3 في الحاجة إلى سياسة للمدينة: يرى الدكتور إدريس بنهيمة، أن معركة المدينة، أي الإنكباب على إعداد إطارات حضرية تتميز بضمان جودة الحياة للمواطن، التي هي حق من حقوق الإنسان، تشكل أحد الأوراش الوطنية الكبرى لبداية القرن الحالي. وذلك بالنظر إلى نمو الساكنة الحضرية التي ستتضاعف ثلاث مرات ما بين سنتي 1980 و2020، حيث ستنتقل من 8 ملايين ساكن إلى 25 مليون نسمة، بمعدل زيادة سنوي يقدر ب500 ألف ساكن في السنة.( أنظر:مقالة بنهيمة ضمن القرص المدمج لتقرير الخمسينية بعنوان: La bataille de la ville :une des grand chantiers au début du sciécle؛ وهوما يعني أن مظاهر الأزمة المعاشة على صعيد مجالاتنا الحضرية، خاصة منها الكبرى والمتوسطة، ستزداد حدة على جميع المستويات، على صعيد إنحسار الوعاء العقاري، والضعف المستمر للموارد المالية، والعجز الحاصل على مستوى بنياتها التحتية الأساسية( شبكات توزيع الماء والكهرباء، التطهير السائل والصلب/النظافة، الإنارة العمومية، النقل الحضري/الحافلات والطاكسيات، الفضاءات العامة والمساحات الخضراء وفضاءات اللهو والترفيه والحياة...) وتجهيزاتها السوسيوجماعية (التعليم، الصحة، الإدارة، الثقافة والشبيبة والرياضة، المكتبات والأندية النسوية..). الشيء الذي يتطلب من أصحاب القرار الترابي والسياسي، الأخذ بعين الإعتبار تطورات مكونات النسيج السوسيو إقتصادي والثقافي لمدننا النامية، وذلك بتوفير بنيات دائمة للتتبع التشخيصي التشاركي الناجع، فيما يخص التخطيط الحضري والتقييم الدوري لمخططات التهيئة الحضرية والتنمية المجالية، والبرمجة العقلانية والتوزيع المجالي العادل والشامل للتجهيزات والخدمات الأساسية بالمدن. (أنظر دراسة عبد القادر كعيوة ضمن القرص المدمج لتقرير الخمسينية، والتي عنوانها: Acces aux services de base dans l?axe Kenitra-Jorf Lasfar dans une perspective d?amenagement du térritoire). وفي عبارة جامعة، ينبغي منذ الآن الإنكباب على وضع أسس وإستراتيجيات واضحة المعالم والأهداف لسياسة المدينة ببلادنا. سياسة إرادوية في مجال التشخيص والتخطيط والتأهيل الحضري، تكون مواكبة للتزايد الديمغرافي والتوسع المجالي، والحراك الإجتماعي داخل نسيجنا الحضري. سياسة تتجاوز التصميم المركزي التقليدي، المسكون بهاجس الضبط الأمني الأحادي البعد، إلى إعداد سياسات ترابية تعاقدية بين عدة مكونات أساسية: الدولة، الجماعات المحلية، الشركات العمرانية والصناعية والجمعيات المدنية.. من أجل التدخل للبناء والتعمير وإعادة هيكلة الأحياء والقطاعات المتدهورة بمدننا الكبرى والنامية؛ ذلك أن التحدي الأساسي للتعمير، اليوم وغدا، سيكون في السكن، فبدون سياسة سكنية ملائمة، فإن الحالة مرشحة لمزيد من التفاقم سنة 2005، حيث سيكون مواطنا من أربعة مقيما بسكن غير لائق(14% في سكن عشوائي و10% في مدن الصفيح). ( تقرير الخمسينية: المغرب الممكن،إسهام في النقاش العام من أجل طموح مشترك، دار النشر المغربية، الدارالبيضاء، 2006، ص249.).وفي هذا الإطار، لا بد من تأسيس وتطوير أنماط التدخل العمومي في سيرورة التعمير والإسكان بمدننا، من خلال تعبئة الأراضي، وقبول التوسع المجالي الذكي للمدارات الحضرية وتصاميم التهيئة، والتركيز على أحياء سكنية جديدة بمعايير جيدة، مع إعطاء الأهمية للمشاريع الكبرى المهيكلة والكاملة، ووضع برامج محلية للسكن، تستهدف إعادة التوازن بين طلبات السكن في مختلف المدن والأحياء والضواحي، وسن سياسة متجددة لتنمية الأحياء الهامشية والمتدهورة، من خلال إعادة تأهيل السكن الإجتماعي، والعناية بالتجهيزات الأساسية، وبمجموع الأنشطة والأعمال الخاصة بإدماج السكان، وخاصة منهم الشباب في سوق الشغل ومجالات التربية والصحة والترفيه والتثقيف، لحمايتهم من الإنحراف، وبالتالي، المساهمة في التخفيف من كل أشكال الإقصاء الإقتصادي والمجالي والإستبعاد الإجتماعي... ولأن تدبير شؤون المدينة لا ينبغي أن يبقى منحصرا في قضايا التعمير والسكنى، فإننا لا يكمن أن نتوقع التطور الحضري وإعداد الفضاءات الحضرية، إلا من خلال نهج سياسة مندمجة وشمولية للمدينة، سياسة تخوض بقوة معركة المدينة لربح رهانات مكافحة مختلف أنواع الإقصاء، وإعادة تنظيم أشكال التضامن الإجتماعي، والتغلب على آفتي الفقر والأمية. فبما أن مدننا ستصبح مواقع إستراتيجية للتغيير وخلق الثروات، وفي الآن ذاته، مجالات لإنتشار ظواهر الفقر والإقصاء، فإن جبهة خوض معركة المدينة ينبغي لها أن تتسع لتشمل،على مستوى التشخيص والتحليل والتخطيط والبرمجة والتنفيذ، كل ما يتعلق بتحسين إطارات العيش الكريم وجودة الحياة للمواطنين، من أمن وسكينة عامة، وخدمات في مجالات النقل والنظافة والتطبيب والتعليم والثقافة،وتحقيق الإنسجام بين القطاعات السكنية والوحدات الإنتاجية للمدينة.ومن تمة لا يمكن فصل رهان المدينة المندمجة عن الخيارات المرتبطة بالحكامة والديمقراطية المحلية، مادام أن إعداد التراب غدا شيئا فشيئا شأنا محليا،مما أصبح يخول لكل جماعة محلية الحق في العناية بعمليات الإعداد الترابية التي تراها ضرورية وملحة لتنميتها.(YVES MADIOT et RENAN LEMESTRE ; Aménagemen du Térritoire ;4éme.ED.A.Colin, Paris,2001,P :46 وهو الرهان الذي لا يمكن كسبه، بدون إرساء ودعم آليات المشاركة الديمقراطية للساكنة الحضرية في تسيير شؤون مدنها وأحيائها، وبدون نموذج متجدد، مندمج وتشاركي ومسؤول للتخطيط الحضري، نموذج يرتكز على التشاور والتنسيق بين ثالوث السلطات المنتخبة والسلطات المعينة واللجنة بين الوزارية المكلفة بسياسة المدينة، لتطوير التعاقد والتشارك كنمط للتعبير عن التوافق في إعداد التراب المحلي، وفي التخطيط والتسيير الحضري الذي يضمن الجودة والفاعلية والشفافية المالية والتدبيرية، ورواج المعلومة بين كل الفاعلين والمتدخلين في الشأن الحضري (مقالة إدريس بنهيمة ضمن التقرير المشار إليه أعلاه ص.266/267). ولما كانت المدينة ليست مجرد مجال خاضع للتعمير والسكن، وللتصنيع والإنتاج فحسب، بقدرما هي كتلة بشرية ذات هوية وذاكرة جماعية، وقيم إنسانية، وروح للمواطنة وللتضامن في بعده المحلي، الجهوي والوطني، ولما العالمي والكوني؟