1 طاكسي الاجرة يطوي مسافة المنجورة إلى بني ملال، وفجأة يعلن المذيع نبأ رحيل بروميثيوس المغربي الشاعر عبد الله راجع بعد معاناة مع سرطان المرحلة الذي استوطنه.. حينها ودعت شاعرا مغربيا وعربيا مرموقا. وتدفقت الذكريات متسارعة في ما تبقى من حبل الطريق. ذكريات شاعر احتضنته مدينة تسمى لاربعا لفقيه بن صالح 2 عبد الله راجع شاعر من عيار ثقيل قل نظيره. الشعر أجمل ما أورثه لهذه المدينة. مدينة الأولياء والصالحين. لا أدري هل هو من زرع فيها بذرة الشعر أم هو شاعر الحمراء الذي مر من هنا ذات تاريخ مسكوت عنه؟ من هنا تدفق نبع الشعر سيالا زلالا في فضاءات ثانوية الكندي ليسقي مدينة في حجم الكف آنذاك، هو وثلة من طينته: الكتور. من هنا عقد مع الشعر بالهجرة إلى المدن السفلى ميثاقا غليظا. أليس أجمل الشعر ما قيل في الهوامش، وأعذبه ما قيل في لسعة الحب الأول؟ 3 مازلت أتذكر في ذاك الزمن الجميل، كيف كنت ورفاقي المولعين بجبران والهلال والعربي والمنفلوطي، نتهافت على المكتبة الشعبية لنختلس نظرة من خلف الزجاج ونعيد النظر إلى صورة غلاف ديوان (الهجرة إلى المدن السفلى)، وفي ساحة الثانوية صورة شاعر شامخ كالطود في وحوله تحلق التلاميذ والأساتذة. وأستحضر زنقة بني ملال حيث بيته الأول، ومهد الكثير من القصائد ومن هنا كان يحلم بمشروع قصيدة حديثة لم تولد بعد. هنا احترق بنار القصيدة وجنونها المعقلن. في هذه الجغرافيا أودع قبس النار المقدسة في ذواة شاعر قرية حلوان الجميل محمد بوجبيري الذي ما فتئنا نقارنه بالسياب، وجيكور بحلوان، القرية الجميلة و«المنسية في أعالي الأطلس». ولم يخطئ عبد الله راجع حين منحه (خبيزة القصيدة) واحتفى به في «عاريا.. أحضنك أيها الطين». في هذا الأسفل كتب عن وجع الأحباب، وعن الجنون المعقلن لصالح الشكدالي، وعن حرقة القصيدة بالقصيدة. 4 ولأن الشعر يحتاج كثيرا من الصمت والإنصات، كان راجع في مقهى السندباد يحرص على أن يبدو صامتا متأملا في بودية مدهشة وهدوء صارم، حلقات دخان سيجارة صاعدة نازلة في فضاء المقهى وهي تنهش عميقا في جذور رئتيه اللتين وسعتا حب هذه المواجد السفلى، تراه يشرب القهوة والدخان وينعم فيه النظر، متصاعدا من سيجارته ليتبدد في الهواء، كأنما كانت روحه تندمج مع تلك السحب شيئا فشيئا ثم تتلاشى معه. 5 ظل راجع وفيا لقصيدة التفعيلة، ولم تستهوه قصيدة النثر، مستمدا قناعته من كون قصيدة التفعيلة لم تستنفد مهمتها بعد. وعز عليه أن يشرك حاسة البصر في شعره فلجأ في ديوانه (سلاما وليشربوا البحارا) إلى القصيدة الكاليغرافية بخط مغربي أصيل وبأشكال هندسية مختلفة جعلت العين تبني مع القلب قصائد غير مألوفة، حرقة وخطا. ولم تغوه إغواءات الحداثة ولا مجاملات أحد، وإن كنا نشبهه -في العديد من من جوانب حياته الأدبية والاجتماعية والصحية- بالشاعر أمل دنقل فإن خصال راجع وذماتة خلقه بوأته مرتبة أعلى كثيرا من أمل دنقل الذي كان «يهجم على المنبر لكي ينزل شاعرا رديئا، أو شاعرا بدا له أنه رديء». 6 يظل الشاعر طفلا حتى في شيخوخته، من هنا نفهم مغزى أن يكتب الراحل قصيدة للصغار تقول: راقبت قطة بيت فأر صغير /كان يحلو له قضم كيس الشعير. فقررت أن تطيل السهر/ لكن لخيبتها غفت وحينما أيقظها صوت ديك من بعيد. وجدت كيسها فيه ثقب جديد. هكذا الغافلون يخطئون المرام.لا ينال المنى من تمطى ونام.