كثيرة هي المغامرات والأغنيات والرحلات التي طبعت حياة ومسيرة جاك بريل (1929-1978)، مؤلف الكلمات والمغني البلجيكي الذي شغل تاريخ الفن الأوربي الحديث بحساسيته الموسيقية المفرطة وشعريته الغنائية النزقة والساخرة. في ذات الفترة التي فتحت فيها آذاننا على الطرب المغاربي والمشرقي، من محمد الحياني إلى الهادي الجويني وفريد الأطرش وغيرهم، كان كاسيت بريل يأتي ويطرق، حتى أطبق علينا. يغري أرواحنا الهشة التواقة للحب، المرتجفة عند بابه. لا عود في يده ولا ناي، ولا مقام الراست والنهاود والبياتي والحجاز في لحنه، لكنه تسلل إلى هويتنا وذائقتنا ودخلها بهدوء الصديق الخفيف. خرج بريل شابا من وسط بورجوازي فلاماني، من عائلة كاثوليكية منهمكة في الصناعة والدين والمال والملل، ليغزو أسماع العالم ببساطته وعفويته، وبقدرته الساحرة على جمع الشجن بالفرح والرتابة بالمتعة. لكن بريل لم يكن، بالنسبة لجيل من المغاربة المنشطرين بين ثقافتين، سوى غريب حزين يتغنى بمحن الهوى ضد أهوال الحياة المعاصرة، المتسارعة والعنيفة، ولذلك أحبه العرب وأحبهم، كما عرفهم في بلجيكا، وكما رافقهم في طنجة وكازابلانكا والرباطومراكشومكناس. يقول بريل: "أحب نمط عيش العرب، فهم يقولون إنّ رجلا مستعجلا هو رجل ميت، وذلك صحيح". وكبقية سكان الأراضي المنبسطة والمنخفضة، بقي بريل الحالم طوال حياته يبحث عن الشمس حيثما كانت. نجمة قصية يخيفها لمعان الماس والذهب وغيوم بحر الشمال في آنتفيربن. من جنوب المتوسط إلى شمال إفريقيا، وحتى المحيط الهادي، لم يتوقف البلبل عن الشدو والترحال: من عش لعشق، من غسق لشفق، من فصل لجزيرة، ومن صحراء لجبل. في إحدى المرات، قال بريل لعامل مغربي داخل فندق «ميتروبول» ببروكسل: "لابد أنك لست من هنا، فهنالك شمس بين عينيك". عندما جاء إلى المغرب منتصف خمسينات القرن الماضي، كان بريل ما يزال مغمورا، يتنقل بين الملاهي والحانات، وكان البلد مقسما بين أرستقراطية مغربية يمّمت وجهها نحو الشرق، أي باتجاه الطرب والمواويل والقدود الشامية، وبين أقلية فرنسية ونخبة فرنكوفونية تركزت في المدن الكولونيالية بعد الاستقلال. لم يكن بريل الفنان الغربي الوحيد الذي افتتن بالمغرب، فقد وافقته في ذلك إيديت بياف وجيمي هاندركس وبازوليني وسكورسيز ولِد زبلين، فرقة الروك البريطانية التي سجلت بعض أغانيها مستعينة بتقنيات الموسيقى التقليدية المحلية. هل قدم بريل إلى المغرب هاربا من مشاكله العاطفية مع زوجته ميش؟ أم هي السخونة والكسكس وطواجين السمك في ميناء كازابلانكا فعلت فعلتها؟ فالس الأزمنة الألف كانت رحلة جاك بريل إلى المغرب بداية بحث عن منفى اختياري يبعده عن مظاهر الحضارة الغربية التي قاومها من داخل أسرته المتدينة ومحيطه المسكون بالنفاق، وينسيه خلافاته الزوجية المتزايدة مع تزايد العشيقات والأرق والهزائم الصحية. تشكلت رحلة بريل إلى المغرب من سفريات عديدة، شخصية ثم مهنية، كانت من بينها عطل قضاها رفقة ابنتيه في مراكش، بفندق المامونية الذي قال عنه: "يبقى المامونية دائما الحلم المتحضر الذي نبتغي لقاءه باستمرار". وعلى الطريق السريع بين طنجةوالرباط، عام 1960 على الأرجح، تبادرت إليه ألحان أغنية "فالس الأزمنة الألف"، حسب شهادة صديقه فرانسوا روبير. كان بريل خلف المقود، يشاكس منعرجات ومنحدرات ملتوية من البحر المتوسط إلى نهر أبي رقاق، ألهمته واحدة من أكثر أغانيه شعبية. تتضارب الروايات بخصوص سهرة بريل الأولى في المغرب، فهناك من يرجعها إلى أكتوبر من العام 1954، أثناء جولة جمعته بكل من داريو مورينو وسيدني بيشيت، حسب خبر نشرته Le courrier du Maroc، لكن الأكيد أن بريل قد أحيى حفلاته في المغرب ابتداءً من العام 1956، داخل حلبة الثيران "ليزارين" بكازابلانكا، ثم عام 1959 في الرباط، بقاعة سينما أكدال المندثرة. سنة 1966، أي عاما فقط قبل توديعه الركح خلال سهرته الشهيرة في مسرح الأولمبيا بباريس، قام بريل بجولة حملته هذه المرة إلى العاصمة الإسماعيلية مكناس، فغنى بسينما الريف، مرورا بكل من الرباط والبيضاء. ارتبط تواجد بريل في المغرب كذلك بذكرى صديقه جورج باسكييه الذي التقاه أول مرة في آنفا وخلده في أغنيتيه «الكبير جاك» و«البورجوازيون». جورج هو نفسه «جوجو» المتلبس في ثياب فولتير، نديم جاك في سهرات مواجهة الأغبياء والمتكبرين وسكرتير أعماله ورفيق أحلامه المتخفية وراء البحار. لقد كان المغرب إذن، في قلب بريل ونوستالجيته، فضاءً للسكينة والبهجة والصداقة الشفافة. صداقة جمعته بجوجو الراحل، ولكن أيضا باسمين عربيين اثنين: المنشط الإذاعي والتلفزي علي حسن، صديق السفر والمغامرة، وقبله عميد المسرح المغربي الطيب الصديقي (1939-2016) الذي دعاه للغناء في المسرح البلدي بكازابلانكا (1962)؛ فتجول الرجلان المسكونان بتمارين اللغة وإغراءات الخشبة وطواحين دونكيشوت في أزقة المدينة القديمة، وكان الصديقي شاهدا على سخاء بريل الإنساني والفني. يقول: "كان بريل رجلا كريما، غير مكترث للمال. عاينته وهو يدفع تذاكر السهرة لطلبة وقفوا عند مدخل المسرح عاجزين عن حضور حفلته". ماخور المدام آندري بعد سطوع نجمه في أوربا، بقي بريل كثير التردد على المغرب، خاصة كازابلانكا، حيث اعتاد أكل طاجين السمك في مطعم المرسى، والتصعلك بين الكازينوهات والحانات نكاية بالملل. بيد أن المحمدية، المعروفة وقتذاك باسم فضالة، ظلت مدينته الأثيرة، وكانت له بها عادة راسخة: ارتياد منتجع «لو سفانكس» الذي كان الوجهة المفضلة لمشاهير الغناء والسينما والمسؤولين ورجال الأعمال من أجل الترفيه والاستمتاع. كانت لبريل في المنتجع غرفته المفضلة وذخيرة من جعة «Chimay» الزرقاء الغدارة القادمة من موطنه. هناك، في «لو سفانكس»، فكّر بريل في كلمات أغنيته «جيف» المهداة لصديق مرهق من صلافة عشيقته الشقراء، وإليه يتوجه بالكلام حينما يغني: "وإذا كنتَ ما تزال حزينا / سنذهب لرؤية الفتيات عند المدام آندري". لم