بين حاجيات البلدان النامية و رهانات الدول المصنعة لقد أصبح الاهتمام بموضوع التكنولوجيا الفلاحية في البلدان النامية حاضرا بقوة لدى أطراف متعددة. ويأتي هذا الاهتمام في خضم الانتشار المتنامي لأنواع من التكنولوجيا الفلاحية المستوردة التي تستعمل في المجال الفلاحي بهذه البلدان، وذلك في أعقاب الاندماج في الاقتصاد الليبرالي العالمي؛ مما جعل هذا الاستعمال محكوما بطغيان البحث عن الربح الاقتصادي لصالح الشركات العالمية التابعة للبلدان المصدرة لهذه التكنولوجيا، دون الاكتراث بالأبعاد الاجتماعية وبالتوازنات البيئية عند الأقطار المستوردة، مما أفضى إلى حدوث تحولات عميقة على صعيد البنيات الفلاحية الموروثة وعلى عدة جوانب من حياة المجتمعات الريفية، فضلا عن الانعكاسات السلبية على المنظومات البيئية بهذه الأقطار. فإذا كان استخدام التكنولوجيا الفلاحية المستوردة يمكن أن يحقق النمو الاقتصادي ضمن ظروف إنتاج محددة ، فإن الأمر ليس دائما كذلك عندما يتعلق الأمر بالتوازنات الاجتماعية والمجالية والبيئية بالبلدان النامية المستخدمة لهذه التكنولوجيا.. إن مسألة نقل التكنولوجيا وانتشارها ببلدان الجنوب أضحت قضية حيوية واستراتيجية وجب دمجها واستيعابها في برامج أنظمة جديدة للبحث والتنمية تهدف إلى ربح رهانات المستقبل بهذه البلدان ومنها على وجه الخصوص ضمان الأمن الغذائي وتحقيق التنمية الشاملة والمستديمة للأوساط الريفية فضلا عن الخروج من دائرة التخلف الاقتصادي والتبعية للدول المصنعة في الشمال. I البعد الجيوستراتيجي للتكنولوجيا الفلاحية في علاقات الدول المصنعة بالدول النامية إذا كانت مقاربة إشكالية التكنولوجيا الفلاحية في بلدان الجنوب تقتضي من الناحية المنهجية مراعاة بعض الاختلافات بين هذه البلدان و كذلك التباين داخل البلد الواحد سواء على الصعيد الاقتصادي أو الاجتماعي أو النظام البيئي الذي تطبق فيه مختلف أنواع التكنولوجيا المستوردة ، فإن هذه المقاربة تقتضي من جهة أخرى عدم الاقتصار على البعد الجغرافي للبلد الواحد، ذلك انه لكي نفهم مجموع الظواهر العلائقية للتخلف التكنولوجي والاقتصادي لمختلف البلدان النامية يجب أن نفكر ضمن إطار النظام العالمي المتميز بالاختلاف والصراع بين أطرافه الغنية والمهيمنة ( دول الشمال المصنعة ) و أطرافه الفقيرة التي تطمح إلى الخروج من التبعية والتخلف الاقتصادي (معظم دول الجنوب ). علما بان العامل المشترك بالنسبة للبلدان النامية ككل هو ما تواجهه هذه البلدان من تحديات كبرى في علاقاتها مع دول الشمال المصنعة التي من أجل ضمان تفوقها الاقتصادي تعمل بكل الوسائل على إبقاء دول الجنوب بصفة عامة في حالة الضعف و التبعية على كل المستويات ومنها مستوى التكنولوجيا الفلاحية لما يتضمنه من أبعاد إستراتيجية خطيرة من شانها أن تضمن التحكم في مصير البلدان المستوردة لهذه التكنولوجيا. II التكنولوجيا الفلاحية الملائمة : مرتكز أساسي للتنمية الريفية المستدامة التيكنولوجيا الفلاحية شأنها شأن التيكنولوجيا المستعملة في مختلف الميادين الإنتاجية وغير الإنتاجية هي مظاهر مادية تحمل مضامين فكرية وثقافية و ذات أبعاد علائقية تطورية لها ارتباط وثيق بتاريخ المجموعات البشرية ، إذ هناك علاقات تفاعل وتأثير متبادل بين التطور على المستوى الفكري و الثقافي وعلى مستوى العلاقات بين و المجموعات البشرية و الدول من جهة والتطور التكنولوجي من جهة ثانية. وبالنسبة لمفهوم التنمية فإنه مهما تعددت التحاليل و المقاربات حول هذا المفهوم فإنه من غير المقبول منهجيا و عمليا اعتبار نمط