجدلي لا غير أو التفكير بالخلف بلغة المناطقة؛ أما ما أراه عين الصواب والرجحان والتقبل العقلي فهو الإقرار بأن الغرانيق الثلاثة، اللات والعزى ومناة، مذكورة في سياق مخصوص هو عبادتهن من طرف مشركي الجاهلية حصريا، وهؤلاء تخصيصا هم الذين، خلافا للمؤمنين الموحدين، يعتقدون بعلوهن "وإن شفاعتهن لترتجي"، وهذا بحجة آية بينة تالية تستأصل أي ميل إلى اللبس والاستشكال، وهي "وكم من ملَكٍ في السماواتِ لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذنَ اللهُ لمن يشاء ويرضى" (سورة "النجم"، الآية 26). ويحسن بالأستاذ زيدان أن يرجع أيضا إلى تفسير الراحل سيد قطب "في ظلال القرآن" وألا يعرض عنه إعراضا، لفهم آيات تلك السورة، التي قال عنها عبر إضاءات مستحدثة: "هذه السورة في عمومها كأنها منظومة موسيقية علوية، منغّمة، يسري في إيقاع فواصلها الموزونة المقفاة" (ج 6، ص 3404). إن كان بالمثال يتضح المقال، فلا يمكنني أن أتغاضى عن شعور بالتذمر حين شاهدت د. زيدان يتحدث في أحد مجالسه الصوفية عن عبد الحق بن السبعين، ويعمل في معالجته الكثير من الاختزال والابتسار، وما كان لي أن أدركها لو لم أخص ذلك المتصوف الفيلسوف بعملي الروائي "هذا الأندلسي"، حيث عكفت ثلاث سنوات للإحاطة علما بمؤلفاته وعصره (القرن السابع الهجري). وكيف لا أفعل وقد عاصر انتقال الأندلس إلى عهد ملوك الطوائف وتدهور حكم الموحدين، وعانى الأمرين من تعصب الفقهاء عليه، مما جعله يهاجر من مدينته مرسية (أيام ملوك بني هود) إلى سبتة حيث أقام حوالي عقد من الزمان في رعاية امرأة حسناءَ ثرية، طلبته للزواج وبنت له في رياضها زاوية للخلوة والتحصيل والكتابة، فكانت هذه الفترة هي الأغنى والأنشط في حياته، إذ فيها وضع أهم مصنفاته، وكثر أتباعه، وانتشر مذهبه في "وحدة الوجود"؛ فما كان من حاميه والي سبتة إلا أن أجبره على مغادرة المدينة، فرحل إلى بجاية حيث التقى مريده ومحبه أبا الحسن الششتري، الذي كان يصفه بكعبة الحسن ومغناطيس النفوس، ثم قصد القاهرة التي لقي فيها استقبالا سيئا من أكبر فقهائها المتنفذين، فغادرها إلى مكة كآخر مربع يلوذ به ويحتمي، متأملا متعبداً وأحيانا في غار حراء. وأتيت بهذه النقط التذكيرية لأخلص إلى أنه لا أثر لها في كلام الأستاذ، كما غاب عنه حدث الملك المملوكي الظاهر بيبرس الذي أتى مكة حاجا، فطلب ابن سبعين ليقتله لكونه -كما أشيع عنه- متهما بالزندقة والقول بالحلولية والاتحاد؛ وكاد المطلوب يلقى حتفه لو لم يخفه حاميه أمير مكة أبو نمي. ومن أعمال ابن سبعين "الرسائل الصقلية"، وهي أجوبته عن أسئلة فلسفية بعث بها ملك صقلية فريدريك الثاني فأعجب بها أيما إعجاب، ورغب في مقابلة صاحبها فلم يفلح. هل انتحر ابن سبعين أم نحر؟ (لا نجد في كلام زيدان السؤال ولا الجواب). أعداء الرجل كانوا كثرا وخطيرين، فقد يكون مقتله تم على نحو يوهم بأنه انتحر؛ لكن يجوز أيضا أنه وضع حدا لحياته بعد أن ضاقت به الأرض بما رحبت، فعجل بذلك الفعل رجعاه إلى الله والفناء في ذاته، كما في مذهبه الفلسفي- الصوفي "وحدة الوجود"... وبالتالي فإن كلام زيدان في هذا المثال، كما في سواه، لهو من الصنف الذي يغلب عليه طابع الدردشة وما تحويه من حشو وإطناب. ذلك بعض أهم مؤاخذاتي، وأضيف: لقد حز في نفسي، كمغربي، أن أسمع صاحبنا في محاضرته بالكويت (مأزق الثقافة العربية) إذ اجترح غلطة آثمة في حق المغرب العربي، مختزلا إياه في كلمة واحدة هي الفرنكوفونية وبس (كذا!)، وحين يدعى إلى المغرب يستقبل بعاميته المصرية "فوق الرأس والعين"! (وهذا ليس بغريب عن الاتباعية المرضية عند مغاربة كثر، والعياذ بالله وبعزة النفس وكرامتها). وتلك المفرقعة ذكرتني بأخرى فجرها منذ 1996 في ندوة بالقاهرة حول أبي حيان التوحيدي شاركت فيها، فادعى استحالة نسبة "الإشارات الإلهية" إلى التوحيدي، خلافا لما أثبته المرحوم عبد الرحمان بدوي وغيره، فأثار اعتراض وحتى امتغاض متخصصين، منهم وداد القاضي والراحل جمال الغيطاني وكاتب هذه السطور. وأختم بقضية منهجية لا بد من العبارة عنها، وتتعلق بلغة الكلام عند الأستاذ، وهي العامية المصرية، التي يجري بها مجمل أحاديثه المرتجلة في مواضيع كبيرة وصعبة ككتاب مثنوي جلال الدين الرومي أمام شباب أغرار لا قبل لهم بها. ولا أدري لماذا يصر على استعمال تلك العامية، مع أن الكثير من مشاهديه ليسوا مصريين ولهم عاميتهم الخصوصية المتداولة. فالحل المعقول، إذن، يكمن في اعتماد اللغة العربية الميسورة كما يصرفها الفلسطيني عدنان إبراهيم والمغربي سعيد الكملي، وهي اللغة التي يجيد الأستاذ الكتابة بها في رواياته الموفقة ودراساته الغزيرة المفيدة، وجلها في تحقيق ونشر مخطوطات في الأدب الصوفي وسواه، وقد استحسنت كتابه "اللاهوت العربي وأصول العنف الديني" ولو أن صفحاته الأخيرة داخلها خلل تكرار فقرات بنصها وفصها، ولا آخذ عليه اعتباره العلمانية الداعية إلى فصل الدين عن الدولة "طنطنة جوفاء" (ص 185). فهذا رأيه وهو حرٌّ فيه. وأملي أن يقلع أستاذنا عن رحاب السطح لفائدة العمق والبحث الرصين، لا سيما أن عدوى التسطيح قد انتشرت كالنار في الهشيم، فهذا يدعي بأن صحيح البخاري أسطورة، وذاك بنزوع عرقي مكشوف يطعن في الإسلام وأئمته جملة وتفصيلا، لا يعضده إلا الهذيان والتسيب اللَّغْوي وممارسة تفجير المفرقعات. وجدير بالأستاذ زيدان أن يرأب بنفسه عن هؤلاء العابثين ويتركهم في خوضهم يلعبون وبجامِّ جهالتهم يتنطعون، محولين "يوتوب" إلى ما يشبه المزبلة.