تطرقت عدة نظريات اجتماعية لمسألة "التحضر" من جوانب مختلفة، كالنظرية الايكولوجية و النفسية الاجتماعية و نظرية الثقافة الحضرية. سنحاول في هذا المقال ان نقف عند اهم ما جاءت به: -1النظرية الايكولوجية: اطلق عليها هذا الإسم نسبة إلى المدرسة الفكرية الأمريكية المعروفة "مدرسة شيكاغو"، التي اهتمت بالبحث في مجال علم الاجتماع الحضري، من أهم روادها : روبرت بارك، إرنست برجس، و رودريك ماكينزي. ..، ولقد وضع بارك، الإطار العام لهذه النظرية على أساس أن المدينة تعتبر بمثابة المكان الطبيعي والثقافي الذي يقطنه الإنسان المتحضر، فهي وحدة على درجة كبير وعالية من التنظيم .بينما أهتم ماكينزي، بالقوانين الداخلية والعمليات التي تسيطر على هذا التنظيم. و نتيجة لذلك،انطلق بارك من حقيقة أن العالم الطبيعي وحدة تتحرك وفق قواعد منتظمة، محاولا تطبيقها على دراسة المدينة، ومن تم استهدف من خلال بحوثه، الكشف عن الأنماط المنتظمة في مكان للعلاقات الاجتماعية و الإيكولوجيا، للبحث عن العمليات و العوامل التي تؤدي إلى التوازن الحيوي في المجتمع. ولقد تحقق أكبر إنجاز للنظرية الإيكولوجية في بدايتها،على يد ارنست برجس، الذي قدم تصورا نظريا يعبر عن وجود عدة حلقات لها نفس المركز :أولها منطقة الأعمال، وثانيها المنطقة الايكولوجية للمدينة، والثالثة طبقة العمال ومنطقة الفيلات، ثم الرابعة منطقة الضواحي. وذهب بيرجس، الى"أن ظاهرة النمو الحضري هي نتيجة لأزمة لعمليات التنظيم والتفكك في نفس الوقت" . أما هومير هويت (HOYT Homer) فقد ركز على المناطق السكنية و توزيع الدخل وبناء على ذلك قسمها إلى ثلاث قطاعات رئيسة :الأول يضم العمال منخفضي الدخل؛ والثاني الأغنياء ذوي الدخول المرتفعة؛ أما القطاع الثالث فيضم مناطق الانشطة التجارية. وقد تضاءل نفوذ هذه النظرية الايكولوجية طيلة عدة عقود، إلا أنه انتعش مرة أخرى على يد علماء اجتماع محدثين. و بدلا من التركيز على عناصر المنافسة على الموارد الناذرة داخل المدن، أخذ هؤلاء يتحدثون عن التداخل و الاعتماد المتبادل بين مختلف المواقع و الأماكن في المدينة، و عن تمايز الجماعات المقيمة فيها، من خلال أدوار و تخصصات مهنية تمثل الإطار العام الذي تدور فيه عمليات التكيف مع البيئة. لكن رغم أهمية الابحاث الميدانية التي قام بها أنصار هذه النظرية الذين اعتبروا النمو الحضري عملية طبيعية، و رغم الانتقادات الموجهة إلى هذه النظرية، فإنها تعد ذات أهمية قصوى في الدراسات الحضرية. كما تؤكد النظريات الاجتماعية حول التحضر، أن عملية الزحف الحضري ليست سيرورة مستقلة معزولة عن غيرها، بل ينبغي تحليلها في سياق علاقتها بأنماط التغير الاساسية، في المجالين السياسي و الاجتماعي. ومن أهم الباحثين في هذا الاطار نجد ديفيد هارفي و مانويل كاستلز،إذ يشدد هارفي (HARVEY,D ) على أن التحضر، يمثل جانبا من البيئة المستحدثة التي نشأت عن انتشار الرأسمالية الصناعية. ففي المجتمعات التقليدية كان التمايز قائما بوضوح بين المدينة و الريف. أما في العالم الحديث، فقد أوشكت أشكال التمايز على الاضمحلال بين هذين المجالين بفعل الصناعة، واعتماد الزراعة أساليب المكننة و خضوعها لإعتبارات الأسعار و الأرباح، شأنها في ذلك شأن العمل الصناعي. وأدت هذه العملية إلى تقليص الفوارق