"استهانة المستشرقين الألمان باللغة العربية وإهمالهم لها كلغة حديثة للعلم والتواصل: (3) العلاقات اللغوية الثنائية واقعية لا إهانة ولا مجاملة" عزيزاتي القارئات والمعلّقات وأعزّائي القرّاء والمعلّقين، قبل أن أبدأ الحلقة الجديدة "(3) العلاقات اللغوية الثنائة واقعية لا إهانة ولا مجاملة"، أريد أن أشكر كلّ من قرؤوا الحلقتين الأولى والثانية وتأمّلوا في موضوعهما وعلّقوا عليهما، سواء أكانوا مؤيّدين لموقفي أم رافضين له أو محتجّين على بعض أوجهه. المهمّ أنّهم اجتهدوا وعبّروا عن وجهات نظرهم، ولو اختلفت. والاختلاف في الآراء صفة من صفات بني آدم وبناته. من بين من احتجّوا على أسلوبي المعلّقُ رقم 6 السيد حمزة م. الذي طلب منّي في تعليقه على الحلقة الأخيرة "(2.2) الأستاذ الدكتور يوهان بيسو من قسم الدراسات الشرقية والإسلامية التابع لجامعة توبينغين نموذجاً نصّ التراسل بينه وبينني" بأن أتجنّب ذكر أسماء "الأشخاص وارتساماتهم المنقضية". مع أنّي أميل إلى الموضوعية وأمنحها الأولوية بشكل مبدئي كما يطلبها هنا المعلّق حمزة، لن أتراجع عن ذكر أسماء الباحثين والمؤسّسات العلمية ولن أستغني عن البراهين والدلائل القاطعة والضرورية. لولاها لَوسِع زملائي المستشرقين الألمان والناطقين بالألمانية أن يتّهموني بالأوهام والتخيّلات الشخصية، وكما أعرفهم، فإنّهم لن يتورّعوا عن الحجج والتهم والذرائع الباطلة كي يُبقوا كلّ شيء على ما كان عليه. إنّي لا أدلّ صدفةً على أشخاص بأسمائهم، بل عمداً. لو كانت المقالات الصادرة في موقع هسبريس مقالات علمية صرفة، لوضعتُ هوامش وافرة واسترجاعات ببليوغرافية كافية، لكي لا يشكّ القارئ في صحّة المعلومات الموفّرة ومصداقيتها، بل يتأكّد بنفسه من دقّتها وأمانتها. فيما عدا الانتقادات القائلة بأنّي أميل إلى تهم وتوبيخات شخصانية، نجد في التعاليق على مقالاتي انتقادات أخرى هي من قبيل مختلف وتترتّب على نزاع لغوي في المجتمعات العربية عامةً، والمغاربية خاصّة، يدور حول مسألة اللغة أو اللغات الوطنية المعترف بها رسمياً أو الأكثر تناولًا أو الطالبين باعترافها رسمياً فئة من فئات سكّانها. فهناك من يؤيّدون دور اللغتين الفرنسية والإنكليزية بخصوص فائدتهما في عالم تسود فيه العلوم الطبيعية والتكنولوجيا الحديثة، ومن يدلّون على دور اللغات الأمازيغية المهمّ ومكانتها التاريخية وأصالتها الثقافية في قطاعات واسعة من مجتمعات المغرب العربي، ومن يؤكّدون عروبة البلدان المغاربية وأهمّية اللغة العربية للتواصل بين سكّان العالم العربي بأسرهم وبخاصّة فيما يخصّ مكانة لغة القرآن الكريم في الحضارة الإسلامية. قبل أن أنشغل بهذه المسألة اللغوية وأردّ على بعض الحجج المقدّمة، لا بدّ أن أوضّح خلفيتي الثقافية كوني ألمانياً مسيحيا بدون جذور عربية. فأنا لا أطلب من زملائي المستشرقين الألمان تركيزا أكثر على اللغة العربية ودورها في العلاقات الثنائية بين البلدان العربية والبلدان الناطقة بالألمانية، لإنّي منحاز بأيّ شكل من الأشكال إلى تزمّت عروبي أو