تنموي سلكته كتلة دولية أو دولة معينة نموذجا مرجعيا للتطور يمكن لبلد متخلف اقتصاديا الاقتداء به، لما قد يتضمنه ذلك من تشويه و تحطيم للثقافات واستلاب واغتراب للعالم الذي يكمن غناه في تعدد وتكامل موارده وثقافاته، بمعنى أن التنمية ليست سيرورة كونية وحيدة الاتجاه لأن في ذلك تكريس للتخلف وللتبعية ، و لعل اخطر أنواع التبعية هي تلك المتعلقة بالتيكنولوجيا الفلاحية لعلاقتها الوطيدة بالتغذية. و لذلك نرى أن التنمية تستوجب المرور عبر منطلقات أساسية ومنها بصفة خاصة بناء أسس قوية لأنظمة إنتاج غذائية يطبعها الابتكار المتجدد و القدرة على الاستمرار، وتعتبر التكنولوجيا المستخدمة في الإنتاج الفلاحي من العناصر الرئيسية لهذه الأنظمة الإنتاجية، ولذلك يجب أن تكون ملائمة و منسجمة مع الخصائص العامة للوسط الطبيعي و البشري الذي تطبق فيه، لتفادي التعثر في مسار تطور منظومة إنتاج الغذاء و بالتالي تفادي التعثر في تحقيق الأمن الغذائي الذي يعد دعامة أساسية للسيادة القطرية . ومن ثم فان قضية استخدام التكنولوجيا الفلاحية في البلدان النامية تعتبر قضية مركزية ضمن إشكالية التنمية في تلك البلدان التي يعاني معظمها، مع قليل التفاوت، من نقص متزايد في إنتاج الغذاء لتلبية حاجات مجموع السكان الذين ما فتئ عددهم ،في معظم هذه البلدان، يتزايد بوتيرة مرتفعة دون أن يرافق ذلك تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة كفيلة بالتحسين المستديم للأوضاع المعيشية لمجموع السكان، مما يؤدي إلى تفاقم مشاكل البطالة ونقص التشغيل ومن ثم تدني مستوى العيش لدى فئات عريضة من السكان خاصة في الوسط الريفي ، وما يتبع ذلك من ظواهر اجتماعية تترتب عنها انعكاسات سلبية على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وعلى التوازنات المجالية وفي مقدمتها الهجرة الكتلية لسكان الأرياف نحو الحواضر والتي تعتبر بمثابة رد فعل أولي وتلقائي يعبر بواسطته السكان عن عدم الاستقرار والخلل في التوازنات، الأمر الذي تترتب عنه مشاكل متعددة سواء على صعيد الحواضر أو على صعيد الأرياف ، ومن ثم مشروعية التساؤل عن الرهانات الاقتصادية والسياسية التي تكمن وراء انتقال أنواع من التكنولوجيا الفلاحية من الدول المصنعة إلى البلدان النامية، وعن نتائج الانتشار المتزايد لاستخدام هذه التكنولوجيا على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية و البيئية وعن مدى استجابة هذا الانتشار لحاجات الأمن الغذائي في تلك البلدان. III التكنولوجيا الفلاحية كسلاح بيد الدول المصنعة من أجل تكريس هيمنتها على البلدان النامية إن ازدهار التكنولوجيا الفلاحية وما يرافقه من انتشار متزايد لاستخدام المكننة و المخصبات و المبيدات الكيماوية و أساليب سقي متطورة و معالجة المزروعات و تهجينها في إطار أعمال الهندسة الوراثية... كلها عناصر ساهمت في مضاعفة إنتاجية الأرض و العمل والتطوير الكمي والنوعي للمحاصيل الزراعية في الدول المصنعة المنتجة للتكنولوجيا الفلاحية ، ومن المؤكد كذلك أن الأبحاث المتقدمة في ميدان البيوتكنولوجيا قد فتحت آفاقا جديدة في ميدان إنتاج الغذاء ومن بينها إمكانية تكييف إنتاج أصناف المحاصيل الغذائية مع مختلف النطاقات البيومناخية، فضلا عن تنويع وتكثيف الإنتاج وتوسيع المساحات المزروعة وما يتبع ذلك من انعكاسات ايجابية على الشغل وعلى تحسين دخل الفلاحين، ومن ثم تحسين مستوى عيش فئات عريضة من سكان الأرياف، لكن نتائج استخدام عناصر هذه التكنولوجيا في الفلاحة بالبلدان المستوردة تبدو جد باهتة حيث لم تساهم بشكل واضح