دعت واشنطن، من خلال مبعوث الرئيس الأمريكي إلى الشرق الأوسط، جيسون غرينبلات، إلى عقد مؤتمر في واشنطن يوم الثالث عشر من مارس 2018 لبحث الوضع الإنساني في قطاع غزة. وقال غرينبلات في مقالة له في صحيفة واشنطن بوست الأسبوع الماضي: "إن المؤتمر يهدف إلى إيجاد حلول حقيقية لمشاكل غزة من خلال جلسة عصف ذهني من قبل خبراء...وسيركز على الأفكار حول كيفية تطوير اقتصاد القطاع وتحسين ظروف الحياة فيه...ويُعقد ردًّا على تنامي الأزمة الإنسانية في غزة !!!" . لو أن حديث غرينبلات اقتصر على هذا الأمر يمكننا تصديق الدوافع الإنسانية من وراء عقد المؤتمر، ويمكننا تجاوز واشنطن وقفزها على حقيقة أن قطاع غزة جزء من أراضي السلطة والدولة الفلسطينية، التي لها عنوان من خلاله يتم تقديم الاحتياجات الأساسية لغزة كجزء من المسؤولية الملقاة على عاتق الجهات المانحة تجاه السلطة؛ ولكن حديث غرينبلات في المقالة نفسها، وفي سياق الدعوة نفسها، عن أمور سياسية، يثير كثيرا من الشكوك حول الأهداف الحقيقية لهذا المؤتمر . يقول غرينبلات: "لازالت هناك إمكانية لضم حركة حماس في حال اتخاذها الخطوات الضرورية" !! وهذه الخطوات في نظره: "التخلي عن السلاح والالتزام بالمفاوضات التي تتبناها السلطة الفلسطينية، وإعادة جثامين الجنود الإسرائيليين المحتجزة لديها، إضافة إلى المدنيين الإسرائيليين"، مشددا على أنه "لا يجب السماح لحماس بالمشاركة في أي حكومة مستقبلية حتى توافق على شروط اللجنة الرباعية، بما يشمل الالتزام علنًا باللاعنف، والاعتراف بإسرائيل، وقبول الاتفاقيات السابقة والالتزامات بين الأطراف" . كيف يمكن التصديق بأن المؤتمر يهدف إلى بحث الأوضاع الإنسانية في القطاع بينما يضع شروطا سياسية على حركة حماس التي تحكم فعليا في قطاع غزة؟ فهو في هذه الحالة يريد القول إن الحصار على قطاع غزة وحل مشاكله الإنسانية مرتبط بتنفيذ حركة حماس للشروط الأمريكية، وهذا اعتراف ضمني بأن واشنطن وإسرائيل هما من يحاصر قطاع غزة، ومن يتحمل المسؤولية عن تردي الأوضاع الاقتصادية والإنسانية . مع تأكيدنا وتمسكنا بمطلب وجود إستراتيجية وقيادة وطنية واحدة بيدها قرار الحرب والسلام، وتخضع لها كل الحالات المسلحة، إلا أن المطالب الأمريكية والإسرائيلية بخصوص المقاومة وسلاحها لا تنطلق من الحرص على وحدانية السلطة الفلسطينية، ولا من منطلق الحرص على السلام وعلى نهج التسوية الذي تنكرت له إسرائيل ذاتها، بل يهدف إلى حماية إسرائيل وإلى مزيد من الفتنة الفلسطينية، وتبرير تدخل خارجي في قطاع غزة لتمرير مخطط مُعد مُسبقا . ولنتساءل بموضوعية: ما الذي يضمن أنه في حالة تنفيذ حركة حماس للشروط الأمريكية والإسرائيلية سيتم حل القضية الفلسطينية؟ أم سيعود قطاع غزة إلى إيالة السلطة والدولة الفلسطينية؟ ألم تعترف وتلتزم منظمة التحرير الفلسطينية بكل المطالب الأمريكية والإسرائيلية المطلوبة اليوم من حماس، إذ اعترفت المنظمة بإسرائيل وبالتسوية السياسية من خلال المفاوضات والتزمت بالتنسيق الأمني ونبذ العنف، بل وقبلت بدولة منزوعة السلاح وبتبادل أراض ووجود دولي الخ؟ وماذا كانت النتيجة غير مزيد من الاستيطان والتهويد والحصار، حتى محاصرة السلطة نفسها التي يقول عنها الرئيس أبو مازن إنها أصبحت سلطة بدون سلطة؟ . واشنطن، ومن خلال دعوتها إلى عقد مؤتمر لبحث (الأوضاع الإنسانية) في غزة تتناغم مع إسرائيل في سياسة خلط الأوراق ومحاولة تضليل الرأي العام الدولي والتغطية على المشكلة الرئيسية، وهي الاحتلال الإسرائيلي وما يجري في القدس والضفة من استيطان وتهويد، وخصوصا أن هذا الاهتمام الأمريكي المتأخر بالأوضاع الإنسانية للقطاع يتزامن مع صفقة القرن التي تولي مكانا متقدما لقطاع غزة، ويتزامن مع شبه القطيعة بين واشنطن والقيادة الفلسطينية. ومن أهداف المؤتمر أيضا محاولة تجنب انفجار قطاع غزة في وجه إسرائيل. لا شك أن الأوضاع المتردية في قطاع غزة تدمر مقومات الحياة الكريمة للبشر، وتدمر ممكِنات بناء البنية التحتية للقطاع الذي يسكنه أكثر من مليوني نسمة. ولكن ما يريده الشعب الفلسطيني في قطاع غزة هو الحرية والحياة الكريمة التي ليست فقط توفير الغذاء والماء والدواء والرواتب؛ فهذه أمور متوفرة بنسبة كبيرة. وقد يرتد السحر على الساحر إذا ما استمرت حركة حماس وغيرها بالتركيز على البعد الإنساني والمعيشي للوضع في قطاع غزة، وإذا ما استمرت أطراف حوارات المصالحة تقول إن مشكلة الموظفين والرواتب هي السبب في إعاقة المصالحة وديمومة الانقسام! . وصول الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة إلى هذه الحالة من التردي لم يكن عبثيا، بل نتيجة جهود لأطراف متعددة لتركيع أهالي قطاع غزة الذين حملوا راية الثورة والنضال عبر التاريخ. وهذه الأطراف تراهن على أنه بكسر الأنفة والعزة والروح الوطنية لغزة لن تقوم للمشروع الوطني قائمة . إن تم فصل الأوضاع في القطاع عن السياق الوطني العام ستتحول الدينامية الدافعة لحل المشاكل الإنسانية في غزة – بغض النظر عن حسن نوايا البعض- إلى أداة تخدم الإستراتيجية الصهيونية، وبدلا من أن يتحول الضحايا إلى ورقة قوة ضمن إستراتيجية وطنية لمواجهة العدو الحقيقي – إسرائيل- سيتحولون إلى أدوات تخريب للمشروع الوطني، وورقة ابتزاز توظفها إسرائيل والولايات المتحدة لاستكمال السيطرة التامة على الضفة والقدس، وتدمير المشروع الوطني التحرري – المقاوم والسلمي – وتحويل قطاع غزة إلى ساحة صراع فلسطينيي /فلسطيني يخوض فيه الفلسطينيون الحرب بالوكالة عن أصحاب أجندة خارجية وغير وطنية . وأخيرا فقد أدركت منظمة التحرير الفلسطينية خطورة وأهداف الدعوة الأمريكية إلى عقد مؤتمر واشنطن لبحث أوضاع غزة، ولذا قررت مقاطعته والتنديد به. ونتمنى أن يكون موقف الأطراف الفلسطينية الأخرى قاطعا في رفض هذا المؤتمر وليس مجرد الرفض الخجول والمتردد، انتظارا لمخرجاته أو تعويلا على دور قادم في صفقة القرن، وفي ما يُخطط لقطاع غزة. [email protected]