مع اقتراب الذكرى الثالثة لرحيل الفقيد أحمد بنجلون وبعد تردد طويل في الوفاء بوعد كنت قد قطعته على نفسي بدأت أفكر في الكتابة عن واقع الصحافة في مجتمعنا، وذلك تجاوبا مع ما اقترحه علي الفقيد في إحدى زياراتي له في بيته بالرباط. لكن ما شجعني أكثر على الكتابة هو أنني عثرت مند يومين على عدد قديم من مجلة " السؤال" كنت أحتفظ به ضمن عدد من الجرائد والمجلات القديمة.. وهو عدد خصص لتخليد أربعينية المناضل والصحفي الكبير محمد باهي . إن أهم ما حفزني على الكتابة بعد أن قرأت كل الشهادات التي كتبت عن هذا الصحفي الكبير، وكذا الأصداء التي خلفتها وفاته المفاجئة ،هو المستوى الرفيع الذي كان يميز العمل الصحفي في مرحلة تميزت بالدور الكبير الذي لعبته الصحافة الحزبية وبين واقع التردي الذي وصلت إليه صحافة اليوم. لكن لا بد من الإشارة إلى أن أصل الفكرة لم يكن هو القيام بمقارنة ما كانت عليه الصحافة بالأمس وبين ما أصبحت عليه اليوم. لقد جاءت فكرة الكتابة عن الصحافة ودورها الإيجابي أو السلبي في تشكيل وعي الناس وفي التأثير على طرق تفكيرهم وفي اختياراتهم..جاءت بشكل تلقائي. كان الفقيد أحمد بنجلون قد سلمني عددا من مجلة "جون أفريك " وطلب مني قراءة الملف الذي أنجزته المجلة عن حركة النهضة التونسية ودور قيادتها في خيانة الثورة التونسية. وبعد أن بدأت في تصفح عناوين الملف طلب مني أن أركز أولا على غلاف المجلة "la une". كان الغلاف يحمل صورة لرئيس حركة النهضة راشد الغنوشي وهو ينظر من فوق نظاراته الطبية نظرة تختصر بشكل دقيق العنوان الكبير المكتوب تحت الصورة : " الرجل الذي خان الثورة " لقد كانت نظرة تحمل الكثير من المكر والخديعة. وكعادته عندما يريد أن يبعث برسالة معينة إلى من يتحدث إليه قال الفقيد بنجلون "على الرغم من ثقافتي المحدودة في مجال الصحافة، فأنا أعتبر هذه "la une" من أحسن مارأيت" واستطرد موضحا بأن الصحفي الذي أشرف على تصميم هذا الغلاف هو صحفي مقتدر بكل معنى الكلمة لأن الصورة تختصر كل محتويات الملف الذي أنجزته هيأة التحرير. ولم أترك الفرصة تمر دون أن أعلق على كلامه، معتبرا حديثه عن ثقافته في مجال الصحافة هو تواضع كبير منه. فأنا شخصيا ومعي عدد كبير من المناضلين ومن قراء جريدتي "المسار" و "الطريق" لا يمكن أن ننسى على الأقل الافتتاحيات التي كان يكتبها ، والتي كانت تحظى باهتمام كبير من لدن القراء نظرا لمستواها الرفيع شكلا ومضمونا. لكن ما أثار الفقيد هو عندما أخبرته بأن رئيس تحرير إحدى الجرائد الوطنية قد سرق الملاحظة التي كان يكتبها في نهاية الافتتاحية والتي كانت تحت عنوان"ملاحظة لا علاقة لها بما سبق"، والتي وعلى الرغم مما يمكن أن توحي به للقارئ فإنها تكون في صميم الموضوع بل وتختصره بشكل ذكي وتحمل في ذات الوقت إما نقدا لاذعا لجهة معينة أو تلميحا للقارئ يدفعه إلى قراءة مابين السطور. ويبدو أن رئيس التحرير لم يستوعب الغرض الحقيقي من هذه الملاحظة لأنه كان يكتب في نهاية مقالاته ملاحظة فعلا لا علاقة لها بالموضوع، مما حولها إلى عنصر مشوش. لقد ضحك الأخ أحمد بنجلون وعلق بسخريته المعروفة: " Il copie et en plus il le fait avec connerie". وبعد ذلك عدنا للحديث عن الربيع العربي، وعن اغتيال المناضل شكري بلعيد ، ومستقبل الثورة في مصر وتونس و الدور الرجعي لجماعة الإخوان المسلمين...إلخ. وفي نهاية الزيارة وأنا واقف لأودعه أشار الفقيد إلى المجلة وقال " هذا الملف سيساعدك على كتابة موضوع عن واقع الصحافة في هذه المرحلة. ووعدته بأن أفعل.. وترددت كثيرا، ولكن احتراما لذكراه واحتراما لذكرى المناضل والصحفي الكبير محمد باهي قررت أخيرا الوفاء بوعدي. إن الحديث عن واقع الصحافة لا يمكن أن يتم دون الحديث عن واقع المجتمع. وما تعيشه الصحافة اليوم هو انعكاس لما يعرفه المجتمع من تحولات عميقة. لقد تراجعت السياسة كثيرا وابتعد الناس عن الاهتمام بالقضايا الكبرى وبدل أن تعمل الصحافة على تعزيز التفكير وروح النقد والعمل على خلق المواطن الفاعل والمشارك في صنع المستقبل ، فقد انساقت مع ما فرضته ثقافة الاستهلاك التي تقوم على نشر الخوف من المستقبل والإيمان بكون الحاضر هو قضاء وقدر لا يمكن مقاومته أو تغييره. فإذا كان دور الصحافة المعروف هو نقل الخبر إلى المواطن فإن مهمتها الأساسية هي تحليل الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية حتى يتمكن المواطنون من فهم الآليات التي تحرك واقعهم والقدرة بالتالي على التحرك الواعي و الجماعي و القيام بدورهم كفاعلين أساسيين يساهمون في تعزيز وصيانة الديمقراطية. لقد سجل الخبير الاقتصادي الهندي " أمارتيا سن" الحائز على جائزة نوبل للسلام بفضل أبحاثه حول الأسباب الحقيقية لحدوث المجاعات بأن هذه الأخيرة لم تظهر أبدا في المجتمعات ذات الصحافة الحرة. وهذا دليل على أن الصحافة كسلطة رابعة بتوعيتها للناس تمنع حدوث التراجعات الكبرى وتحمي الحقوق والحريات. اليوم ابتعدت الصحافة كثيرا عن دورها الحقيقي وتحولت- كما سجل ذلك "والتر ليبمان"أحد أكبر صحفيي القرن العشرين- إلى مؤسسة من مؤسسات "صناعة الإذعان".التي تسعى إلى قتل الإرادة الجماعية التي بدونها تفقد الديمقراطية محتواها الحقيقي. إن أخبار الإثارة أصبحت المادة الأكثر استهلاكا في صحف اليوم لدرجة أن الحقيقة توارت لتفسح المجال لما هو مثير وفرجوي في الأخبار.لقد تراجعت المواد الثقافية والتحليلات والتحقيقات الصحفية التي تلقي الضوء على القضايا الكبرى المحركة للمجتمع والتي بمعرفتها يتمكن المواطنون من ممارسة حقوقهم الديمقراطية .وانتشرت على نطاق واسع أخبار الكوارث وجرائم القتل والسرقات والفضائح المتعلقة بالحياة الخاصة للناس، وبدل الاجتهاد والتفكير الذي كان يميز العمل الصحفي أصبح البحث عن الإثارة هو الهدف ولو على حساب الموضوعية وشرف المهنة. ففي تغطيته للحفل السنوي الذي تنظمه جريدة " L'humanité" لم يجد مراسل إحدى الجرائد الأوسع انتشارا سوى العنوان التالي لتحقيق قام به وسط أروقة الأحزاب اليسارية المشاركة في هذا الحفل "اليوم خمر وغدا أمر".لقد أهمل كل الأنشطة الثقافية و كل النقاشات الفكرية والسياسية وكل الوثائق والكتب المعروضة خلال هذا الحفل الذي تشارك فيه معظم الأحزاب اليسارية في العالم وركز على شيئ واحد لإثارة القراء. إن هذا الأسلوب في الكتابة يبتعد كثيرا عن أهم قيمة في العمل الصحفي وهي الموضوعية. لقد كانت المراسلة الصحفية الأمريكية الشهيرة في حرب الفيتنام تقول" أنا أحاول أن أقرر ما إذا كنت سأذهب أم لا لتغطية مظاهرة سوف لن تنظم إذا لم أذهب لتغطيتها" مما يدل على حرص كبار الصحفيين على الموضوعية والصدق في نقل الحقيقة كما هي حتى ولو تناقضت مع مبادئهم و أفكارهم. إذن، اليوم يمكن القول أن مستقبل الصحافة الجادة غير مضمون وبأن شرف مهنة الصحافة يوجد على المحك، خاصة في هذه المرحلة الصعبة، لأن قوة المال أصبحت تهدد استقلالية العمل الصحفي. فبعد تراجع دور الصحافة الحزبية بسبب ضعف الإمكانيات المادية والبشرية، برزت إلى الوجود بعض الجرائد والمجلات المستقلة التي لا زالت تقاوم وتلعب دور القوة المضادة في مواجهة جرائد ومجلات أخرى تحولت رغم ادعائها الاستقلالية إلى أدوات للدعاية لصالح جهات تملك الثروة والسلطة.إن الصحافة الحرة لا يمكن أن تقوم بمهمتها النبيلة إلا في مواجهة الإغراءات بكل أنواعها. وبالعودة إلى ذكرى الفقيد أحمد بنجلون تجدر الإشارة إلى أنه في شهادته في أربعينية الفقيد محمد باهي قال عن هذا المناضل والصحفي الكبير بأنه "أثر العمل دوما في الظل بعيدا عن زيف الأضواء وبيروقراطية المناصب أو الركض وراء أي جاه أو مال". إن هذا الالتزام ، وهذه النزاهة الفكرية والأخلاقية هي التي جعلت من محمد باهي صحفيا كبيرا. لقد رفض عدة مرات رئاسة تحرير جرائد نفطية ، كما أن عبارة "اذهب وربك فقاتلا" التي رد بها على عرض الرئيس الجزائري الراحل الهواري بومدين بترؤس جبهة البوليساريو هي مثال من أمثلة كثيرة وقفها مناضلون وصحافيون كبار دفاعا عن الحرية. *عضو اللجنة المركزية لحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي