يرصد الطاهر بنجلون في هذا الحوار الاستذكاري تجربته مع مجلة أنفاس، ويورد في معرض أجوبته ملامح عن مرحلة مفصلية في الثقافة المغربية المعاصرة. يشير إلى أن انزياح المجلة الأشهر والأكثر تأثيرا في تاريخ الثقافة المغربية المعاصرة عن خطها الثقافي والأدبي وغرقها في معمعان الإيديولوجيا والسياسة كان إيذانا بنهايتها حيث ابتعدت عنها الكثير من الأقلام. بيد أن الدال في الحوار موقف ورأي بنجلون من لغة الضاد التي يرى أنها صارت محتقرة اليوم وأن الذين يكتبون بها على امتداد العالم العربي كلهم يتطلع لأن يُترجم إلى الفرنسية والإنجليزية والألمانية كي يصير مقروءا في الوقت الذي لا يطبع من كتاب محظوظ في هذا الامتداد العربي سوى 3 آلاف نسخة في أحسن الأحوال.. * أرسلتم نصوصكم، إلى أنفاس متأخرا جدا، هل بقيتم مع المجلة، لفترة طويلة؟ ** لقد أتيت، إلى المغامرة، متأخرا شيئا ما. ببساطة، لأنه في تلك الحقبة المؤرخة، لبداية أنفاس (1966-1967)، تواجدت مع آخرين في معسكر تأديبي للجيش. بالتالي، لم يكن لدي وقتها، أي اتصال بفريق المجلة، بل لم أكن أملك، حق قراءتها. لكني، غدوت كاتبا مع أنفاس. في الجيش دبجت أولى نصوصي، لكن دون مشروع نوعي، على هذا المستوى، لأني لم أكن أعلم، هل سأغادر المعسكر بعد فترة التجنيد، أم لا. لقد عوقبنا، ولم تكن لدينا، معلومات حول مصيرنا. أفهم الجيش أفراد أُسرنا، أننا بصدد تأدية الخدمة العسكرية، التي لم تكن سارية خلال تلك الفترة، بيد أنهم اختلقوها مبررا. في الواقع، هو ليس تدريبا، بل كانت كتيبة تأديبية لمعاقبتنا، حتى يعلموننا كيفية أن نمتثل وننقاد، على غير ماضينا السياسي. إذن، شرعت في الكتابة سرا. * ألم تكتبوا، قبل ذلك؟ ** لا، بالتدقيق لم أخربش شيئا. كتبت، فيما سبق قليلا، بعض الحماقات، لكن تحديدا لاشيء، وفق معنى الكتابة المتوخية للتواصل مع الآخرين. هكذا، كتبت بعض القصائد التي أصدرتها فيما بعد. النص الشعري: L' aube des dalles، بدأته سنة (1966-1967)، ثم اطلع عليه القارئ شهر يناير 1968. وقتها، قدمته إلى الخطيبي، الذي كنت أعرفه، قصد الاطلاع عليه، ثم اقترحه بدوره على اللعبي، الذي بادر إلى نشره. هكذا، تم الأمر. كنت سعيد جدا. * كيف حدث تعاونكم، مع المجلة؟ ** لم تكن أنفاس، مجرد مجلة عادية، بل اتسمت وظيفتها بالاستثنائية. لقد، اشتغلت مثل أسرة واحدة. سنة 1968، أنهيت دراساتي في الفلسفة. كنا نجتمع، في الرباط. شهر أكتوبر 1968 عينت أستاذا للفلسفة بمدينة تطوان، وأتنقل إلى الرباط. غير أن سنة (1968-1969)، لم تمر على أحسن مايرام. التقينا، كتبت نصا ثانيا، صدر بدوره، فأصبحت بكيفية ما، طرفا ضمن الفريق، وقد كنت آخر الملتحقين، لأن خير الدين غادر نحو فرنسا، أما الخطيبي فلم يكتب قط عمليا، في المجلة. لم يبق، سوى اللعبي والنيسابوري والمنصوري، وأحمد المديني فيما يتعلق باللغة العربية... هكذا، بدأت الأمور تتحرك رويدا رويدا. * كيف عشتم، تطور المجلة؟ ** لقد أحسوا، بالحاجة إلى إبداع النص العربي، في ذات الآن، كنا متقاربين جدا. جاءت، كارثة يونيو 1967، فأضحت العقول مصدومة جدا سياسيا، بخصوص القضية الفلسطينية. لذلك، فانزلاق مجلة أدبية خالصة، نحو السياسي، حدث نتيجة فلسطين ومشروع روجرز. روجرز، الوزير الأمريكي في الشؤون الخارجية، خلال تلك الفترة، اقترح مخططا للتقسيم. مخطط، بدا لنا ظالما، وغير عادل، فأثار حفيظتنا ضده، مما دفعنا إلى تخصيص عدد لفلسطين، وهو عدد مزدوج، بغلاف رمادي فضي، لازلت أذكره جيدا. شكّل ذلك، شيئا ما، انخراطا للمجلة في السياسة. هنا، بدأت أولى الانشقاقات. هكذا، غادر المليحي، باعتباره المصمم الأول لشكل المجلة، وقد خاضت زوجته الايطالية طوني ماريني، قبل ذلك، شجارا مجلجلا مع اللعبي. أما اللحظة المفصلية، فتمثلت في مجيء أبراهام السرفاتي، القادم عبر المدخل الفلسطيني. هو يهودي مغربي، وشيوعي سابق، انفصل عن الحزب الشيوعي المغربي، كي يأخذ وجهة اليسار. * كيف كانت علاقتكم، مع أبراهام السرفاتي؟ ** كان إلى حد ما، بمثابة عرَّابنا. في نفس الوقت، أسس اللعبي أطلانطس، مؤسسة نشر أنفاس، حيث أصدر أول مجموعة شعرية له سنة 1970، بتقديم أبراهام السرفاتي. إلى غاية ذلك الوقت، لم تكن المواقف مزعجة جدا. المسار عادي، فانخرطنا... بيد أني والنيسابوري على سبيل التمثيل، بدأنا نتردد قليلا، مع تهميش للمشروع الأدبي وكذا الكتابة الشعرية، جراء معانقة كلية للسياسي والأيديولوجيا. إذا كانت من قصيدة أبغضناها، فهي القصيدة "الملتزمة" بين مزدوجتين، القصيدة المناضلة،إلخ. بل، اللعبي نفسه، لم يكن يكتب هذا النوع، من القصائد وقتها. إذن، كنا مترددين قليلا، ونحن نلاحظ التحول السريع للمغامرة الأدبية، إلى شيء سياسي، وانفلاتها من أيادينا. تسارعت وتيرة الأحداث، وأضحت السجالات داخل أنفاس إيديولوجية جدا، وتشتغل مثل هيئات سياسية، أي بغاية الصرامة...، وضع أزعجنا وأقلقنا قليلا. غادرت المغرب شهر شتنبر 1971، ليس بسبب أنفاس، لكني مدرس الفلسفة، وقد اتسمت الأجواء العامة، بالإحباط على امتداد المغرب، جراء القمع السائد. خلال ذاك الإبان، كنت أستاذا في ثانوية محمد الخامس بمدينة الدارالبيضاء. طيلة السنة، أجبرت على تكرار الدرس، لأكثر من عشرين مرة، فالإضرابات والتظاهرات، لم تتوقف، مما جعل الوضع مقرفا. هكذا، وبهدف وضع حد لهذا التخريب، قرر وزير الداخلية تعريب درس الفلسفة. هنا، ليس في مقدوري، أن أكون مترجما. * مع ذلك، فأنتم تملكون ناصية اللغة العربية؟ ** نعم، لكن المشكل، لايكمن هنا. توخى، الهدف من تعريب الفلسفة، إلغاء النصوص، المصنفة بالانقلابية: نيتشه، فرويد، ماركس... كان علينا خلال تلك الحقبة، التحول إلى تدريس الفكر الإسلامي، بينما تكويني لا يساعدني على هذا الأمر. بالتالي، لا يتعلق الإشكال باللغة، لكن ببرنامج. لذلك، حصلت من الوزارة على الموافقة بحرية التصرف، ثم قصدت فرنسا لمتابعة الدراسات العليا. بعدها مباشرة، بدأت الاعتقالات، لأن جماعة السرفاتي واللعبي، انغمست في السياسة أكثر فأكثر، وكانت في المجمل اعتقالات مخزية، لأنهم لم يرتكبوا جرما، بل فكروا فقط في خطاب معارض، هذا كل ما في الأمر ! إنها الحقبة التالية، لفترة الانقلابات ضد الحسن الثاني، ثم انتهى تاريخ أنفاس. عموما، هي مغامرة استغرقت خمس إلى ست سنوات، ميزت مرحلة على أية حال، مهمة جدا، أيقظت أذهان الشباب. افتقدنا، لوسائل كثيرة، لكننا تموضعنا ضمن طليعة كل شيء. * لأي سبب، انسحبتم من مجلة أنفاس؟ ** على أية حال، من أجل مفهوم جوهري بالأساس، يهم مفهوما أدبيا. لم تعد المجلة، فضاء للتعبير الأدبي، وأضحت على النقيض مجالا للصراع الأيديولوجي والسياسي، وهو أمر يختلف. دون صياغة حكم، بخصوص ما آلت إليه، فقد زاغت عن مشروع البداية. لم أنسحب، بالمعنى الذي يقتضي تفسيرا: لقد ابتعدت. شعرت، أن المجلة لم تعد تعنيني، مثلما الأمر أيضا مع مصطفى النيسابوري، بحيث تملكتنا نفس القناعة. * بعد ذلك ساهمتم في مجلة أنتيغرال "intégral" ؟ ** نعم، صاحب المشروع هو المليحي، لكن ليس من نفس مستوى فكر أنفاس. صحيح، أنها مجلة ممتازة جماليا، فقد سعينا إلى حد ما، إعادة إحياء الفكرة، بمنح هذا الفضاء للشعراء، كي يعبروا. إذن، ساهمت في بعض الأعداد، صنيع لم يكن ليروق كثيرا عبد اللطيف اللعبي، المتواجد وقتها في السجن. * ماهي علاقاتكم، حاليا مع الأفراد، الذين ساهموا في أنفاس؟ ** ألتقي من حين لآخر، عبد اللطيف اللعبي... لقد كان حقا شخصا، يعرف كيف يثير الهمم، ثم إنه شاعر ومبدع كبير. رجل، له شغف ببلده، يتطلع إلى تغيير مجتمعه. أعتقد، أن غاية الشاعر تتمثل في تغيير العالم، وأحوال الكون، غير أن تغيير مصير الحي الذي نقطنه، يبقى كذلك في حد ذاته، أمرا إيجابيا. إذن، اللعبي ملهم وشاعر جيد، وشخص يملك رؤية ثقافية للبلد. * ماهي حمولة أنفاس، بالنسبة إليكم؟ ** دشنت أنفاس، السجالات حول الثقافة الوطنية: دلالة الثقافة الوطنية، ماهية اللغة؟ خلال تلك الحقبة، لم نجد أمامنا محاورين مهمين جدا. فئة من المعارضين، انتموا إلى حزب الاستقلال، رأوا في هذا الأدب، نوعا من "الولاء" للاستعمار، ولايفهمون لماذا نواصل الكتابة بالفرنسية. خلال تلك الحقبة، كتبنا بهذه اللغة، لأنها اللغة المختارة من طرفنا للتعبير. في ذات الوقت، حسبنا أننا آخر من سيعبر بالفرنسية، لكن الوضع متواصل حتى الوقت الراهن. * كيف تفسرون هذا الأمر؟ ** أفسره بكون اللغة العربية، إحدى أجمل لغات العالم، لم تعثر على السياق السياسي والاجتماعي، الملائم لها خلال هذه اللحظة. أهمّ الكتاب العرب، المصريين وغيرهم، لا يحلمون سوى بشيء واحد، أن يترجموا إلى الفرنسية والانجليزية والألمانية، كي تتم قراءتهم، لأننا للأسف نعيش نوعا من الأزمة، بوسعنا تسميته انهيارا. اللغة العربية، التي كانت آلية جوهرية، لتحريك الثقافة الكونية، غدت اليوم محتقرة بل مجهولة ويتم تبخيس قيمتها. صورتنا، كلامنا، لغتنا، صوتنا، الصوت العربي، لايُستمع إليهم راهنا. الدليل، أن الأدب العربي، لايُترجم فعليا. هناك ناشرون، في فرنسا، يواصلون ترجمة أعمال بعض الكتّاب، لكن لا اهتمام لهم بالأجيال الجديدة، أو مجرد تطلعهم، كي يعرفوا ماذا يكتبه العرب حاليا. الأمر، لا يعود إلى ممارسة خاطئة للناشرين، لأن عملهم يحكمه أيضا البعد التجاري، بالتالي عندما يعجزون عن الترويج لكاتب ما، سيتوقفون عن التعامل معه. موقف، يسود كل بلدان العالم. * الطاهر بن جلون، يُقرأ كثيرا في فرنسا؟ لأنه، يترجم أيضا، إلى العربية؟ ** أنا مقرصن إلى العربية، لقد ترجمت بكيفية جيدة جدا داخل المغرب، من طرف شعراء ممتازين. لكن في سوريا، تمت قرصنتي، بحيث مست أحيانا النص، وغيرت معناه. أود، أن أستغل هنا المقام، كي أقدم التحية لذكرى شاعر لبناني كبير هو بسام حجار، مترجم روايتي الأخيرتين، الذي غادرنا مؤخرا، على نحو مفاجئ. لقد أخبرنا، ناشرون مصريون وجزائريون، خلال لقاء نظم بمدينة الرباط حول الرواية العربية، أن أفضل الأعمال رواجا بالنسبة للأدب العربي، تعني ثلاثة آلاف نسخة. يقرأ الناس الجرائد ويشاهدون التلفاز، لكنهم لايقرؤون الكتب، هناك غياب لحماسة القراءة. على سبيل المثال، أنا معروف جدا على امتداد العالم العربي، لكني لست مقروءا. يعرفونني، لأنهم يشاهدونني على شاشات التلفاز، وأكتب مقالات في الصحف. وقد حدث أني التقيت صحفيين عربا، لم يقرؤوا عملا واحدا لدي، لكنهم يعلمون أشياء كثيرة عني، بتصفحهم لموقعي على الانترنيت. حالة عدم اكتراث، وغياب مريع للاهتمام. * ماهي نظرتكم اليوم، إلى تجربة أنفاس؟ ** شكلت أنفاس، بالنسبة إلي محطة جوهرية وأساسية. ما كان بمقدوري أن أكتب، لولا هذه المجلة. تصير كاتبا، من خلال الآخرين. الرغبة كي تكتب، تعتبر شيئا، لكن إذا لم تخرج تلك الكتابات وتقرأ وتنتقد، فإنك غير موجود. أذكر، عندما أعطيت النص إلى الخطيبي، لم أكن أتوقع صدوره، ثم صدر، فانتابني شعور، بأني شخص آخر. هكذا، قلت مع نفسي: (بوسعي، إذن التحدث إلى الناس !)، ثم واصلت. ربما، دون أنفاس، ما استطعت أن أصير كاتبا، أو تحقق الأمر، لكن في ظل شروط مغايرة تماما. شكلت، أنفاس إذن نقطة بدايتي الأساسية، وأدين بهذا إلى اللعبي، لأنه لو لم يقرأ ذاك النص وتبناه فألقى به جانبا، لتراجعت همتي. إنها، أشياء صغيرة، قد تبعث شرارة، أو على العكس، تضع حدا لمسار معين. بالتالي، فأنا مدين لعبد اللطيف اللعبي.