قبل التطرق للمقومات السياسية التي تتميز بها المدينة في العالم العربي ولدور عواصم عربية، كبيروت والقاهرة ودمشق والرباط والدوحة في تحريك الممارسات السياسية والسجال الديمقراطي العربي، رغم الاختلاف البيني بين كل هذه العواصم (حسب أنظمة وأنماط السلطة السياسية السائدة في كل بلد وفي كل عاصمة)، دعونا أولا، نقف، ولو قليلا، عند أهم المسلمات «غير الحتمية» والخاطئة في كثير منها، المتعلقة بظاهرة المدينة كظاهرة عمرانية صرفة، إذ ونحن نتحدث عن المدينة في شكلها الشمولي، تأتي إلى مخيلتنا العديد من بنات أفكار نمطية. المدينة والحياة المدنية نذهب في رؤيتنا وملاحظاتنا إلى أن المدينة هي فقط انعكاس لبنية عمرانية معينة (عمارات -طرق -كهرباء -مؤسسات -خدمات اجتماعية...) ولا نعير كبير اهتمام لنمط الحياة المدنية، الذي هو نمط مدني علماني في العمق، لا قبلي، ووضعي قانوني تمت صناعته عبر تاريخ طويل من التطاحن. وعليه، فإسقاط نمط الحياة المدنية هذه على العديد من مدننا العربية (التي يعيش فيها الإنسان العربي بحمولاته التقليدية الريفية الصرفة) يجعلنا نضع موضع شك أولى المسلمات، ألا وهي لا حتمية الدخول إلى نمط الحياة المدنية، بمجرد دخول البيئة إلى تقويم عمراني وهيكلي حضري. الفكرة النمطية الثانية هي شعورنا الغريب، نحن سكان المدن، بأننا نشكل دائما أغلبية: نشعر، ونحن السكان المتمدنين المتعلمين والمفكرين والممارسين للسياسة، أننا أكثر عددا من سكان الأرياف والقرى. ربما هو فقط إحساس يأتينا من ذلك الشعور بالتفوق وبسلطة المعرفة وبالولوج إلى الخدمات العمومية ذات الجودة، بل وأكثر من ذلك، يأتينا شعور غلبة التمدن من خلال ممارستنا للسياسة وتواجد السلطات وممارسيها في المدن وربما أيضا ولوجنا إلى سلطة الإعلام (لأننا نتحدث في الإعلام باسمنا وباسم السكان الريفيين) وتركيز كل آليات المعرفة والتعبير على الحياة المدنية. إنه الإحساس بمحورية الإنسان المدني، وهو إحساس مفعم بالنرجسية. فلم يصبح سكان المدن مساوين سكان القرى، على مستوى العالم، إلا في سنة 2008، وهي ظاهرة عمرانية فريدة من نوعها وقعت لأول مرة في التاريخ العمراني البشري (دفيد بلوم -مجلة «مشاكل اقتصادية»). ولن نشكل، نحن سكان المدن، تلك الأغلبية المرجوة إلا بعد 20 سنة تقريبا، حيث من المتوقع -حسب الصندوق الإنمائي للسكان- أن تصل نسبة التمدن إلى 60% في أفق سنة 2030. يا لها من مفارقة عجيبة، حيث إن أغلب الدراسات الديموغرافية كانت دائما تؤكد أن المجتمع البشري كان، قبل 10 سنوات تقريبا، مجتمعا يغلب عليه النمط الريفي أو القروي، بحكم غلبة عدد ساكنة الأرياف وكذا بحكم غلبة الطابع الريفي على العديد من مدن دول الجنوب. ولم تكف المدن العملاقة (طوكيو -نيويورك -نيودلهي شانغاي...) في أن توحي لنا بسيادة نمط التمدن، لأن الكثافة السكانية المدنية ليست مؤشرا كافيا على التمدن، كما أن الظاهرة الريفية (على الأقل كنمط في الحياة) ليست بالضرورة ظاهرة جانبية ومحايثة للمدن وإنما تحولت إلى ظاهرة داخلية في التجمعات المدنية الكبرى (ظاهرة القرى المدنية الوسطى). كما أن ظاهرة الهجرة الوظيفية (العمل نهارا في المدينة والرجوع مساء إلى القرية، حيث تكلفة الحياة أقل) ظاهرة مدنية تعرفها العديد من العواصم الأوربية اليوم. هنا ندحض المسلَّمة الثانية، التي تُقِرّ بغلبة النمط المدني على العالم وتجعل من النمط الريفي مكونا عمرانيا وحضاريا آيلا للزوال. لكن الحقائق الديموغرافية تؤكد تكافؤ النمطين، من حيث الحجم العمراني، من جهة، بل وتنذر بأن السياسات المدنية السريعة وغير الرشيدة ستفضي إلى «ترييف» (نسبة إلى الريف) العديد