عن دار النشر "سيروكو"، صدر باللغة الفرنسية للصحفية والناقدة الأدبية كنزة الصفريوي مؤلف مهم وسمته ب: «مجلة أنفاس (1966 1973-): آمال ثورة ثقافية بالمغرب». الكتاب الذي صاغ مقدمته الشاعر عبد اللطيف اللعبي، الذي ظل مديرا للمجلة المدروسة إلى حين منعها، يعتبر بحق دراسة شاملة لرهانات تأسيس أنفاس، لالتزاماتها وأفقها الأدبي والثقافي، وللتحولات التي قادتها نحو انتمائها الإيديولوجي وانخراطها السياسي غير المهادن. "بعد ثلاث سنوات، سيكون نصف قرن قد مر على تأسيس مجلة أنفاس في مارس 1966. لا أحد يعرف إن كان سيتم إحياء هذه الذكرى حين تحل، ربما، بما تستحقه من طرف النساء والرجال المؤمنين بالحفاظ على الذاكرة الثقافية ونقلها". هكذا يستهل الشاعر عبد اللطيف اللعبي المقدمة التي خص بها الكتاب، مقرا أن كنزة الصفريوي لم تنتظر حلول موعد الذكرى بل إنها تهيئه منذ سنوات. وبصدور "أنفاس 1966- 1973: آمال في ثورة ثقافية بالمغرب"، تؤكد الصحفية أنها كسبت الرهان بامتياز، يضيف الحائز على جائزة غونكور الفرنسية للشعر سنة 2009، إذ هي تمنح القارئ نظرة شاملة وكاملة حول "المغامرة الثقافية والإنسانية لأنفاس". كتاب كنزة الصفريوي، الصحفية والناقدة الأدبية، يعتبر في الأصل أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في الأدب المقارن، وهو يتضمن دراسة رصينة لتجربة المجلة الرائدة وسردا مشوقا لمسار "أنفاس" ولمواقفها الملتزمة، مقرونا بشهادات لمؤسسيها والمساهمين فيها. في مارس 1966، شرعت الأكشاك في احتضان مجلة جديدة باللغة الفرنسية: "أنفاس"، التي هي منبر مجموعة صغيرة من الشعراء الشباب المتحلقين حول عبد اللطيف اللعبي ومصطفى النيسابوري. وطوال سبع سنوات، ستفرض المجلة الفصلية نفسها في الساحة الثقافية والسياسية بفعل قوة خطابها، كما ستلتحق بها نظيرتها باللغة العربية ابتداء من ماي 1971. لقد شكلت أنفاس، تؤكد المؤلفة، منبرا متميزا في المشهد الصحفي المغربي. لم تكن بالطبع أول مجلة أدبية مغربية تصدر حينها، حتى باللغة الفرنسية، لكنها مثلت حركة أدبية وفكرية فعلية مزجت بين مختبر الكتابة والالتزام الثقافي والسياسي. لقد انطلقت أنفاس كمجلة أدبية، ثم تحولت إلى منبر للحركة الماركسية اللنينية الوليدة مما جعلها تتوقف بعنف عن الصدور عقب الاعتقالات التي طالت أهم منشطيها. لكن، لماذا تفرض إعادة قراءة المجلة اليوم نفسها؟ هو ذا السؤال الذي تطرحه كنزة الصفريوي، لتجيب عنه بتفصيل لا يخلو من إفادات وتوضيحات. أجل، تعتبر أنفاس مشتلا للكتاب، فالعديد من كبار الأسماء المغربية المبدعة باللغة الفرنسية ساهمت في المجلة: محمد خير الدين، أحمد البوعناني وعبد الكبير الخطيبي... كما أنها احتضنت بدايات أسماء أخرى: الطاهر بن جلون الذي نشر فيها أولى قصائده... ومن مميزات أنفاس الأخرى أنها أول مجلة تشكل عمودها الفقري من طرف كتاب وفنانين تشكيليين وضمت "لجنتها العاملة" أسماء مثل محمد المليحي ومحمد شبعة. "بدل أن تكتفي أنفاس، تكتب المؤلفة، بإعادة نشر أعمال التشكيليين وتناول انشغالاتهم كتيمة ضمن باقي الموضوعات، فإنها شيدت جسرا فعليا بين الكتابة والتعبير التشكيلي. ولقد أصبحت كذلك، بفعل هذا، منبرا للفنانين". ومن جانب آخر، تعتبر أنفاس أول مجلة مغربية سعت إلى ردم الهوة بين الكتاب باللغة العربية وزملائهم باللغة الفرنسية، مدافعة عن الجيل الجديد من الكتاب بغض النظر عن اللغة الموظفة. وهو ما جعل نسختها الفرنسية تترجم، منذ أعدادها الأولى، قصائد من العربية إلى الفرنسية، وإلى إنشاء النسخة العربية