عزيزاتي القارئات العربيات وأعزّائي القرّاء العرب إنّ التعليقات على الحلقة الأخيرة "(1) خبرات وملاحظات شخصية تمهيدا" من سلسلة "استهانة المستشرقين الألمان باللغة العربية وإهمالهم لها كلغة حديثة للعلم والتواصل" انقسمت إلى قسمين: الأول يدعم نقدي الموجّه ضدّ المستشرقين الألمان على إهمالهم لغة الضاد والتقليل من شأنها، والقسم الثاني يصرّ على أنّ لغة الضاد ناقصة للحياة الحديثة مقارنة باللغات الغربية مثل الإنكليزية أو الفرنسية ومن أجل ذلك لا يجوز المبالغة في شأنها. أمّا ما يخصّني فأؤكّد للقارئ العربي أنّ غاية سلسلة الحلقات هذه ليست المبالغة في شأن العربية ولا مجاملة الناطقين بها، ولكن الغاية كذلك ليست التقليل من شأنها، كما يحدث بكلّ وضوح عند كثير من المستشرقين الألمان وأكثرية باقي الباحثين والخبراء المتخصّصين في شؤون البلدان العربية. فما قصدي من وراء مقالاتي الصادرة في هذه السلسلة؟ هو رؤية واقعية وموضوعية إلى العلاقات الثنائية اللغوية وتعديل وتصحيح لهذا النقص الخطير في العلاقات الفكرية بين البلدان الأوروبية الناطقة بالألمانية وبين البلدان العربية ويكمن هذا النقص في موقف العلماء والباحثين المتخصّصين الألمان والناطقين بالألمانية اتّجاه اللغة العربية، لأنّهم يعاملون العربية غير معاملة اللغات الأوروبية. هناك فرق شاسع بين ما يتوقّع الجمهور والنخبة الألمان ممّن يتخصّص في لغة أوروبية وأدبها والأدبيات المكتوبة بها وممّن يتخصّص في لغة غير أوروبية وأدبها والأدبيات المكتوبة بها. مستحيل أنّ أستاذاً للغة والأدب الإنكليزيين لا يتقن لغة دراساته قراءةً وكتابةً وكلاماً. الشيء نفسه ينطبق على الفرنسية وإلى حدّ ما على باقي اللغات الأوروبية الغربية منها على الأقلّ مثل الإيطالية والإسبانية. ولكن حتّى من يتعمّق من الباحثين في لغات أوروبية أقلّ شأنا وانتشارا، فيجب عليه أن يتقنها، على الأقلّ أن يجيد القراءة بها في صورة وبسرعة تمكّنانه من فهم النصوص المكتوبة بها بما في ذلك نصوصا يتجاوز حجمها بضع السطور والصفحات. بينما نجد عند المستشرقين، وخاصّة عند من يتسمّون ب"خبراء" أو "باحثين في شؤون البلدان العربية والشرق الأوسط"، أنّهم كثيرا ما لا يسعهم الاطّلاع على نصّ يتجاوز العشر صفحات، لأنّهم يقرؤون ببطء بطيء. فنجد مثلاً من بينهم بعض الأساتذة المتخصّصين في شتّى مجالات البحث مثل وسائل الإعلام العربية أو تاريخي البلدان العربية الحديث والوسيط أو سياسة الدول العربية أو وضعية البحث العلمي وتطوّر الجامعات في البلدان العربية الحديثة إلى آخره وهم لا يجيدون العربية لغة النصوص المعتمدون هم أنفسهم عليها في بحوثهم إلى حدّ يمكنّهم من قراءة مقطع واحد أو جملة واحدة بالعربية وأحيانا حتّى كلمة واحدة بالعربية. وعندي كثرة من أمثالهم أعدكم بالحديث عنهم في حلقات لاحقة. فأرجو من القارئات العربيات والقرّاء العرب: اسألنكنّ واسألوكم، كم من المستشرقين والمستعربين الألمان تعرفون وهم مجيدون للغة العربية الفصحى قراءةً وكتابةً وكلاماً؟ كم من المستشرقين والمستعربين الألمان والناطقين بالألمانية يشتركون بمساهماتهم في الصحف والمجلّات ومواقع الإنترنيت العربية؟ كم من المستشرقين والمستعربين الألمان والناطقين بالألمانية يحضرون في البرامج الحوارية أو في المؤتمرات العلمية العربية وهم يختارون لغة الضاد للتواصل؟ أو هل قد سمعتنّ وسمعتم في يوم من الأيّام باحثاً ألمانيا يلقي محاضرة باللغة العربية في إحدى قاعات قصور الثقافة أو في إحدى مدرّجات الجامعات العربية؟ ولم لا؟ هل لغة الضاد صعبة إلى حدّ أنّ العجم غير المتربّين في بيئتها لا يسعهم تعلّمها أبداً؟ كلّا، بل مع كلّ صعوبة تعلّم لغتكم لمَن لغتهم الأمّ ليست لغةً من اللغات السامية، بل لغة هندوأوروبية مثل الألمانية أو الإنكليزية أو الفرنسية، فيمكنهم تعلّمها وإتقانها، إذا صبروا وبذلوا الجهد اللازم، ولو كان أضعاف الجهد المبذول في سبيل تعلّم لغة أوروبية أخرى. وإن تفهّمْنا المواطنين الألمان العاديين حينما يتجنّبون اللغة العربية الفصحى ومشقّة تعلّمها، ولكنّ المستشرقين والمستعربين واللغة العربية من صميم وظيفتهم العلمية؟ كيف وهم يكتفون بمستوى لغوي متدنٍّ لا يمكّنهم من التواصل الفعّال بالعربية الفصحى أو من التأليف فيها؟ طبعاً، لا ينطبق كلامي على كلّ المستشرقين والمستعربين الألمان والناطقين بالألمانية على حدّ سواء. أوّلا علينا أن نميّز بين صنفين أو ثلاثة أصناف من العلماء والباحثين: الصنف الأوّل هم المستشرقون والمستعربون بمعنى ضيّق، يعني من يقومون بدراسة الحضارة والثقافة الإسلاميتين وخاصّة العربية منها ومن يقومون بدراسة اللغة والأدب العربيين؛ ربّما الأحسن أن نفرّق هذا الصنف إلى فئتين فئة المستشرقين (أو الباحثين في الشؤون الإسلامية) وفئة المستعربين، لأنّ مِن بين الآخرين نجد العدد الأكبر ممّن يتقنون العربية إتقانا فعّالا وليس فقط قراءةً حال معظم المستشرقين. أمّا الصنف الثاني، فيسمَّون كثيرا ما بخبراء الشرق الأدنى أو الشرق الأوسط، وتتكوّن هذه الجماعة من باحثين جامعيين من خارج الدراسات الاستشراقية بالضبط ومن صحافيين ومراسلين يتخصّصون في أخبار بلدان العالم العربي أو الشرق الأوسط. ليست لهذا الصنف الثاني تعليمات علمية أكاديمية أو أحكام قانونية أو قواعد أدبية تعرّف قدراتهم ومعارفهم العلمية وتحدّدها. ومعنى ذلك أنّ من يتولى مثلاً في إحدى الجامعات الألمانية أو السويسرية كرسي أستاذ معنياً ب"تاريخ البلدان العربية" أو ب"تاريخ جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا" فليس عليه تعلّم أية كلمة عربية. وأعرف شخصيا على الأقلّ مؤرّختين من هذا الصنف. الأولى مؤرّخة وأستاذة متخصّصة في التاريخ المتوسّطي في جامعة بوخوم في ولاية "شمال الراين وستفاليا" في ألمانيا والأخرى مؤرّخة وأستاذة في قسم التاريخ التابع لجامعة زيوريخ في سويسرا. أنا مستعدّ أن أروي لكم قصّتهما في حلقة تالية. كذلك نجد أستاذا جامعياً لا يسمّي نفسه بمستشرق، بل بباحث في وسائل الإعلام الدولية متخصّصاً في وسائل الإعلام العربية لا يتقن من العربية إلّا اللهجة المصرية ولم يقرأ طول سيرته الأكاديمية أية جملةً عربية وفهمها. مع ذلك انضمّ هذا "الأستاذ" إلى هيئة علمية حكومية تستشيرها الحكومة الألمانية الاتّحادية في شؤون الإسلام والعالم العربي. سأخبركم أيضا عن تفاصيل دراساته فيما بعد. مع كلّ هذا النقد الموجّه إلى بعض أو حتّى أكثرية زملائي المستشرقين والباحثين في شؤون العالم العربي لا أتجرّأ على الادّعاء بأنّي سلكت مسالك الدراسات الاستشراقية والاستعرابية بمفردي وبدون مساعدة أساتذة أفذاذ. كلّا، بل تعتمد دراساتي ومعارفي على معلّمين أكاديميين قادرين لم أصل إلى ما أنا عليه الآن لولاهم. فاستفدتّ على سبيل المثال من تعليم ممتاز للغة العربية الفصحى على يد أحد أساتذة المعهد المسمّى سابقا بالمعهد الشرقي والتابع لجامعة توبينغين جامعتي الأمّ، واسمه الأستاذ الدكتور مانفريد أولمان بالألمانية: Prof. Dr. Manfred Ullmann وهو من وضع المجلّدات الخمس الضخمة من "قاموس اللغة العربية الفصحى" الصادر من عام 1970 حتّى 2007م عند دار "أوتو هاراسويتس" للنشر في مدينة ويزبادن والمعنون باللغة الألمانية ب:Wörterbuch der klassischen arabischen Sprache مع أنّ الأستاذ أولمان ركّز كلّ انتباهه بصفته مستعربا على العربية الفصحى التراثية ولم يتعمّق في شؤون المجتمعات العربية المعاصرة للأسف، فعلى الأقلّ وهذا يُحقّه كلّ شكري علّمني العربية الفصحى وجعلني أحبّها واضعاً القواعد اللغوية التي ما زلتُ أعتمد عليها حتّى الآن والتي أثبت صحّتها ودقّتها بكلّ التفاصيل أستاذتي العرب في فترات لاحقة من دراساتي في الشام ومصر. ولم أجد الاهتمام بالعربية نفسه عند زملائي المدّعين للعناية بشؤون العالم العربي المعاصر قط. بالعكس خيب كثير من زملائي والأساتذة كلّ آمالي بدراسات جدّية معتمِدة على قاعدة لغوية رصينة. ومن أجل ذلك أريد أن أخبر القارئات العربيات والقرّاء العرب ببعض هذه الأمثلة التي خيبت آمالي. ولأنّهم قد لا يصدّقون ما سأخبرهم به، قرّرت أن ألحق بالجزء الثاني لهذا المقال نصّ تراسل بكامله جرى باللغة العربية من جانبي والألمانية من جانبه بينني وبين أستاذ من أساتذة قسم الدراسات الشرقية والإسلامية التابع لجامعة توبينغين وهو الأستاذ الدكتور يوهان بيسو بالألمانية: Prof. Dr. Johann Büssow لكن قبل أن أدخل في تفاصيل هذا التراسل، أريد أن أحكي لكم تجربة أخرى مُخيبة للأمل، صادفتني في جامعة توبينغين في أحد المؤتمرات العلمية التي حضرتها في السنتين الماضيتين. ألقى فيه باحث نيوزيلاندي محاضرة كان يتطرّق من خلالها إلى مسألة الحوار الديني الجاري بين الأديان السماوية الإبراهيمية. فقبل أن يبتدئ بمحاضرته عرّفته إحدى الباحثات المشتركات في المؤتمر على الجمهور الحاضرين. فقالت بأنّ هذا الباحث النيوزيلاندي المتخصص في الفلسفة وعلم الأدب المقارن يتقن إضافةً إلى لغته الأمّ الإنكليزية واللغات الأوروبية الأخرى مثيلات الفرنسية والإيطالية والإسبانية والألمانية والرويسة اللغتين الصينية والعربية كذلك، وبطلاقة كما ادّعت هي. واسم هذا الباحث النيوزيلندي الدكتور جوناثان كير بالإنكليزية: Dr. Jonathan Keir فاجأني تصريح الباحثة، لأنّ عدد الباحثين الغربيين المتقنين للغة العربية قليل جدّا. فكيف يتقنها هذا النيوزيلندي إضافة إلى كلّ هذه اللغات الأخرى صعبة التعلّم مثل الصينية والروسية؟ أخذت أشكّ في صحّة القول ومصداقيته. فحاولت في فسحة الظهر أن أتحدّث معه بالعربية الفصحى، لكنّه لم يجب لي إلّا ببعض الكلمات العربية القصيرة والبسيطة ولم يدخل الحديث معي إلّا بالألمانية. فكبرت شكوكي. فبحثت عن سيرته الأكاديمية المنشورة في موقع خاصّ بمعهده التابع لجامعة توبينغين ووجدتّ الادّعاءات عينها بأنّه يتقن كلّ هذه اللغات بطلاقة. فقرّرت أن أرسل إليه بريدا إلكترونياً باللغة والخطّ العربيين، كي أتعرّف عليه وأتحقّق من حاله. وفعلاً دعاني لزيارة إحدى الحلقات الدراسية التي كان يعقدها في جامعة توبينغين. لبّيت الدعوة واستمعت إلى محاضرته الملقاة بالإنكليزية. بعد ذلك تحدّثنا عن موضوع المحاضرة الرئيسي وكان أدبَ نجيب محفوظ. فعدتُ إلى بيتي وبُعيد لقائنا محا باحثنا النيوزيلندي الإعلان بإتقانه كلّ تلك اللغات. لم يمحُ الإشارة إلى العربية فحسب، بل إلى كلّ اللغات المدّعاة إتقانها. يا للعجب ! ولِنتابع الأمثلة المخيبة للأمل: ذات يوم التقيت بباحث جزائري كان يستخدم إحدى مكينات التصوير الواقعة في بهو المكتبة الجامعية. فذهبت إليه وسألته إذا كان عربياً، فأجابني: نعم، وأخبرني بأنّه أستاذ مشارك من جامعة الأغواط واسمه سباعي البخاري وبدأ يقصّ عليّ سبب مجيئه إلى جامعة توبينغين وأنّ جامعته الجزائرية بعثته إليها لكي يدوّن تقريراً عن حالة الدراسات القرآنية الجارية في الأقسام الاستشراقية ومعاهد أصول الدين الإسلامي حديثة التأسيس في الجامعات الألمانية وأنّه قد كاتب بعض المستشرقين المتخصصين في حقل الدراسات القرآنية بالبريد الإلكتروني. من بين من كاتبهم كانت المستشرقة العلّامة الأستاذة الدكتورة آنغيليكا نيوْويرت بالألمانية: Prof. Dr. Angelika Neuwirth وتُعدّ الرقم الأوّل في الدراسات القرآنية في ألمانيا، فردّ عليه بعض الأساتذة بأنّهم عجائز أو مرضى ولا يمكنهم التواصل معه؛ لكنّ الأستاذة نيوْويرت أعلنت استعدادها للتراسل معه حسناً والإجابة عن أسئلته شرط ألّا يجري باللغة العربية، لأنّ حاسوبها كما كتبت ليس له مفتاح عربي يمكنّها من الكتابة بالعربية ما أضعفَ هذه الذريعة! أستاذة جامعية صاحبة كرسي جامعي ليس عندها حاسوب ذو مفتاح عربي. كيف نصدّق مثل هذا الكلام المُضحك. ليس أشدّ دلالة على إهمال المستشرقين الألمان للغة العربية من صراحة إجابة الأستاذة نيوْويرت. جرى هذا الحديث بيني وبين الأستاذ سباعي البخاري في شتاء 2013 و2014. فكيف كانت الأستاذة نيوْويرت لم تتعوّد بعد على استخدام الخطّ العربي بحاسوبها في مثل هذا التاريخ وقد دخل العالم العربي عصر الحاسوب والإنترنيت منذ عقدين على الأقلّ. لِنعد إلى جامعة توبينغين وقسمها للدراسات الشرقية والإسلامية. سأفصّل الكلام في تاريخه الحديث كما عشتُه في حلقة مقبلة؛ لكنّ اليوم أكتفي بوضع القسم الحالي. تتكوّن هيئة التدريس من أستاذة وأستاذين. أركّز انتباهي هنا على أحد الأستاذين وهو الأستاذ بيسو سالف الذكر. مع أنّ الأستاذ بيسو ينتمي إلى جيل جديد من المستشرقين، جيل يهتمّ اهتماماً أكثر بحاضر العالم العربي وتاريخه المعاصر وليس مثل زميلته الأستاذة الدكتورة هايدرون آيخنير التي تهمل في دراساتها عن الفلسفة الإسلامية التراثية كلّ بحوث زملائها العرب المعاصرين قاطبةً فهو كذلك يتجنّب توظيف اللغة العربية الفصحى في تعامله مع الباحثين العرب أو لِنكُن أكثر دقةً، إنّه يقتصر على اللهجة الشامية بدلَ الفصحى في التعامل مع الباحثين العرب، بمعنى آخر إنّه يبتعد عن حضور تلك المؤتمرات والمحاضرات التي قد يلقي فيها بعض الأساتذة العرب محاضراتهم بالعربية. يتجرّأ الأستاذ بيسو على إهمال العربية الفصحى مع أنّه ادّعى أمام لجنة تولية الأساتذة التابعة لكلّية الفلسفة بأنّه يجيدها بطلاقة. فكيف يجيد العربية كلغة حديثة للعلم والتواصل بطلاقة، وهو يرفض التراسل باللغة والخطّ العربيين مطلقاً، تماماً مثلما تفعل الأستاذة نيوْويرت سالفة الذكر؟ بادئ ذي بدء كنت أشكّ في صحّة إجراءات توليته كرسي الدراسات الإسلامية، لأنّه لم يكن قد تقدّم بأطروحة "الهابيليتاسيون" أي الدكتوراه الثانية مسبقاً، كما يجب في المنظومة الجامعية الألمانية على من يريد تولّي كرسي أستاذ كامل وليس فقط وظيفة أستاذ شابّ. فاكتفت عمادة كلّية الفلسفة التابعة لجامعة توبينغين في حاله هو بادّعائه إتقان اللغة العربية الفصحى بطلاقة، مع أنّ هذا الادّعاء لا يصحّ على المحتمل. فقرّرت أن أكاتبه بالبريد الإلكتروني كي أتحقّق من فصاحة لغته العربية. أردت أن أعرف إذا اعتمدت توليته كرسي الدراسات الإسلامية على قدرة وطاقة حقيقيتين أو على مجرّد كذب من جانبه. فشرعت أكاتبه باللغة والخطّ العربيين بالبريد الإلكتروني وجاء ردّه يجاملني من أجل فصاحة لغتي العربية وهو يكتب باللغة الألمانية والخطّ اللاتيني فحسب. فأعدتُ الكتابة بالعربية مرّتين أخريين مصّرا إصراراً أشدّ في كلّ مرّة على إجابته بالعربية، إذا أراد أن يكسب ثقتي به كمستشرق قادر. فرفض كلّ مرّة الكتابة بالعربية، وبدلَ ذلك كان يعيد مجاملتي من أجل لغتي الفصيحة. كان الأستاذ بيسو يصرّ على تجنّب العربية واخترع ذريعة أنّه مستعدّ للكتابة بالعربية مبدئيا، لكن وقته المحدود والضيق لا يسمح له بها. تذكّرنَ وتذكّروا أنّه حصل على كرسي جامعي كامل بسبب ادّعائه إتقانها بطلاقة. فأسأل نفسي: أين هذه الطلاقة المربّحة في الحقل الجامعي أو هل هي أوهام وأكذوبة وحسب؟ نادراً جدّا يمكننا أن نُثبت إهمال المستشرقين الألمان للغة العربية ونبرهن عليه بدليل قاطع، مثلما يمكننا في حالة الأستاذ بيسو. إنّه منحنا فرصة استثنائية لإثبات وضعية اللغة العربية السيئة في منظومة الاستشراق الألماني. فما كان يصّر على الكتابة بالألمانية فحسب، بل إنّه لم يغيّر من قراره، حتى مع أنّي بعثتّ نسخة من كلّ بريد إلكتروني إلى عمادة الكلّية وهو كان واعياً بهذه النسخ. بمعنى آخر إنّه كان مقتنعا كلّ الاقتناع بأنّ عمادة كلّية الفلسفة ستذود عن مصالحه ولن تعاقب عليه بسبب ادّعائه الكاذب بلسان عربي طلِق. أو بكلمات أخرى إنّه كان يثق بتأثير المخابرات الألمانية الخارجية لصالحه. لقد صدر في هسبريس في أوّل فبراير هذه السنة الجزء العربي من التراسل بينني وبين الأستاذ بيسو في حلقة تمهيدية لهذه السلسلة أعدّها صديقي المغربي الأستاذ رمضان مصباح الإدريسي وعنوانها "هوفمان : كذب المستشرقة "فرايتاغ" على الرقابة الحكومية المغربية". واحتجّ المعلّق الواحد على هذه الحلقة قائلاً: "إمعان الأستاذ في جزئياته ومحاولة استيضاحها كانت تشوش على السياقات مما كان يتعذر معه إدراك المعنى العام الذي يرمي إليه الأستاذ". وأنا موافق على احتجاجه، لأنّ القارئ العربي لم يتعمق في عادات ومناهج الجامعات الألمانية عادةً. فينقصه السياق المجتمعي لفهم ما جرى بينني وبين الأستاذ بيسو من نقاش. لكنّ الآن بعد أن أوضحتُ خلفية التراسل بينّي وبين الأستاذ بيسو، فأتمنّى أن القضية اتّضحت أمام أعين القرّاء العرب وأنّهم يفهمون إصراري على إعادة نشر نصّ التراسل بكامله، في شطره العربي وشطره الألماني ملحقاً في جزء هذه الحلقة الثاني. أرجوكم أن تسمحوا لي بنشر هذا النصّ باللغتين العربية والألمانية دليلاً على صحّة ما قلت به في الأعلى، علماً بأنّ هناك عشرات أو مئات من العرب المقيمين في ألمانيا والنمسا وسويسرا المجيدين للغة الألمانية. لا ريب في أنّهم سيفهمون النصّ في شطريه ومن خلال ذلك المقصد والغاية من وراء مراسلتي الأستاذ بيسو باللغة والخطّ العربيين، مخترقاً هكذا ذرائع المستشرقين الألمان. وقد وصلنا إلى نهاية جزء الحلقة الأوّل وسيوثّق جزؤها الثاني (2.2) نصّ التراسل الذي جرى بينني وبين الأستاذ الدكتور يوهان بيسو بالبريد الإلكتروني في شهر ديسمبر 2013، كي يمكن للقارئ العربي أن يتحقّق بنفسه من صحّة تُهمي معتمداً على متن التراسل بذاته وليس على عرضي أنا فحسب. وإلى اللقاء في جزء الحلقة الثاني، تكملة المقال وملحقه في جزء الحلقة الثاني المقبل. *مستشرق ومؤرّخ من جامعة توبينغين في ألمانيا