أرجع العديد من علماء الاجتماع تأسيس المدن إلى تجمع الناس حول السوق، قبل أن تتوسع الحركة الصناعية وتمتد إلى الضواحي والقرى، ليدخل الجميع في حركة تمدن متسارعة. وتقدر منظمة الأممالمتحدة أنها ستصل في أفق 2050 إلى 83% في الدول المتقدمة، و67% في الدول النامية، وما يصاحب ذلك من قيم جديدة تعمل على طمس القيم القديمة على المستوى الفردي والجماعي. مفهوم المدينة والقرية: بالإضافة إلى السوق، فإن المدينة في القديم عرفت بمكان تواجد السلطة الحاكمة. كما أن تحديد حجمها كان يرجع في الحضارة العربية إلى مدى غناها بالمؤسسات الدينية والاجتماعية والمعاهد العلمية. وتستمد المدينة هويتها انطلاقا من عدد السكان الذين يتميزون بقدر من التعليم والثقافة، وأكثر استجابة للمتغيرات الحضارية، والميل إلى تحسين نوعية الحياة. أما القرية أو الريف فتطلق على الأراضي الداخلية الخصبة على ضفاف الأنهار، كما تطلق على سلسلة جبلية في شمال المغرب. يتجمع فيها عدد قليل من السكان بالمقارنة مع المدينة. ويكونون مجتمعا أساسه الروابط القبلية والعائلية، ويتطابقون على المستوى الأخلاقي والفكري نتيجة ارتباطهم جميعا بالنشاط الفلاحي والرعوي. في حين ينشغل أهل الحضر بالتجارة والصناعة « بمهنها المختلفة وهي رمز للحضارة ولا توجد إلا في أهل الحضر ولا تكتمل إلا باكتمال العمران الحضري وكثرته لأنها عملية تصرف فيها الأفكار والأنظار بينما الفلاحة أو الزراعة في نظر ابن خلدون من معاش المستضعفين وأهل العافية من البدو». النظم الحضرية والنظم الريفية: يمتد الاختلاف بين المدينة والقرية، بالإضافة إلى اختلاف الأنشطة الاقتصادية الذي بدأت تتقلص مساحته، ليشمل تنظيم الأسرة والنمو الديمغرافي والمستوى المعيشي، والكثير من العادات والتقاليد التي تضمر في المدينة كلما اتسع حجمها، وتبرز بشكل جلي في القرية. فالحياة في المدينة تقوم على « المجهولية» (جورج زيمل) بما هي تجمع للغرباء تربطهم علاقات المنفعة. وهي غيرها في القرية التي حافظت على الروابط الطبيعية التي تخلق الاستجابة التلقائية لبعضهم البعض، نتيجة المشترك في المعتقدات والعادات التي تغذيها علاقات القرابة والجوار و... هذا الرابط الاجتماعي الذي بلغ من الوهن مبلغه في المدينة، بدأ يسترد بعض عافيته بقيام الوسائط الاجتماعية إن على مستوى التواصل الرقمي، أو على مستوى المجتمع المدني الذي انبرى لرتق ما انخرق من أواصر الدم والقرابة التي استبدلت بقيم المنافسة ورهانات القوة، للوعي الزائد للإنسان الحضري بذاته وفردانيته و الحرية التي يشعر بها الدافعة له نحو « الإبداع وليس التكيف مع المجال البيئي أو الطبيعي» (لويس ويرت)، استثمارا في رؤوس الاموال المتراكمة وانخراطا في النشاط الصناعي والخدماتي، فالمدينة «مجال ينتج ويستهلك ويتغير» (مانويل كاستر) وبتعبير ماكس فيبر: « تسمح بالتطور الكامل للقدرات الفردية والتجديد الاجتماعي»، عكس القرية حيث سكونية الذات وثباتها دون تغيير إلا فيما ندر وبشكل بطيء، دعما للتماسك الاجتماعي ومخافة الاقصاء والنبذ والتهميش. ظاهرة الاتصال الحضري - الريفي: إن هذا التمايز الذي بسط آنفا لم يعد بالدرجة التي كان بها في المجتمعات التقليدية، ولا بنفس الحدة بين الدول المتقدمة والدول النامية، ففي «العالم الحديث أوشكت خيوط التمايز على الاضمحلال بفعل الصناعة» (دافيد هارفي)، وما صاحبها من تطور في وسائل النقل والاتصال، وكذا ما عرفته البنية التحتية من تحسن، والانتشار الكبير للتعليم. كل هذا مع ما تعرفه المدينة من هجرة قروية غير مهيأة لها، جعلت الكثير من المدن (تتبدون) إن صح التعبير. بالانتشار الكبير للعشوائيات والباعة المتجولين الذين يحولون المدينة إلى سوق لا حدود له، ففرضت الكثير من الأنماط المعيشية البدوية ( تربية الماشية، إنجاز الأشغال المنزلية في الازقة، تجمع الناس في أبواب المنازل أو الدكاكين للسمر، السير والجولان دونما ضوابط،....) داخل