في محاربة الفقر والبطالة وحل مشاكل التغذية بل ساهمت في تعميق الفوارق بين المنتجين وبين الأقاليم في تلك البلدان، لأن الوصول إلى عناصر هذه التكنولوجيا واستخدامها بطريقة ناجعة من قبل الفلاح رهين بالمواصفات العامة لاستغلاليته وبالظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يتم فيها الإنتاج. ومن جهة أخرى فإن نزعة الاحتكار والهيمنة التي تطغى على العلاقات بين الدول الغنية المصدرة للتكنولوجيا الفلاحية والدول الفقيرة المستوردة لها يجعل انتقال هذه التكنولوجيا غير سليم في أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والبيئية ولا يخدم أهداف التنمية المستديمة في البلدان المستوردة، فالدول المصدرة للتكنولوجيا الفلاحية لا توجه أبحاثها لخدمة الأغراض و الحاجات الحيوية في ميدان إنتاج الغذاء عند البلدان الفقيرة وغيرها من البلدان المستوردة للتكنولوجيا إلا في نطاق جد ضيق وفي حدود ما يسمح بالحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في تلك الدول. فالبلدان النامية في حاجة إلى تكنولوجيا فلاحية تجعلها تقتصد في الرأسمال و تشغل أكثر ما يمكن من اليد العاملة وتتجنب بعض الخسارات والآفات البيئية و تساهم في تطوير وصيانة جودة المنتوج الزراعي، كما أنها في حاجة أساسا لمزروعات تقاوم التعرية والجفاف والتصحر وملوحة التربة و تساعد على الاقتصاد في استهلاك الماء والمخصبات وهي أيضا في حاجة لمزروعات تقاوم الأمراض والطفيليات وتسمح بالاقتصاد في استعمال المبيدات ومختلف المواد الكيماوية ، ومن ثم تجنب بعض الآفات البشرية والمخاطر البيئية، ثم حاجتها كذلك إلى مزروعات أقل إجهادا للتربة والتي تساهم في التخصيب الطبيعي لهذه الأخيرة كالتي تخلف المواد العضوية و تستهلك الأزوت مباشرة، كما أن البلدان الفقيرة في حاجة لتنويع وتطوير المحاصيل الزراعية الأكثر استهلاكا من قبل السكان المحليين والتي يمكن أن تعطي أكثر من محصول خلال الموسم الفلاحي الواحد وهي مزروعات من شانها أن تلعب دورا مزدوجا يتمثل من جهة في المساهمة بفعالية في تلبية الحاجات الغذائية المحلية التي تتزايد باستمرار، ومن جهة ثانية في العمل على تمديد فترة الأشغال الفلاحية بمعنى الزيادة في حجم العمل الفلاحي و تحسين الدخل ومن ثم المساعدة على التخفيف من وطأة الفقر في الأرياف الذي يعتبر السبب الرئيسي للهجرة نحو المدن، كما أن أقطار الجنوب في حاجة كذلك لتكنولوجيا تمكن من تطوير أساليب ووسائل التخزين من أجل الحفاظ على المنتجات الغذائية قصد صيانة جودة هذه المنتجات خدمة للتوازن بين العرض والطلب أثناء التسويق وخدمة أيضا لرغبات المستهلك الذي أصبح يركز أكثر فأكثر على جودة المنتوج الغذائي. غير انه بدل أن تعمل البلدان المصنعة على تحقيق مثل هذه الحاجات الحيوية للبلدان الفقيرة نجدها تركز أبحاثها في اتجاهات معينة كتطوير صناعة المبيدات الكيماوية وتشجع على استيرادها، فهذه المبيدات التي يتجدد استخدامها باستمرار تدر مبيعاتها على البلدان المصنعة المصدرة لها أزيد من 5 مليار دولار سنويا ، وتستورد الدول النامية بصفة عامة حوالي ربع هذه المبيعات وبذلك فإنها تساهم في استنزاف اقتصاد هذه الدول، هذا فضلا عن مساهمتها في تخريب البيئة لأنه غالبا ما يتم استخدامها بأساليب غير سليمة لأن إنتاجها يتم وفق مقاييس لا تأخذ في الاعتبار خصائص البيئة الطبيعية في البلدان المستوردة من مناخ و تربة و تساقطات مطرية، مما يؤدي في الكثير من الحالات إلى تسمم التربة عن طريق إبادة مختلف الكائنات النافعة التي تعيش داخلها و التي تمنحها