في أنماط الحياة الاجتماعية بين الجماعات المدينية و الريفية. أما مانويل كاستلز (Castells,1977,1983 ) فيربط بين عملية التحضر و تنامي الحركة الاجتماعية، فحسب الباحث، فإذا أردنا فهم معنى المدينة فإنه علينا تقصي عملية استحداث أشكال المكان و تحولاته، إذ أن الملامح المعمارية للمدن و الأحياء تعبر عن أشكال الصراع بين مختلف الفئات في المجتمع. و بعبارة أخرى، فإن البيئات الحضرية تمثل التجليات الرمزية للتفاعل بين فئات عريضة من القوى الاجتماعية. -2 النظرية النفسية الاجتماعية: تجسدت في أعمال كل من ماكس فيبر، جورج زيمل، أوزفالد شبنجلر من خلال المدرسة الألمانية، حيث أكد فيبر على ضرورة إيجاد نظرية أكثر شمولية . و اتبع منهجا مختلفا تماما عن ما قبله،محاولا إبراز الظروف التي تجعل دور المدينة إيجابيا، واعتبر المدينة منطقة مستقرة وكثيفة بالسكان، واهتم بدراسة عقليتهم الحضرية. وفي رأي ماكس فيبر، فإن المدينة تتميز بتوفر سوق و حصن و محكمة، و شكل من العلاقات الاجتماعية، بالإضافة إلى الاستقلال الذاتي... لقد حاول تقديم نموذج نظري، لهيئة المدينة القادرة على إشباع كل القدرات الاجتماعية. أما جورج زيمل، فقد ركز على إدخال الجانب النفسي السيكولوجي كالتوتر، والذكاء،... في الأشكال الحضرية. وبذلك يتفق زيمل مع فيبر، في كون الصور الحضرية الحديثة، تشير إلى إمكانية ظهور حياة حضرية جديدة ومعقدة، اعتمادا على الجوانب السيكولوجية .و أخيرا، أضفى اوزفالد شبنجلر،على مفهوم المدينة، نوعا من الروحانية وأقر بأن عدم التوازن بين الريف والمدينة، من الاسباب المؤدية الى حدوث تعارض في نظام الحياة، وأن الفرق بين الريفي والحضري هو التحرر الفكري...الخ. -3 نظرية الثقافة الحضرية: لويس ويرث و الحضرية كأسلوب للحياة يرى لويس ويرث (Luis WIRTH) من جهته، أن المجتمع الحضري يتميز بالحجم و الكثافة و اللاتجانس، وهو الحجر الاساس للتنظيم الاجتماعي للسلوك، و يؤكد أن الحضرية كأسلوب في الحياة، تتميز بسيادة العلاقات الثانوية و العلمانية .و بالتالي تصبح المدينة مركزا للعلاقات الاجتماعية .و قابل ويرث بين المجتمعات الريفية و المراكز الحضرية، واعتبر السمات التي تظهر أو تتطور في البيئة الحضرية، بمثابة مصاحبات ضرورية لنمو المدينة و خاصة سمتا الحجم و الكثافة. و في هذا الصدد، يؤكد ويرث على أن الحجم و الكثافة المرتفعة للسكان وعدم التجانس في حياتهم الاجتماعية، هي متغيرات أساسية أو خصائص مميزة للمجتمع الحضري تسلم بدورها الى عدد من القضايا، التي ترتبط بطبيعة الحياة الحضرية و شخصية سكانها .و من هنا، يرى ويرث، أنه كلما كبر حجم المدينة اتسع نطاق "التنوع الفردي" و ارتفع معدل التمايز الاجتماعي بين الافراد، الامر الذي يكرس ظاهرة العزلة لدى الافراد و الجماعات، سواء على أساس الاصل أو المهنة او المكانة،... وتساهم هذه العزلة في تدهور علاقات الجوار. كما أن ضعف هذه الروابط و العلاقات، يفرض بدوره إحلال العلاقات الرسمية محل الروابط و العلاقات غير الرسمية. و من هذا المنطلق، ينتقل ويرث على أساس الحجم الى عدد من القضايا التي تمس طبيعة المجتمع الحضري، و مجموعة أخرى من القضايا استنادا إلى الشخصية الحضرية، إذ يرى، أن كبر حجم المدن وتزايد عدد سكانها يقلص من امكانية التعارف بين الافراد بشكل شخصي، وهذا يترتب عنه الميل نحو سيادة العلاقات الاجتماعية ذات الطابع النفعي. و بهذا يكون كبر حجم المدينة سببا مباشرا في تكريس التفاعل الاجتماعي، المتميز بالعلاقات السطحية و المؤقتة، مما يساهم في إضعاف أو فقدان روح المشاركة و التطوع و يؤدي هذا النوع من العلاقات الحضرية إلى التخصص الوظيفي للأنشطة، و تقسيم العمل واعتماد اقتصاد السوق. يتضح من التصور النظري الذي قدمه" ويرث" أن المجتمع الحضري، المتميز بإرتفاع عدد السكان و الكثافة و اللاتجانس الاجتماعي،يؤدي الى ظهور بعض المشاكل كمشكل التلوث وانتشار أحياء السكن العشوائي … و بالتالي التأثير على طبيعة الحياة الحضرية، و على السلوكات و التنظيمات الاجتماعية. 4- اتجاهات أخرى: -1-4 الاتجاه الاقتصادي: يستمد مبادئه من التوجيه النظري الذي تأثر بأعمال كارل ماركس.أما في المجال الحضري، فتتجلى في أعمال كل من:- شيفكي SHEVKY) وبل،ولاكوست... ) حيث ذهبا الى تفسير البناء الاجتماعي و الايكولوجي الحضري،على أساس النشاط الاقتصادي، و ذلك بإنتقال المجتمع من نمط الإنتاج البدائي إلى نمط الإنتاج الصناعي و الأنشطة الخدماتية، و التي تساهم في توسع مجال التفاعلات الاجتماعية .يرى أصحاب هذا الاتجاه، أن النمو الاقتصادي يؤدي إلى التنمية الحضرية. 4- 2الإتجاه التكنولوجي: يركز هذا الاتجاه، على دور و أهمية التكنولوجيا، في التأثير على البناء الاجتماعي و الأيكولوجي للمدينة .و من ثمة، على العلاقات الاجتماعية، بناء على تطور وسائل الاتصال و المواصلات، و دورها في الرفع من فرص التبادل و التواصل و التقليل من فرص العزلة الاجتماعية . يمكن الإشارة هنا،إلى ما جاء به مانويل كاستل (M.CASTELLS) من تأثير الابتكارات التكنولوجية الحديثة على البناء الأيكولوجي الحضري .و توزيع السكان، من خلال ما توفره التكنولوجيا من وسائل اتصال و مواصلات. وكذلك تأثير وسائل النقل على الأنماط المكانية و الزمانية للمدن و المراكز الحضرية، وبالتالي تأثيرها في إعادة توزيع السكان، كما يلاحظ ارتفاع عدد مستعملي السيارات بالمدن، الذي ينجم عنه تلوث البيئة الحضرية. 4-3 الاتجاه القيمي: أكد على دور القيم الثقافية و الاجتماعية، في إعطاء تفسير للبناء الاجتماعي الحضري و في أنماط استخدام الأرض .و من ثمة، فإن القيم تعتبر متغيرات مستقلة لتفسير الكثير من الظواهر الاجتماعية الحضرية،المتعلقة ببنائها الايكولوجي و الاجتماعي. تناول ماكس فيبر (MAX.WEBER) هذا الموضوع، موضحا دور القيم في التباينات القائمة بين المدن، التي تنتمي الى ثقافات متنوعة. كما أن هذا الاتجاه النظري، اعتمدته مجموعة من العلماء و الباحثين، الذين أكدوا أن المدن ما هي في الواقع إلا نتائج ملموسة لسلوكات و تصرفات سكانها، التي تعتبر بدورها انعكاسا للقيم الثقافية التي يحملونها فهي توجه سلوكاتهم و تصرفاتهم التي تتجسد ضمن إطار معين من نسق العلاقات الاجتماعية، يتضح من خلال هذا التصور أن للقيم اثرا في تفسير الأنماط الايكولوجية و الاجتماعية الحضرية . 