كان في طريقه من مدينة المحمدية إلى طنجة سنة 1969، حان جاءته قصيدة «لا تتركيني» إلى فمه سلسة، وكان يكتبها بكل ما فيه من عقل ووجدان داخل مقصورة قطار مغربي.. كان القلب والفؤاد والعين والدم الفائر، مربوطين بقلمه الذي كان يكتب القصيدة التي ستصبح عنوانا لصاحبها.. وبعد رحلة قصيرة مع مرض السرطان، سيغادر الدنيا في مثل هذا اليوم، التاسع من أكتوبر، سنوات قليلة بعد كتابة قصيدته الشهيرة تلك.. كان ذلك سنة 1978، هو الذي ولد يوم 8 أبريل 1929 بالعاصمة البلجيكية بروكسيل.. جاك بريل، لم يكن مغنيا.. جاك بريل، كان مربيا.. كان حين يصعد إلى مسرح الغناء، فإنما لكي يلقي درسا في سمو الإنسان، ويتحول جسده إلى قصيدة.. بل إنه يتحول إلى لحظة للجذبة التي تُعدي كل من يتشرب معاني الكلمات التي تتسارع في فمه.. معه بلغت الأغنية الفرنسية درجة عالية من العالمية، ومنذ رحيله ورحيل مجايلين له، هائلين وكبار مثل « جورج براسانس » أو « ليو فيري »، سقطت الأغنية الفرنسية في الحضيض، وفقدت بريق العالمية إلى اليوم. بريل إبن العائلة الغنية جدا، القادم من بروكسيل، عاش حياة عوز وتحد في باريس.. لم يكن أحد يتنبأ له بالنجاح، خاصة مع الخجل المصاحب لشخصيته، وبعض من المشاكل الخاصة في مخارج الحروف في فمه. لكنه كذب الجميع، وأصبح بريل الهائل الذي لا يزال يُسقط إلى اليوم الكثير من الأجيال في محبة فنه الأصيل.. خاصة، حين ينصت الإنسان بدواخله إلى صرخاته الآسرة، وهو يستهزأ بأمراض أروبا الصناعية (أغنية «ميناء أمستردام»)، أو الحربية العنصرية (أغنية «أنظر يا فتى»)، أو تلك التي تتغنى بالحب (أغنيته الخالدة « لا تتركيني»، التي تقول بعض من أبياتها: «سأحفر الأرض بعد مماتي، كي أهديك باقة مطر، من بلدان لا تمطر فيها سماء»).. بريل هناك، لا يزال يغني في الماوراء، بذات الشغف والسعادة.. لا يزال يفرح الكثيرين بفنه الخالد.. اليوم في ذكرى رحيله، كثيرون سيترحمون عليه، من خلال إطلاق أغنية من أغانيه، تماما مثلما تطلق أدعيه في ساعة صلاة.. فقد كان الرجل ابنا للحياة.. كان إنسانا..