إلى تعصّب لغوي لصالح لغة الضاد، ولا أروّج كذلك لهيمنة اللغتين العالميتين غربيتي الأصل، أي الإنكليزية والفرنسية، ولا أدعو لمثل هذا الدور للغتي الأمّ، أي الألمانية طبعاً، بل ما أدعو إليه فهو تقارب ومنهج واقعي يعي دور هذه اللغات الفعلي والحقيقي في سياقيْ مجتمعاتها والعلاقات المتبادلة بين بعضها البعض واحترامٌ لكلّ لغة على حدة وحسب دورها المجتمعي ومكانتها الثقافية. إنّي قد طبّقت هذا المنهج، أي احترام كل لغة على حدة وحسب وزنها الحقيقي، على بعض مساهماتي العلمية. على سبيل المثال جمعتُ الإنتاج الفكري لأكثر من ثلاثين لغة في مجال الترجمة الأدبية لأعمال الأديب النمساوي ستيفان زفايغ، من بينها عدد هائل من الترجمات العربية. وسمح لي جامع "ببليوغرافيا ستيفان زفايغ" العالمية العلّامة الأستاذ الدكتور راندولف كْلاويتير بضمّ المعلومات الببليوغرافية إلى ببليوغرافياه. والأستاذ كْلاويتير (بالانكليزية: Prof. Randolph J. Klawiter) أستاذ متقاعد للأدب الألماني في "جامعة سيدتنا" الكاثوليكية في مدينة "ساوث بينْد" في ولاية إنديانا في الولايات المتّحدة الأمريكية(بالانكليزية: Notre Dame University, South Bend, Indiana). فأمكنني العثور على أربع وعشرين لغة إضافية تمّ نقل بعض أعمال ستيفان زفايغ إليها ولم يكن عثر عليها الأستاذ كْلاووتير من قبل. فمع أنّي أثبتّ أنّ اللغة العربية من أنشط اللغات في حقل ترجمة أعمال ستيفان زفايغ على الصعيد العالمي، لم أهمل اللغات الأخرى، بل منحتُها الاحترام الواجب، احترامها حسب قسطها في حركة ترجمة أعمال زفايغ العالمية. وسأفصّل قصّة مساهمتي في ببليوغرافيا الأستاذ كْلاووتير في حلقة من الحلقات القادمة في موقع هسبريس، كي لا أخيب آمال القرّاء جميعها، بل أقدّم لهم بعض الأمثلة لتقارب إيجابي نحو اللغة العربية وقدوة يُقتدى بها في مستقبل أسطع. من بين من علّقوا على مقالاتي من عاب على اللغة العربية عجزها في مجال العلوم والتقنيات الحديثة. ويصحّ هذا التأنيب إلى حدّ ما، لكنّه لا ينطبق على العربية فحسب، بل على كلّ اللغات الحديثة ما عدا الإنكليزية، حتّى على الفرنسية، لأنّ البحوث العلمية الأكثر تقدّماً تجري في عالم اليوم باللغة الإنكليزية وتُنشَر النتائج المترتّبة عليها باللغة عينها. قد فاتت الأزمنة إلى غير رجوع، حينما حجّ الباحثون الأمريكان إلى الجامعات ومعاهد البحث الألمانية ليدرسوا الفيزياء النووية على أيدي الأساتذة الألمان، كما كانت العادة في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين. فقد يسأل بعض قرّائي: لِم تدعو في مثل هذا الحال زملاءك المستشرقين الألمان إلى اهتمام أكبر بلغة العرب وجهد أوفر بتعلّمها متّهماً إيّاهم بأداء لغوي ركيك وإهمال للعربية كلغة التواصل يكاد يصل إلى الاستهانة الصريحة بها، والعربية نفسها قد فقدت من ووزنها داخل المجتمعات العربية ومن تأثيرها خارجها؟ فأجيب بأنّ أهمّية لغة، أية لغة، نسبية وتتعلّق بعوامل عديدة وتتطوّر في سياق المجتمعات المتكلّمة والكاتبة بها. بمعنى آخر، إنّ التخلّف الذي ما تزال تتّسم به المجتمعات العربية، يؤثّر فعلاً على اللغة العربية ومكانتها في مختلف مجالات هذه المجتمعات وشتّى قطاعاتها. لكن في الوقت نفسه تتطور وتترقّى بتطوّرها وعلى محاذاتها. وهذه النقطة الأخيرة هي التي أتّهم زملائي المستشرقين بعدم الاعتبار بها، كأنّ البلدان العربية ومجتمعاتها ومواطنيها لم يتقدّموا منذ استقلالها إلى الأمام أبداً. إنّ بناء البلدان العربية وتطورها منذ حصلت على استقلالها خفيا عن أنظار معظم المستشرقين والباحثين الألمان المتخصّصين في شؤونها، كأنّ العالم العربي ما يزال يعيش في أربعينات القرن الماضي. بمعنى آخر، أنا أدعو زملائي المستشرقين الألمان إلى احترام العربية وتقديرها في ضوء دورها الفعلي في المجتمعات العربية المعاصرة وحسب تطوّر منظومتها العلمية المستخدِمة إيّاها في إنتاجها الفكري. فالتركيز على العربية ليس مبالغة في شأنها ولا مجاملة في قيمتها، بل تقارب إلى واقع معاش يجهله أو يكاد يجهله على أقلّ تعبير سواد المستشرقين و"خبراء الشرق الأوسط" الناطقين بالألمانية. دعوتي إلى احترام العربية الفصحى وتقديرها وتقويم دورها ووزنها تقويماً واقعياً لا تنبع من أيّ نوع من أنواع التعصّب اللغوي، بل تهدف إلى تصحيح خطأ ارتكبه وما يزال يرتكبه المستشرقون الألمان وزملاؤهم النمساويون والسويسريون الناطقون بالألمانية تجاه لغة العرب، عندما اخترعوا لها وضعيةً ومعاملة استثنائيتين عكس ما يعاملون به اللغات الأوروبية. فيتصرّفون في شأن اللغة العربية مثلما يتصرّفون في شأن اللغتين القديمتين الإغريقية واللاتينية، ما معناه أنّهم يقرؤون النصوص التراثية المكتوبة بها في أحسن حال أو يتظاهرون بقراءتها فقط في أسوأ حال، لكنّهم لا يتجرّؤون على استخدامها لغةً حديثة وفعّالة وخلّاقة. بكلمات أخرى، إنّهم لا ينهجون المنهج نفسه الذي ينهجون في حالة اللغات الأوروبية القومية الحديثة حيث ينبغي على العلماء والباحثين المتخصّصين في شؤون المجتمعات الناطقة بها أن يبذلوا الجهد الكافي في تعلّمها ليصلوا إلى مستوى لغوي يمكّنهم من التواصل الفعلي والفاعل مع الشعوب والأفراد الناطقين بها. أمّا مثل هذا التواصل فيكاد يكون من المستحيل أنّ مستشرقاً أو خبيراً ألمانيا في شؤون الشرق الأوسط يحقّقه في تعامله مع المواطنين العرب أو مع زملائه العرب في حقل دراساته العلمية للأسف الشديد. وأوضح دليل على إهمال العربية الرسمي من جهة الهيئة الأكاديمية الألمانية وعلى جمودها العلمي في هذا الشأن أنّ "مؤتمر رؤساء الجامعات الألمانية" الرسمي (بالألمانية: Hochschulrektorenkonferenz) أصدر في عام 2014 كُتيبا أعرب فيه رؤساء الجامعات الألمانية عن لا مبالاتهم بدور العربية في التبادل والتعامل العلميين بين الباحثين العرب والألمان إلّا في حقلي الاستشراق والاستعراب وحدهما: Das Erlernen der arabischen Hochsprache für den Unterricht wird nur von Studierenden der Sprach- oder Islamwissenschaften erwartet. "بالنسبة للدراسة الجامعية لا