المدينة وما ينجم عنها من مشاكل ومخاطر اجتماعية. وإن كان هذا التحول نحو المدينة ظاهرة حضارية تتفق وتنسجم مع تطور المجتمعات الإنسانية، لأنها تلبي رغبة الإنسان في التحول نحو الأفضل. والحياة في المدينة تغري بالانتساب إليها لنوعية سكنها وللخدمات الاجتماعية المتوفرة فيها، وأخرى ثقافية تلبي حاجات رمزية ومعنوية لذوي الطموح المعرفي. وتوفر فائض من الوقت باعتبار العمل في المدينة له بداية ونهاية الشيء الغائب في العمل الفلاحي الممتد زمانا ومكانا. أو يكون تحولا أملته عوامل طبيعية أو كوارث بيئية، أو لضعف المدخول الفلاحي الذي يزيد من صعوبة العيش بين فضاءات القرية. مساهمة التعليم في تسريع الاتصال الحضري – الريفي: إن ارتباط البدوي بالأرض سيعرف الكثير من الاهتزاز حينما يلج المدرسة ويطلع على الكثير من المعارف ويكتسب العديد من المهارات، التي تعمل على فتح إمكانيات أخرى للعيش غير التي هو وأهله منخرطون فيها، وبوسائل غير مألوفة لديه، وبإيقاع يتسم بالكثير من الدعة واليسر عكس الضنك الذي يكابده في الحصول على قوت يومه. سيتصل بالكثير من المفاهيم غير مألوفة ولا متداولة في المجتمع الذي نشأ فيه. سيتبنى قناعات حقوقية، ومفاهيم لتدبير الزمن غير ذلك الإيقاع الذي تفرضه الدورة الزراعية. سيكتسب مفاهيم حول وقت الفراغ وتدبيره بكيفية ترضي حاجته إلى الترفيه، والاستفادة من الإنجازات الحضارية ما استطاع إلى ذلك سبيلا. ويغذي هذا الانجذاب نحو المدينة، تلك النصوص والصور التي تحفل بها المقررات التي تقدم أطفال المدينة وهم يختلون في غرفهم الأنيقة الخاصة يمارسون ما طاب لهم من الألعاب أو الانزواء خلف مكاتب يرتعون في رياض المعرفة و الحقول العلمية، فإذا ما تعبوا أو نالوا شيئا من الاوساخ وتعرقوا، جراء الركض والقفز في حدائق بديعة الهندسة، غنية بالتجهيزات التي يتعطش لها فضول الأطفال وحاجتهم إلى اللهو والمرح، فرهن إشارتهم حمامات دافئة تذهب عنهم درنهم والتعب الذي أصابهم، استعدادا ليوم دراسي في مدرسة تخطف الألباب، بالمقارنة مع تلك التي جعلها أهل القرية مكانا لقيلولة قطعانهم ومأوى لسمرهم الليلي، فعندما فقدت شروط التعلم، ولا« رب يحميها» صارت هي والخراب سواء. فالهجرة نحو المدينة، أو تحضير القرية معناه، التحول من « الخشونة والبساطة والفطرة والصراحة وصفاء نفس» إلى الغنى والرفاه والدعة. في المسكن، والتأنق في اللباس، وطيب المأكل وهناء عيش. وهي أيضا انفكاك من أغلال الكثير من التقاليد والموروث الشعبي الذي يحد من انطلاق الشباب إلى فضاءات أرحب، وقيم تحررية كفيلة بتطوير قدراته إلى ما هو أفضل. بدل الركون إلى العائلة ونصرة القريب ظالما أو مظلوما، والافتخار بالنسب والثأر وطاعة الكبار وإن خلوا من أية حكمة. وتوزيع الأدوار بناء على الإنتاجية والقوة بمختلف تجلياتها، وإثبات الذات عوض الركون إلى «كان أبي». الخاتمة: إذا كانت المدرسة قد أبلت البلاء الكبير في تحبيب الحياة المدنية للساكنة القروية، فإنها لم تقم بدورها في تحديث المدينة والحفاظ عليها كفضاء للنظام وسيادة القانون والأعراف الحضارية، ونقل الصور النمطية عن المدينة إلى واقع معيش، متجسد في شوارعنا ومقاهينا وأسواقنا وأحيائنا، بقدر ما تم نقل أناس عملوا على تصدير أزمتهم إليها عندما ضاقت بهم سبل العيش في القرية وهم معذورون في ذلك، في غياب تنمية تستحضر حاجتهم وتلبي مطالب الإنسان. فكانت الهجرة عامل كبح لتنمية المدينة بالوتيرة التي كانت في ذهن مؤسسيها وبالوتيرة التي انطلقت بها، مع تلك الثلة من المهاجرين الأوائل الذين شكلوا نخبة طليعية في الرقي الحضاري والسمو الإنساني بما أشاعوا من قيم ومثل عليا ناضلوا من أجلها، واستماتوا في الدفاع عنها، حتى صاروا رواد إصلاح ومنارات فكر لازالت الأجيال تهتدي بما خطت أناملهم و « هذه آثارهم لشاهدة عليهم»، حيث جعلوا المدينة سياسيا لتبادل الأفكار والقيم، أكثر منها فضاء لتبادل السلع وغيرها.