؛ فإنه من الضروري تخصيب التفكير في سياسة المدينة، ببعض أطروحات ومفاهيم السوسيولوجيا الحضرية، التي تضع نصب أعينها ضرورة استحضار أو اعتبار البعد الإنسي في تشكيل وصياغة الإشكاليات التنموية الحضرية، المرتبطة بتقدير الحاجات الطبيعية والبشرية، وتحديد أنماط تلبية الرغبات أو الإنتظارات والتطلعات الإجتماعية والثقافية لساكنة المدن. ذلك أن الروح الحضرية أو الحس المديني، لا يمكن إختزالها في مجرد التموقع المجالي أو الحصول على سكن منزلي، فردي أو عائلي، ولا في وصفات هندسية أو تصاميم نموذجية جاهزة للبناء والسكن والإقامة، بل ينبغي إعطاء الإهتمام إلى المعيش الثقافي في حياة البشر، ألم يقل الروائي العربي عبد الرحمان منيف في خماسيته الروائية الخالدة، مدن الملح: المدن هي البشر، المدن هي العلاقات بين البشر؟!.وبالتالي، ينبغي العودة إلى الأساسي والتفاعلي، والحميمي في حياة وعلاقات سكان المدينة، والأساسي هنا، هو عادات وسلوكات ومشاعر وإتجاهات الإنتماء الجماعي والعشائري، التي تحدد أنماط عيش كل مجتمع حضري على حدة، مما يساهم في إثراء سياسات حضرية قائمة على رؤية ومعنى للمدينة، كفضاء للحياة، وكمجال يتميز بخصوصية أساسية، هي أن يكون مكانا إجتماعيا لتقاسم الهوية والشعور من أجل تنمية بشرية تأخذ بعين الإعتبار وبالموازاة، الثقافة والترفيه وكل ما يدعم التضامن والتماسك الإجتماعي على المستوى المحلي والجهوي والوطني والكوني. ذلك أن المجال الحضري، كمجال خاضع للتعمير والبناء، هو حمال ثقافي وشاهد تاريخي على شيء آخر غير بساطته المادية. إنه سياج ومرجع للعلاقات الإجتماعية المتعددة، من خلال أمكنته ومعالمه وتذكاراته المتنوعة، التاريخية والإجتماعية والثقافية والعاطفية والجمالية. إنه شاهد على الروح أو الحياة الحضرية، وحامل لممارسات وقيم ثقافية، تتوثق فوقه وتترسب وتترسخ لمدة من الزمن. حمال قوي لروح جماعية تسكنه وتنقله من جيل لآخر.(أنظر: مقالة سعيد مولين ضمن القرص المدمج لتقرير الخمسينية تحت عنوان:Citoyenneté et Urbanité.ص:283/287). ووفق هذا المنظور، ينبغي السعي نحو تنمية الحس المديني والروح الحضرية والحضارية داخل أوساط الساكنة، بدءا بجمعيات الأحياء الملتفة حول التضامنات العائلية والمدرسية والمهنية، والبيئية والصحية، مرورا بجمعيات التربية والثقافة والفن والأدب والمسرح والسينما..وصالونات الفكر والإبداع، ومنتديات الأنترنيت..؛ وصولا إلى جمعيات حماية المستهلكين والمكترين وإدماج المعاقين..وجمعيات التربية والدفاع على المواطنة وحقوق الناس والإنسان أينما كان، من أطفال ونساء وشيوخ وشباب...والشبكات الدولية للمنظمات غير الحكومية المهتمة بقضايا التنمية والديمقراطية عبر مختلف ربوع العالم. ذلك أن المدينة هي وحدة ترابية أساسية للتضامن والتعبئة على الشعور الوطني، الذي يتجاوز المحلي والجهوي، ليعانق الكوني والعالمي. إنها وحدة للتدرب والتمرين على قيم الحرية والمواطنة والديمقراطية، والحداثة والتنمية، والتعايش والتسامح والحوار والمشاركة والتلقائية، وقبول الآخر والإنفتاح على متاحات المعرفة والعلم والتكنوجيا الإنسانية، في خضم عولمة كاسحة وجارفة لا تقبل التردد أوالتشدد والإنغلاق على الذات أو الكراهية والعنف والإرهاب والعنصرية العرقية أوالدينية. يتبع