نتوقّع تعلّم العربية الفصحى إلّا من طلّاب وطالبات العلوم اللسانية (أي الاستعراب) والإسلامية (أي الاستشراق)". ما معناه أنّ العربية تخرج عن نطاق جميع العلوم والفروع الإنسانية والاجتماعية الأخرى ماعدا القلّة القليلة من المستشرقين والمستعربين أنفسهم الذين لا يبالون بإتقانها أصلاً كما وضّحتُه في السطور السابقة بكلّ وضوح. هكذا لن يتخّرج في الجامعات الألمانية في السنين والعقود القادمة مؤرّخون وفلاسفة وسوسيولوجيون ولسانيون وأنثروبولوجيون وجغرافيون وقانونيون وعلماء سياسة وهلم جرّا يتخصّصون في شؤون البلدان العربية ويتقنون لغة أهلها. لأنّي لا أتوقّع ولا أطلب بأيّ حال من الأحوال أنّ الدارسين والباحثين غير المتخصّصين في شؤون البلدان العربية يتعلّمون لغتكنّ ولغتكم. هذا بعيد كلّ البعد عن مطالبي كوني واقعياً. مطلبي فقط أنّ من الواجب على من يتخصّصن ويتخصّصون في الشؤون العربية أن يتقنوا، إلى حدّ ما، اللغة الخاصّة بحقل بحوثهم ودراساتهم وليس أكثر من ذلك ولا أقلّ. أليست بديهيةً من البديهيات أنّهم يعاملون اللغة العربية، وهي لغة جيران أوروبا الجنوبيين، مثلما يعاملون اللغات الأوروبية نفسها. هل هذا المطلب تعبير عن تعصّب ولا عقلانية؟ ولأنّ الأوضاع ما تزال مخيبة للأمل ولأنّ المستشرقين الألمان ما يزالون يصرّون على خطئهم ويبذلون الجهد الأكبر لإخفاء هذ الخلل بدلَ أن يشرعوا يصحّحونه، لا بدّ من أن أشير إليهم فراداً وأذكر أسماء من يتّسمون بإهمال لغة الضاد وهم يتظاهرون بعلميتهم الخالصة وطلاقة لسانهم العربي. فغايتي من مهاجمة مستشرقين وباحثين معيّنين اختراق قلاعهم وحصونهم المتينة التي يتخفّون خلفها ويدسّون من ورائها ضدّ من يجتهدون في سبيل علمية أخلص وعالِمية أتقن. سيتّضح من اجتراء بعضهم الجهلة كم هو سيئ تأثيرهم في العلاقات الثنائية وكيف يقفون عائقاً في سبيل تفهّم وتفاهم أفضل بين الجانبين العربي والألماني (والنمساوي والسويسري). فما هي عواقب عجزهم اللغوي وتظاهرهم بعكس ذلك؟ معظمهم يهملون القراءة بالعربية، بمعنى أنّهم يقرؤون القليل من النصوص العربية أو لا يقرؤونها البتّة. ثمّ لا يتعاملون في فعّاليات بحوثهم ودراساتهم مع زملائهم العرب إلّا إذا أتقن الأخيرون اللغات الإنكليزية أو الألمانية أوالفرنسية، فتجري البحوث والدراسات المشتركة بهذه اللغات الأوروبية. إنّ المستشرقين الألمان والباحثين المتخصّصين في الشؤون العربية عادةً لا يتواصلون بها مع أندادهم العرب، لا يتكلّمون بها معهم، لا يتّصلون بهم هاتفياً، لا يكاتبونهم بها لا بالبريد التقليدي ولا بالبريد الإلكتروني، لا يحضرون المؤتمرات العلمية إلّا إذا لا يعرض المشتركون الآخرون أبحاثهم بالعربية. وطبعاً إنّهم لا يلقون محاضراتهم أو مداخلاتهم في المؤتمرات العلمية باللغة العربية مبدئياً. كذلك لا يدعون أساتذة عرباً زوّاراً إلى معاهدهم الاستشراقية في ألمانيا، إذا كان من الممكن أنّ العالم أو الباحث العربي يتجرّأ أو يصرّ في أخطر حال على استخدام لغته العربية. من أجل ذلك لا نجد لهم