4--4 اتجاه القوة : يقوم هذا الاتجاه، على دور القوة و مدى تأثيرها في اتخاذ القرارات المرتبطة بالبيئة الحضرية على المستوى الاجتماعي و الايكولوجي. يعتبر وليم فورم (W.FORM) أول من اعتمد هذا الاتجاه في الايكولوجيا الحضرية، لتفسير أنماط الاستخدامات الحضرية للأرض، حيث يرى أن بناء القوة ، لاسيما القوة السياسية تلعب دورا أساسيا في تشكيل المدن، سواء من حيث التوسع أو التوطين أو البناء الايكولوجي و الاجتماعي . بل إن بناء القوة، يؤثر في تحديد ما تمارسه متغيرات أخرى كالتكنولوجيا أو التصنيع . كما ترتبط بها (أي القوة)، كل القرارات ذات الصلة بالتخطيط الاجتماعي و الاقتصادي، وكذلك بالسياسة العامة، وبتنفيذ برامج التحضر. 5-ابن خلدون والتنمية الحضرية: يعتبر ابن خلدون، من المفكرين العرب الأوائل، الذين درسوا الظاهرة الحضرية واعتبروا المدينة بنية اجتماعية في تطور دائم. فهو يرى أن الإنسان حضري بطبعه، وأن المدينة هي نتاج تواجد لأعداد من السكان ضمن علاقات اجتماعية. كما أنه يعتبر المدينة أو العمران الحضري، هي أعلى درجات التحضر التي يمكن بلوغها، إذ يرى أنه كلما كبر حجم السكان كلما ازدادت رفاهية الأفراد. خلافا لمستوى مدينة، ذات حجم سكاني أقل، التي تكون في الغالب في وضعية تنموية ضعيفة. ونفس الملاحظة يبديها بالنسبة لسكان الارياف، فإبن خلدون يشدد على الحجم والقوة في إنتاج مدينة تجمع بين النمو والتنمية. فعلاقة البنية الحضرية بالبنية الإجتماعية، علاقة وثيقة، وبالتالي فإن التنمية الحضرية، تنعكس حتما على التنمية الإجتماعية، كما أنها (أعني البنية الحضرية)، ترتبط أيضا بالوضعية الإقتصادية، والتقدم المعرفي والتكنولوجي. و أن هذه العلاقة التي جاء بها ابن خلدون، منذ القرن الرابع عشر، أعاد تأكيدها المفكر الفرنسي، هنري لوفافر (H.Lefevre) حيث يقول: "إن المدينة، هي عملية توطين مجتمع بثقافته، ومؤسساته وقيمه وبنيته الإقتصادية وعلاقاته الإجتماعية، والتي تشكل في نهاية الأمر البنية الاجتماعية بمفهومها الواسع". و من جهة أخرى، يرى ابن خلدون، أن المدينة هي فعل سياسي بالأساس، لأنها من إنتاج الطبقة الحاكمة. يرجع الفضل لإبن خلدون، في تحليله للمدينة والظاهرة الحضرية، على اعتبار أنه تحدث عن المدينة في إطارها الإقليمي، ولم يقتصر حديثه عن المدينة بمحيطها الجغرافي، فهو بالتالي يطرح منذ أكثر من 7 قرون، ضرورة التكامل بين التخطيط الإقليمي والتخطيط الحضري. كما يعود إليه الفضل أيضا، في تحليله للظاهرة العمرانية من خلال بعدها التاريخي، وتطورها العمراني. وأخيرا، يربط المدينة بالبادية من خلال الابعاد التاريخية والاجتماعية والاقتصادية. ومن هنا فالتنمية الحضرية، عند ابن خلدون، مرتبطة دائما بمركبات ايكولوجية واجتماعية واقتصادية وثقافية، وهي تشكل القاعدة الأساسية لها. المراجع : -انتوني غدنز، علم الاجتماع مع مدخلات عربية، مركز دراسات الوحدة العربية ،المنظمة العربية للترجمة ،الطبعة الرابعة ،ترجمة فايز الصياغ، بيروت، 2005 . - السيد عبد العاطي السيد ، الإيكولوجية الإجتماعية ، مدخل لدراسة الإنسانية والبيئية والمجتمع، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية، .1980 - حسين عبد الحميد أحمد رشوان : دور المتغيرات الاجتماعية في التنمية الحضرية " دراسة في علم الاجتماع الحضري" ،مؤسسة شباب الجامعة،.2004 - نوال قلاب ذبيح، المتصل الريفي الحضري في الجزائر مدينة عين مليلة نموذجا، رسالة ماجستر، جامعة الحاج لخضر باتنة، كلية العلوم الاجتماعية و الاسلامية ،2008 . [email protected]