الحيوية و التجدد بواسطة عمليات التذبيل وخلق المادة العضوية المغذية للنبات. علما بأن نسبة كبيرة من المبيدات المستخدمة في البلدان النامية لا تصل إلى الآفات المستهدفة وتؤدي إلى تلوث التربة والمياه والهواء ، علما بأن تكرار استخدام المبيدات يؤدي إلى تزايد مقاومة الآفات المستهدفة وفي حالات كثيرة يستدعى ذلك استخدام مبيدات أخرى أكثر سمية مع ما يترتب عن ذلك من تزايد المخاطر البيئية و المهنية، والأدهى من ذلك هو أن هناك عدة أنواع من مبيدات الآفات الزراعية التي منع استعمالها في الدول المصنعة المنتجة لها، لا زالت تباع في أسواق دول الجنوب بكل حرية، كما أنه قليلا ما تتخذ الاحتياطات الضرورية سواء أثناء استعمالها أو فيما يخص أساليب و أماكن تخزينها الأمر الذي يخلف العديد من الضحايا خاصة في صفوف العمال الزراعيين. ثم إن دول الشمال المصنعة تهتم أكثر بإنتاج وتصدير الآلات الفلاحية المتطورة التي علاوة على كونها تباع بأثمنة مرتفعة في أسواق دول الجنوب ، فإنها في معظم الحالات لا تستخدم في اتجاه الاستثمار الأمثل للأراضي الزراعية فيها ولا تحافظ على مقومات التوازن البيولوجي للتربة و البيئة ولا تسمح بتعبئة واسعة للموارد البشرية المحلية ضمن النشاط الفلاحي، لأن ابتكارها و إنتاجها تما في وسط جغرافي مغاير. الشيء نفسه ينطبق مثلا على السقي بالرش عن طريق الاذرع المحورية خاصة وأن انتشار هذه التقنية في المناطق الجافة وشبه الجافة يؤدي إلى تبذير الماء بسبب تبخر جزء منه في الجو قبل نزوله على النبات، و بالتالي استنزاف سريع للفرشة المائية الجوفية في وقت أصبح فيه الماء ثروة استراتيجية بالنسبة لكافة دول المعمور، وهذه الثروة في تراجع مستمر. وفي السياق ذاته نجد دول الشمال المصنعة تحاول أن تجعل من البلدان المستوردة في الجنوب حقلا للتجارب في ميدان المزروعات المعدلة جينيا و المنهكة للتربة (الذرة و فول الصويا المهجنة...) والمزروعات الموجهة لإنتاج الطاقة من أصل نباتي ( قصب السكر...) و من ثم سطو بعض الشركات العالمية الكبرى على أراضي واسعة في دول الجنوب من أجل استغلالها للأغراض السالفة. وفي الوقت نفسه تعمل دول الشمال ما في وسعها لاكتشاف فصائل نباتية تعوض المحاصيل التي تستوردها من دول الجنوب بصفة عامة، وفي هذا السياق يأتي التقدم الحاصل لدى بعضها في إنتاج محاصيل زراعية مثل اللوز والصبار وفواكه أخرى ، والأبحاث ما زالت جارية من أجل توسيع الخطة لتشمل عدة محاصيل ويتعلق الأمر أساسا بالمزروعات السكرية والزيتية وحتى البن و كل ما هو مطلوب في السوق الدولية كالثمور حيث نجحت الولاياتالمتحدة و اسبانيا في إنتاجه وشجر الأركان حيث حاولت إسرائيل إنتاجه ببلادها لكنها فشلت ، كل هذه المخططات ،إذا نجحت ، ستوجه ضربة قوية للبلدان النامية التي يعتمد اقتصادها على تصدير مثل هذه المزروعات. من خلال الأدلة السالفة تظهر بجلاء ملامح جزء من إستراتيجية عامة تنهجها بلدان الشمال المصنعة منذ انتهاء عهد الاستعمار المباشر إزاء بلدان الجنوب وهي استراتيجية تبين معطياتها ومؤشراتها الظاهرة والخفية على أنها تروم إبقاء هذه البلدان في حالة تخلف عبر تحطيم مؤهلاتها الإنتاجية و قدراتها الإبداعية في جميع الميادين حتى تظل مفككة و في حالة تبعية مستمرة لبلدان الشمال ومنها التبعية التكنولوجية على صعيد الإنتاج الفلاحي. IV من أجل إستراتيجية ملائمة في ميدان التكنولوجيا الفلاحية في البلدان النامية من المعروف أن البلدان المصنعة في الشمال قد نهجت عبر مراحل تاريخية طويلة أساليب متعددة لاستنزاف وتبذير الموارد