من المدن الصاعدة عمرانيا واجتماعيا. هناك مسلمة ثالثة أكثر واقعية لكنها قابلة للنقاش والنقد، والتي تقر بأن مستوى العيش في المدن (مستوى الدخل والولوج إلى الخدمات الأولية الصحية والتعليمية والأمنية والإعلامية...) أكثر ارتفاعا من مستوى عيش سكان القرى، وهي مسلمة ترتكز على تحسن مؤشرات الصحة في المدن (أمد حياة أطول -معدلات وفيات الأمهات أثناء الولادة أقل...) وتحسن مؤشرات التعليم المدني (نسبة الأمية أكثر ارتفاعا في القرى والأرياف) ومؤشرات الفقر المطلق مرتفعة في البوادي (حيث 75% من الفقراء ما زالوا يعيشون في البوادي حسب تقرير «FNUAP» لسنة 2008). جميل من الناحية النظرية أن نقر بأن مستويات الفقر مرتفعة في البوادي أكثر منها في المدن، وهي فكرة ربما أصبحت اليوم نمطية، لأن أكثر فقراء البوادي -من الناحية الديمغرافية- هم الأكثر نزوحا إلى المدن، وهو ما يساهم في زيادة ما يسمى الفقر الحضري. وظاهرة الهجرة نحو المدن، وبالأخص هجرة الفقراء المدقعين، ستزيد من قاطني مدن الصفيح في الحواضر الذي فاق عددهم -حسب منظمة الأممالمتحدة- مليار نسمة سنة 2007، ويمكن أن يصل عدد سكان الصفيح في الحواضر إلى مليار ونصف سنة 2020. وإذا زدنا عامل الخصوبة المرتفع وعامل الشباب وصغر السن (60% من سكان الصفيح سنة 2030 سيكونون أقل من 18 سنة) إلى عامل الفقر الحضري، فإن كل ذلك سيجعل من أغلب الحواضر العالمية مناطق غير آمنة (دومنيك لورين). ولتلخيص ما سبق، فإن المدينة ليست حتما نقيضا لنمط العيش القروي (بحكم استدماجها الهجرة القروية المتزايدة) وليست حتما منظومة عمرانية منظمة ووضعية (بحكم عدم توفر سياسات عربية مدنية سليمة)، ولم يشكل المدنيون بعدُ أغلبية أمام ما يطلق عليه اليوم ظاهرة «ترييف» الحواضر. وبعيدا عن هذه المعطيات الديموغرافية، التي تعطي صورة المدينة نوعا من القتامة وسوداوية الآمال والأفق، بالنظر إلى ما على عاتق المدن من وظائف تنويرية وحضارية، فإن التحليلات التاريخية والأنثروبولوجية والسياسية للمدينة تميل عادة إلى وضع المدينة في موقع أيقونة تنويرية: الأنوار خرجت من باريس (وهي ملقبة بمدينة الأنوار) وحقوق الإنسان من لندن وسحر الفن من روما والفلسفة والفكر من أثينا (و«القاعدة» من إسلام أباد...). وكثيرة هي النقاشات التي ذهبت إلى حد القول إن ظاهرة السياسة، كفاعلية في تسيير الطموحات الشخصية والجماعية، هي ظاهرة مدنية بامتياز... وإن تعايش الأديان لم يكتب له أن يحظى بوجود دستوري إلا في أحضان المدن (حيث الأرياف قابعة في تجدر الانتماءات الدينية والعشائرية). وكما أشار إلى ذلك المؤرخ كارل بروكلمان، لم يكن ممكنا خروج الحضارة الإسلامية بدستور احترام الأقليات إلا عندما توفرت الشروط المدنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي كانت وراء ظهور شيء بالغ الأهمية، ألا وهو دستور المدينة. تصبّ كل هذه الأفكار في عناوين كبرى أو بالأحرى إشكالات فلسفية مرتبطة بالمدينة في بعدها الحضاري: علاقة المدينة بالدين وتسويق الثقافة والهوية بالمدينة وممارسة السياسة وخلق النخب، وأخيرا، المدينة ككنف لذلك الأجنبي الذي يسكن معنا، ليغيرنا... المدينة والدين هل صحيح أن الدين ارتبط، في تاريخيته، بالمدن أكثر من ارتباطه بالقرى والأرياف، رغم أن الريفيين (ريمي لوفو) هم أشد الناس حرصا على المحافظة على السلطات الدينية للأنظمة الحاكمة؟ وحيث لا مفاضلة ما بين آيات القرآن الكريم، ألا يمكن اعتبار ما أنزل في المدينة أكثر ارتباطا بتنظيم الشؤون السياسية والمدنية والعصرية للمجتمع العربي الإسلامي الناشئ، مقارنة مع ما أنزل في مكة من آيات هي أشد ارتباط بالصرامة العقائدية؟ وهو الاختلاف المفصلي الذي يمكن منه الاستنتاج أن الإسلام في المدينة طبعه التواؤم مع نظام عيش مدني بحاجات دينية وسياسية وتدبيرية خاصة؟ وكم هو مهم المغامرة في استنتاج ما يلي: نفس الاختلاف المفصلي ما بين الخطاب الديني في مكةوالمدينة (خطاب عقائدي في مكة وخطاب معاملاتي في المدينة) هو الذي ساد دائما ودوما في المجتمع العربي على امتداد عمر الحضارة الإسلامية، حيث الممارسة الدينية في الأرياف والقرى عقائدية صرفة والممارسة الدينية في المدن سياسية وإيديولوجية. فالقرية (حسب إرنست كلينر) تنتج الفقيه وحافظ القرآن وطالب الأزهر ودار الحديث الحسنية... أما المدينة فتنتج رجل الدين، السياسي، والمفاوض من أجل السلطة، وهي كلها وظائف إيديولوجية مدنية بامتياز، لأن متدين المدينة في احتكاك مستمر مع الآخر، الأجنبي، ومع منظومة الحكامة المدنية (غير المتدينة مبدئيا). إن النزوع الإيديولوجي للدين المدني يجعل من المدينة العربية الإسلامية موقعا لحركية دائمة للفكر الديني السياسي. فالإخوان المسلمون -رغم الأصول الريفية للغالبية العظمى منهم- وجدوا في القاهرة (بتاريخها الإنساني المتنوع وبحضور الأجنبي فيها وبمؤسساتها المفتوحة وبكثافة الوعي الهوياتي والفني) مكانا خصبا لتطوير خطابهم الإيديولوجي، وهو التطور الذي يمشي اليوم في اتجاه المشاركة السياسية (عوض سن سياسة العزوف) لكن بضمانات مدنية صارمة (ضرورة العمل الحزبي العلني -ضرورة توضيح المشروع السياسي والمواقف من التوجهات الكبرى للبلاد وأهم من ذلك الخضوع لنفس آليات النقد والمحاسبة). وليس غريبا الوصول إلى الفكرة التي مفادها أن المدنية تحول الدين العقائدي إلى مشروع سياسي، وهو المشروع الذي لا يمكنه الاستمرار بقوة القداسة المرجعية، وإنما أهمية الارتكان إلى الديمقراطية، والتي من مقوماتها المساواة ليس على محك الانتماء العقائدي وإنما على محك الحقوق المدنية للجميع على حد سواء. المدينة والثقافة والفلكلور لماذا المدينة دائما هي التي تعي الذات الجماعية (حضرية أو قروية)؟ ولماذا القرية هي دائما هذا الخزان الفياض الخام من الهوية، الذي يتحول إلى تعليق فلكلوري مدني؟ فالسهرات والمعارض والندوات الفنية التي تحتضنها المدن العربية حول الثقافة والتراث، تكون دائما شيئا مغايرا عن هذا التراث بتشكيل خطاب مدني حول التراث (خطاب صالونات أو تقارير أكاديمية عنه). والمؤسسات المدنية التي تحدثها الدولة للحديث عن الهوية والثقافة (وزارات ثقافة -دور فن -نواد -مسارح -معارض...) رغم أهميتها الثقافية، تبقى تدور في فلك خطاب فلكلوري حول الهوية (عبد الله العروي)، فلكلوري لأن أغراضه «تسويقية» في اتجاه إذكاء إحساس مفرط واصطناعي بمقومات وطنية (ليست حاضرة بالضرورة في الثقافات الأصلية وكم شيخة أرغدت وأزبدت على النظام وكم شاعر تهكَّم على الوطنية في لوحاته وكم نكتة بخست الحكم والمقدس وكم منشط حلقة وضع الآخرة موضع خوف سخري...). يسقط المدنيون الذين يتحدثون عن الهوية الثقافية الجماعية اليوم في المؤسسات المعيارية، وخصوصا منها المؤسسات الإعلامية، ضحايا الانتماء الهوياتي وتسقط الخطابات الثقافية الإعلامية ضحايا عادات سيئة للغاية، كالجهوية (سهرات القناة الثانية كلها عن فن الشاوية ومحاورها) وكالتعصب الإيديولوجي (الأمازيغية الصافية، رغم عدم وجودها...)، وهو ما يجعلنا نلخص إلى أن الخطابات الإيديولوجية حول الهوية تتم صناعتها مدنيا ويتم تصديرها ديماغوجيا (عبر الإعلام) وهو ما لا يساعد على الاستبطان الهوياتي الحقيقي الذي يتطلب منا النزوح إلى البوادي والتعايش مطولا مع مسنيها والتسلح بآليات إثنوغرافية حقيقية.