تكن المدام آندري الواردة في الأغنية شخصية اصطنعها بريل، وإنما هي سيدة وُجدت فعلاً، واشتغلت كوسيطة لعشرات الفتيات، مسيحيات ويهوديات، كن يعرضن على الوافدين من غير المسلمين. إن موضوعات النساء والمدن، التي صارت مع الوقت كليشيهات فنية وأدبية، كانت واحدة من التيمات الأساسية التي برع بريل بحرفية في تناولها من خلال عشرات الأغاني الخالدة، من «عند ميناء أمستردام» و«تثلج على لييج» و«فوزول» و«ماتيلد» و«ماريك» و«لافانيت»، إلخ. حتى أننا نجد في دفتر معروض بمؤسسة جاك بريل ببروكسل نصا أنهاه الفنان في المغرب يوم 29 مايو 1960 ولم يُسجل أبداً. كان النص عبارة عن أغنية خصصها بريل للمحمدية، مدينة الورود، تبدأ بالجملة التالية: "يجب الاعتقاد أن ها هي الشيخوخة آتية...". سنوات قليلة قبل وفاته، عاد بريل إلى المغرب مستجيبا لدعوة وزارة السياحة، بإيعاز من صديقه الطيب الصديقي، للمشاركة في مهرجان الفنون التقليدية المقام بمراكش عام 1973، وهناك التقى علي حسن وسافر معه على متن سيارته من نوع Fiat 1500 لأزيد من يومين: "... كان بريل رفقة إيدي باركلاي. كنا في زاوية من حانة فندق السعدي... وكانت لي الشجاعة، فالمقهى كان فارغا، أن آخذ كأسي وأتوجه إليه بالقول: يسرني كثيراً أن أشرب في نفس الخمارة رفقتك سيد جاك بريل. قرعنا الكؤوس وتلاطفنا. أراد زيارة البلد فسافرنا (...) أطلعته على ناحية من المغرب فتنته وقرر الاستقرار بها، تسمى كلميمة...". لم يستطع بريل الاستقرار في جبال الأطلس، لا في كلميمة ولا عند سفوح أوكايمدن، وذلك لأن شدة البرد في المرتفعات تضاعف ألم الأسنان. أسنانه المتعبة من البطاطس المقلية والتبغ والجعة. فاستأثرتَ الإبحار نحو الجزر. أمضيت ما يقارب الثلاثة أشهر في بروكسل، أتجول بين المشارب والساحات والحدائق، وأنظر إلى الطفل البوّال على مقربة من باعة بسكويت الوافل بالشوكولاته. كانت معرفتي بذلك الشعب مقتصرة على حكايات المهاجرين المغاربة العائدين إلى الوطن للعطلة الصيفية، وعلى عشرات الأغاني التي لخص فيها بريل طبائع البلجيكيين وتراجيدياتهم العشقية، من «الفلامانيات» و«هؤلاء الناس» إلى «البورجوازيون» و«أغنية العشاق القدامى»، و«لا تهجريني» التي ألفها في المحمدية، لكني فهمت وأنا هناك دافع جاك للرحيل عن أرضه وأهله إلى الأبد: شحوب السماء وميلان الأجرام. اختار بريل أن يقضي بقية حياته على إحدى جزر الماركيز البركانية، في المحيط الهادي، بعدما فكر طويلا في الاستقرار بالأطلس المغربي دون أن يفلح. لما استفحل به المرض وضاقت رئتاه، عاد إلى باريس للعلاج لكنه سرعان ما نقل ميتا إلى مقبرة آتوانا، حسب وصيته، ليدفن بها، غير بعيد عن مرقد الرسام الفرنسي بول غوغان، وعلى شاهد القبر: وجهه ووجه مادلي بامي، عشيقته الأخيرة، منحوتان على صخرة مائلة ناحية الشمس المغتربة، خلف السحب والمحيطات، باتجاه المغرب. صفحة الكاتب على الفيسبوك: https://www.facebook.com/a.mouzaine