الطبيعية والاقتصادية لبلدان الجنوب وفي مقدمة هذه الأساليب تحطيم النظم والعلاقات الانتاجية والاستهلاكية المحلية وتعويضها بعلاقات ونظم إنتاجية واستهلاكية قائمة فقط على معايير إنتاجوية لا تراعي حدودا للمخزون الاستراتيجي من الموارد الطبيعية، وكامتداد لهذه السياسة نجد أن بلدان الشمال المصدرة للتكنولوجيا الفلاحية ما فتئت تتمسك بمنظور يختزل مشاكل الفلاحة في البلدان النامية في كونها مشاكل تقنية صرفة مجردة من دلالتها وأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أي دون طرحها في إطار تغيير شامل لهياكل الإنتاج المحلية وتغيير علاقات الهيمنة المفروضة من طرف دول الشمال على دول الجنوب وهي هيمنة لم تكتف بتطبيق أساليب دأبت على نهجها منذ زمن طويل كاستنزاف مختلف الثروات في البر والبحر و ضبط أسعار المواد الأولية وضبط النظام الدولي للتجارة وتوجيه البرامج الاقتصادية و المخططات الاجتماعية الخ...و لكن تجاوزت ذلك إلى تطبيق خطة احتكار انتاج الغذاء والحصار الاقتصادي و التدخل العسكري المباشر... وفي خضم هذه الوضعية التي تطبع علاقات دول الشمال المصنعة بالدول التي تسعى إلى الخروج من دائرة التخلف الاقتصادي والتبعية يتضح أن تطوير الإنتاج الفلاحي في هذه الدول الأخيرة لا يمر عبر استيراد تكنولوجيا فلاحية تم تصورها وابتكارها في دول الشمال المصنعة التي لها مواصفات مغايرة على جميع الأصعدة، وفي الوقت نفسه لها أهداف مغايرة، فاستخدام هذه التكنولوجيا يمكن أن يكون غير معقلن في الدول النامية ذلك أن التكنولوجيا الفلاحية شانها شان التكنولوجيا بصفة عامة ليست محايدة ،كما تزعم ذلك الدول المصدرة ، بل هي منتوج اجتماعي تاريخي بمعنى أنها تعبير عن خصائص المجتمع الذي انبثقت منه ، كما أن التكنولوجيا ليست مجانية و بريئة إذ يمكن أن تجعل الدول المستوردة لها في حالة تبعية على أكثر من مستوى. لذلك يتعين على البلدان النامية أن تبحث عن تكنولوجيا فلاحية انتقائية كتلك التي يؤدي استخدامها إلى التجاوب الديناميكي مع جميع مكونات الواقع المحلي الذي تطبق فيه، وهي بصفة إجمالية التكنولوجيا الفلاحية المبتكرة و/أو المطورة من طرف المجتمع الذي يستخدمها وأن يكون هذا الاستخدام مبنيا على المعرفة الدقيقة بخصائص البيئة الطبيعية والبشرية في صيغتها المركبة، ثم منح الأسبقية في ميدان الاستثمار الفلاحي للمشاريع الملبية للحاجات الغذائية الأساسية والمعتمدة على الخبرات والإمكانات الداخلية، ثم المساهمة في تعبئة و تطوير المهارات التقنية المحلية مع ضرورة إقامة نظام للتكتل و التبادل التكنولوجي بين مختلف أقطار الجنوب التي تتوفر على إمكانات متكاملة على مستوى الموارد والأنظمة البيئية. خاتمة بناء على ما سبق يتضح لنا بأن ميدان التغذية هو من بين الميادين الحيوية التي ينبغي على الدول النامية أن تراهن عليه في محاولاتها للخروج من دائرة التخلف الاقتصادي و التبعية للدول المصنعة في الشمال التي تحتكر ما يزيد على ثلثي المخزونات والصادرات الغذائية العالمية في الوقت الذي تشكو فيه معظم الدول النامية من عوز غذائي متزايد، فقضية توفير الغذاء لسكان يتزايد عددهم باستمرار أضحت بكل تأكيد قضية محورية استقرار الدول و في العلاقات بينها . و من ثم فان الأمن الغذائي يشكل أكبر تحد يواجه بلدان الجنوب حاضرا ومستقبلا وفي خضم هذه الوضعية أضحى من الضروري دمج التكنولوجيا الفلاحية واستيعابها في برامج أنظمة جديدة للبحث والتنمية، فمسألة اختيار ما هو ملائم من هذه التكنولوجيا أمر يبدو في غاية الأهمية لربح هذا التحدي. * أستاذ جامعي