مساهمات علمية في أعمال المؤتمرات العربية، لو كانت اللغة المفضَّلة هي العربية. لا يشتركون في تحرير مجلّدات علمية عربية ولا يعرضون للنشر مقالات من تأليفهم هم على محرّري المجلّات أو الصحف العربية. علاوة على تجنّبهم اللغة العربية في التبادل العلمي المباشر، يهملون ترجمة الأدبيات العلمية العربية أيضاً. إنّ نقل الكتب العلمية المكتوبة بالعربية إلى اللغة الألمانية لم يتمّ خلال المائة والخمسين عاماً الماضية إلّا نادرا جدّا جدّا. فتكون الأدبيات العربية الصادرة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية غير معروفة تقريباً عند القارئات الألمانيات والقرّاء الألمان بغض النظر عن مستواها وجودتها العلميين المختلفين. ويساوي وضع ترجمة الكتب العربية إلى اللغتين الإنكليزية والفرنسية وضعها في الألمانية إلى حدّ بعيد أو لِنقُل إنّه لا يرتفع عنه بكثير. ليْتهم أهملوا الترجمة فقط، لكنّهم دسّوا ضدّ من تجرّؤوا على ترجمة الكتب العلمية العربية، ولي شخصياً تجربة سيّئة من هذا القبيل، تعرّضتُ لها عندما ترجمت كتاب "عولمة القهر: الولايات المتّحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمر 2001" للأستاذ الدكتور جلال أمين من الجامعة الأمريكية في القاهرة، وعنوان الترجمة الألمانية: „Zwangsglobalisierung. Die USA، die Araber und die Muslime vor und nach den Ereignissen des September 2001“http://hdl.handle.net/10900/46625 فعاقبتني مديرة "مركز الشرق الحديث" الواقع في برلين، الأستاذة الدكتورة أُلريكه فْرايْتاغ، على ترجمة الكتاب ونشره. وسأقصّ هذه الحكاية بالتفصيل على القارئات العربيات والقرّاء العرب في حلقة لاحقة معنية بهذا المركز "العلمي". عليكنّ وعليكم أن تفهموا أنّ الكتب العلمية المنقولة من العربية إلى الألمانية أو الإنكليزية أو الفرنسية تمثّل تهديدا لهم لأنّها تكشف عن جهالتهم بوجود مثل هذه الأدبيات أصلاً. إضافة إلى كلّ ما سبق يجهل المستشرقون وخبراء الشرق الأوسط الألمان الإنترنت العربي كثيراً ما ولا يتصفّحونه ولا يطّلعون على مواقعه إلّا نادرا جدّا. فهناك من يدّعي بأنّ حاسوبه ينقصه المفتاح العربي ومن أجل ذلك لا يمكنه التراسل بالبريد الإلكتروني بالعربية. هكذا فعلت جهبذ الاستشراق الألماني البروفسورة آنغيليكا نويْويرت من جامعة برلين الحرّة (بالألمانية: Prof. Dr. Angelika Neuwirth) كما أشرت إليه في الجزء الأوّل من الحلقة الثانية "البروفسور بيسو أنموذجاً". أظنّ أنّه اتّضح من كلّ ما سبق أنّ ذكر أسماء هؤلاء ضروري ولا يمكنني الاستغناء عنه، لو قصدتُ إلى تغيير الأوضاع الفعلي والدائم. إنّ منهج المستشرقين وخبراء الشرق الأوسط الألمان اللغوي السائد حالياً لا يصلح ولا يليق بالعلوم الإنسانية والاجتماعية العربية، ولا يتطابق مع تقدّم هذه العلوم المتحقّق في الجامعات ومعاهد البحث العالية العربية. وهناك أدلّة تدلّ على أنّ هذا التقدّم قد حقّق نجاحاً أوسع مما يظنّ بعض الخبراء. ولو اعتقدنا بما أسفرت عنه بحوث "تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2003: نحو إقامة مجتمع المعرفة"، لتراجعت العلوم في العالم العربي إلى الوراء بدلا من أن تتقدّم إلى الأمام ولو قليلاً. كاتب هذه السطور ليس الوحيد الذي يشكّ في صحّة التقرير ودقّته. فأتذكّر مقولة للمستعرب الفرنسي المشهور الأستاذ الدكتور ريشار جاكمون (بالفرنسية: Prof. Richard Jacquemond) من جامعة بروفنس في مدينة آكس أون بروفانس، تقول إنّ عدد الكتب المترجمة إلى العربية أضعاف ما يدّعي به تقرير الأمم التّحدة. وأنا أيضاً وجدتّ أنّ عدد الترجمات في مجال محدود من حركة الترجمة العربية وهو ترجمة الكتب العبرية يتجاوز الإحصاءات الدولية بأضعاف. وعلى المحتمل يعود سبب أعداد تقرير الأمم المتّحدة الخاطئة إلى إحصاءات دولية ناقصة وفّرتها اليونيسكو واعتمد عليها مؤلّفو تقرير التنمية الإنسانية العربية، يعني أنّهم استنتجوا من إحصاءات ناقصة تراجع النتاج والنشاط العلميين للعالم العربي بكامله. أمّا ما يخصّ عدد الترجمات من العبرية إلى العربية وهو ليس بقليل، فخصّصت له مقالاً مكتوباً بالألمانية صدر في مجلّة "يودائيكا: مساهمات في تفهّم اليهودية" (2014، ص 220245) المتخصّصة في الدراسات اليهودية والصادرة في مدينة زيوريخ في سويسرا وعنوان المقال: Friedhelm Hoffmann: Arabische Judaika – eine Zwischenbilanz، ما معناه بالعربية "الإصدارات العربية في الشؤون اليهودية خلاصة مؤقّتة". خلاصة القول إنّ انتقاداتي الموجّهة ضدّ المستشرقين والباحثين الألمان والناطقين بالألمانية ليست دعايةً لقضية قد انهزمت وضاعت، بل تعتمد على واقع المجتمعات العربية وعلاقاتها مع الخارج. ولو تجاهلنا هذا الواقع، لألحقنا ضرراً بهذه العلاقات. فهل من المعقول أنّ الأساتذة أصحاب كراسي العلوم المتخصّصة في شؤون البلدان العربية لا يهتمّون بنقل الأدبيات العلمية العربية إلى اللغة الألمانية فقط، بل بالعكس يثبّطون الآخرين عنه أو، في أسوأ حال، يدسّون ضدّهم خوفاً من ترجمة الكتب الخاصّة بحقل دراساتهم ومن أنّها ستدحض ادّعاءهم الكاذب بأنّ لا وجود لمثل هذه الكتب أصلاً؟ على سبيل المثال أتذكّر كيف اقترحتُ قبل عدّة سنين على الأستاذ الدكتور أوليفير شْلومْبيرغير وهو الأستاذ المعني بسياسة البلدان العربية في قسم العلوم السياسية التابع لجامعة توبينغين (بالألمانية: Prof. Dr. Oliver Schlumberger، Institut für Politikwissenschaft، Universität Tübingen) ترجمة كتاب "مصر والدائرة المتوسطية: الواقع والمستقبل حتى عام 2020م"، من تأليف عالم السياسة المصري الأستاذ الدكتور سمعان بطرس فرج الله (مدينة نصر: دار الشروق، 1422ه / 2002م)، الذي صدر في سلسلة "منتدى العالم الثالث : مكتبة مصر 2020"، فرفض شْلومْبيرغير الفكرة واخترع ذريعة أنّ مشاهير علماء السياسة العرب لا يضعون مؤلّفاتهم بالعربية بل يفضّلون الإنكليزية بصفتها لغةً عالمية. طبعاً أنا لا أنكر أنّ التأليف بالإنكليزية يسهّل انتشار الكتب العلمية في كلّ أنحاء العالم، لكنّ علماء السياسة العرب يركّزون انتباههم عادةً على القرّاء العرب، قبل أن يكتبوا لأجل القرّاء في الخارج. إنّ الأستاذ شْلومْبيرغير تجرّأ حتّى على الادّعاء بأنّ إصدارات العلوم السياسية لا تصدر إلّا بالإنكليزية وما يصدر بلغة غيرها فلا قيمة له أصلاً. فأسأل نفسي: كيف يحلّل أمثال شْلومْبيرغير سياسة البلدان العربية وخاصّة الخطاب السياسي الجاري في المجتمعات العربية وهم لا يقرؤون نصوصاً عربيةً على الإطلاق؟ ولا ننسَ أنّ مؤلّف الكتاب المقترَح ترجمته أستاذ العلوم السياسية المصري سمعان بطرس فرج الله من علماء السياسة المصريين المرموقين ودرس هو نفسه على أيدي أساتذة أوروبيين في جامعة جنيف وحضر العديد من المؤتمرات الدولية. فمن يستحقّ الافضلية والأولوية: الأستاذ فرج الله أو الأستاذ شْلومْبيرغير؟ وسأفصّل الحديث في شأن قسم العلوم السياسية التابع لجامعة توبينغين في حلقة لاحقة. أو هل من المعقول أنّ الأستاذ صاحبَ الكرسي الوحيد المتواجدِ في ألمانيا المتخصّصِ في وسائل الإعلام العربية لم يقرأ طول سيرته الأكاديمية مقالة صحفية مكتوبة بالعربية ولا واحدة؟ إنّي لا أتوهّم مثل هذه الأوضاع، بل أتكلّم عن واقع مؤسف. مع أنّ هذا الأستاذ يُعتبر من الباحثين المرموقين في حقل دراساته، لم أجد في كلّ كتاباته أنّه اقتبس عنواناً واحدا لأيّ كتاب عربي أو أيّة مقالة عربية اقتباسا صحيحاً. واسم الأستاذ البروفسور الدكتور كاي حافظ من جامعة إيرْفورْت(Prof. Dr. Kai Hafez،Universität Erfurt)، أو هل من المعقول أنّ أستاذاً متقاعداً كان له كرسي معني بسياسة البلدان العربية لم يقرأ طول حياته أيّ نصّ بالعربية ولم يهتمّ بآراء زملائهم العرب إلّا إذا صدرت بالإنكليزية والألمانية يتجرّأ الآن على اقتراح تقسيم جديد لبلدان المشرق العربي، كما فعل الأستاذ الدكتور بيتر پاڨيلْكا في إحدى محاضراته الأخيرة؟(Prof. Dr. Peter Pawelka،Universität Tübingen). لِنتجاوزْ هذا الواقع المؤسف ولِنصحّحْه. إنّي أتمنّى أنّ مقالاتي الصادرة في موقع هسبريس ستساهم في تصحيحه وتقود إلى منهج أكثر واقعية وأكثر موضوعية من جانب الباحثين الألمان في حقل الدراسات الجامعية المتخصّصة في شؤون البلدان العربية وشعوبها. وما زلت متأكّداً من أنّ أكبر قسط من المسئولة عن هذه الأوضاع السيئة تتحمّله، في ألمانيا، المخابرات الخارجية الألمانية المسمّاة ب"دائرة الاستخبارات الاتّحادية الألمانية"(بالألمانية: Bundesnachrichtendienst ‚BND‘)، كما قد أشرتُ إليه في الحلقة الأولى "خبرات وملاحظات شخصية تمهيداً" من سلسلتي هذه. وسأتابع سلسلة "استهانة المستشرقين الألمان باللغة العربية وإهمالهم لها كلغة حديثة للعلم والتواصل" متناولاً في الحلقة الرابعة القادمة قضية "باحثتين في جامعة زيوريخ السويسرية لا حاجة لهما بالمصادر العربية إطلاقاً". ثمّ تلي حلقة عن "قسم العلوم السياسية التابع لجامعة توبينغين نموذجاً لمثيلاتها في الجامعات الناطقة بالألمانية الآخرى". وإلى اللقاء في الحلقة القادمة، *مستشرق ومؤرّخ من جامعة توبينغين في ألمانيا