في الواقع، ليلة واحدة لا تكفي، ثم أضاف ليلة ثانية... أمسيتان متتابعتان حضرهما جمهور ليس بالقليل وليس بالغفير... جمهور متنوع ومتعدد الرؤى والتوجهات، جمهور متفرق أكيد، لكنه مُتحد حول عشق الراحل جاك بريل وحب الفنان المتميز مامون... مساء الخميس ومساء الجمعة، كانت المتعة والمؤانسة في إحدى القاعات الجميلة البيضاء داخل أدغال كازانيگرا... فرنسيون ومغاربة... ذكوراً وإناثاً... شيباً وشباباً... حجوا للاستمتاع بسماع الصوت الخالد للفنان الذي لابد منه. ففي كل عام، يذكّرنا هذا الشاب بأن هناك فنانا كبيرا اسمه جاك بريل مر من هنا... وهل يموت المبدعون الخالدون؟ وهل موتهم ليست إلا رمزا؟ تعامل الجمهور بنظام وانتظام... صفّق الجمهور بحرارة والتزام، وتأثر مامون المؤمن برسالته التي تقول بصوت رنان: لن ننساك يا جاك! أحب هذا الأخير المغرب، ويعيد إليه هذا الأخير الحب والاحترام والامتنان عبر الفتى مامون... مامون صديق الراحلين عزيزي سعيد الصديقي واللاعب القوي بالألفاظ ريمون دو ڤوس.. عشرون أغنية بالتمام والكمال رحلنا من خلالها إلى عوالم شعر الحب وحب الشعر... إلى عوالم الرومانسية النبيلة العميقة الأخّاذة بالمسامع.... إنه جاك بريل، وما أدراك ما جاك بريل! جاك بريل الذي ترك بصمات إبداعية خلاقة على صعيد البسيطة.. جاك بريل.. التحفة الغنائية الإنسانية النادرة... يحمل المبدع مامون القيثارة تارة، ويتركها جانباً تارة أخرى. ولكل مقام مقال. حتى القيتارة ترقص فرحا لكلمات الراحل ولصوت مامون... عشرون أغنية تمر أمامنا دون أن نشعر بالزمان، وهل يتحكم الزمان في الإبداع؟ أم أن الإبداع هو من يدير الزمان؟ لحظات، ولعمري، من الفن الراقي ما أحوجنا إلى مثيلاتها في يوم، في شهر، في سنة علّنا نتناسى أو ننسى حتى هذا الزمن البذيء الذي تحول فيه الغناء إلى خزعبلات وتفاهات وكمِّلوا من رؤسكم! أتحفنا مامون مشكوراً، هذه الشخصية الفنانة التي هي نفسها شخصية الرجل، ولا فرق بين الفنان والإنسان... مامون هو أيضا إذاعي متألق يحترم الميكروفون ويرد إليه هذا الأخير الاحترام.. كانت التصفيقات في الأمسيتين تردان إليه الصرف، غنّت القاعة بصوت واحد: «لا تغادِرني!»، وصفق المامون، وكانت المحبة المتبادلة كبرهان وتحية لما كان يأمله صاحب «ميناء أمستردام». لحظة أخرى، نادى الخليل خليله، وصعد عاشق بريل الأبدي عمر سليم ليقدم أغنية نالت الإعجاب عمقاً وأداء تحت مراقبة قيتارة الحكيم مامون، وتغيّرت ألوان الجدران بالشموع والولاّعات، ثم انتهت الأمسية الجميلة دون أن تنتهي الحكاية الرائعة التي جمعت وستجمع بين بريل ومامون. مامون بصوته العذب.. وبحركاته الخفيفة الظل، وبحلاوة رائه ( الحرف)، وعزفه الموزون المُتزن أمتعنا بحق. شكراً يا مامون! آه، كدت أنسى! حضرت قناة عربية تحترم أذواق مشاهديها لأمسية الجمعة، وقامت بروبورطاج ستبثه في المستقبل القريب، أما قناتا البريهي و عين السبع مهتمتان بدبلجة المكسيك والامبراطورية العثمانية، وأغاني «عاود دردك زيد دردك» ، فصندوق عجبنا هذا لا مكان فيه للفن الراقي النبيل ليكون هو البديل، وحسبنا الله ونعم الوكيل ...