ابتداء من ماي 1971، مع نشر أعداد مزدوجة اللغة. وإذا كانت أنفاس قد أثرت عميقا في تربة مرحلتها التاريخية، فالسبب يعود أيضا وخاصة، تشرح الكاتبة، إلى التوازن بين تعدد الأصوات التي كانت تعبر ضمنها وتنوعها، مجاورة ولدت "نغما مشتركا وصوتا جمعيا". وبالإضافة إلى ما سلف، فإنه لا يجب اختصار التجربة في المجلة المطبوعة، ذلك أنه من اللازم استحضار لحظات النقاش التي احتضنتها، ومعها العمل الجماعي من أجل إخراج كل عدد إلى حيز الوجود، "وخاصة خلال مرحلتها السياسية حيث ساهم العديد من المناضلين في تأملاتها الفكرية وفي تصحيح المقالات دون توقيع". اهتمامات أنفاس ذات الطابع الأدبي والفني واللغوي والسياسي، جعلت منها، تؤكد كنزة الصفريوي، مركز جذب ورافعة لحركة أدبية وفكرية فعلية، حركة طليعية لم تستطع المجلات اللاحقة، خاصة الصادرة بالفرنسية، أن تتجاوزها رغم مرور أربعين سنة. أدب متحرر من العتاقة طلائعية أنفاس كانت أدبية في المقام الأول، لأن الكتاب الذي نشروا في صفحاتها كانوا يحملون مشروع تجديد شفرات الكتابة سواء باللغة الفرنسية أو بالعربية. وفي هذا السياق، يعتبر الناقد الفرنسي كلود راينو أن أنفاس كانت مهد ميلاد الشعر المغربي المكتوب باللغة الفرنسية. بينما يقول الكاتب والناقد المغربي محمد برادة إن الكتاب المغاربة الشباب كانوا يسعون إلى أدب محرر من القوالب العتيقة في رحم مغرب ما بعد الاستقلال وتحولاته الكبيرة والسريعة. وعلى مستوى ثان، فقد كانت أنفاس منبر حركة تعتبر نفسها طلائعية سياسيا، وخاصة بعد 1969. في هذا الإطار، تكتب المؤلفة أن منشطي المجلة، وخاصة أبراهام السرفاتي وعبد اللطيف اللعبي كانا فاعلين سياسيين، سبق لهما النضال في صفوف حزب التحرر والاشتراكية قبل الالتحاق بالتيار الذي سينشق عنه لتأسيس المنظمة ألف، إلى الأمام لاحقا. وفي ذات الآن، انشقت مجموعة أخرى عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية لتأسيس المنظمة باء، 23 مارس لاحقا. ولقد تقاربت المنظمتان معا في إطارات متعددة، منها النسختان الفرنسية والعربية من أنفاس التي ضمت مناضلي التنظيمين إلى هيئات نشرها. وهؤلاء هم الذين تابعوا تجربة إصدار المجلة في باريس إلى حدود نهاية 1973 بعد أن توقفت عن الصدور في المغرب في يناير 1972 عقب موجة الاعتقالات الجماعية. ولم تكن أنفاس، تضيف كنزة الصفريوي، منبرا صحفيا حزبيا مثل أغلبية المنشورات الصادرة أيامها. ولذا، فإنها ساهمت في خلق ممارسة صحفية جديدة متوجهة نحو تحليل الإشكاليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لكنها لم تكن الوحيدة في الساحة، فشهرية لاماليف التي صدر عددها الأول في 1966 وتوقفت في 1988كانت تنشر مقالات تحليلية ذات قيمة عالية حول راهن المغرب في مجالات الاقتصاد والتاريخ والأدب وعلم الاجتماع.وعلى خلاف لاماليف التي كانت منخرطة في أفق اليسار التقليدي، فإن أنفاس احتضنت أفكار اليسار الجذري. ذاكرة ليست للنسيان عقب توقفها عن الصدور، ستتحول أنفاس إلى موضوع محرم، تكتب كنزة الصفريوي، لدرجة أن شبيبة اليوم لا تعلم حتى بوجودها إذا لم تكن قد ترعرعت في أوساط منفتحة على الثقافة أو مناضلة: "في رحم وضع ميزته القمع المنهجي لليسار الجذري، ومعه تجليات أخرى للقمع الممارس ضد كل إرادة معارضة، أصبحت (لأنفاس) سمعة تجسدها كخارجة عن القوانين. بل إن بعض الأشخاص تخلصوا، في تلك الحقبة، من أعداد المجلة التي كانوا يتوفرون عليها، ذلك أن نسخا من طبعتيها العربية والفرنسية قدمت، خلال محاكمة الدارالبيضاء في 1973، كأدلة إثبات ضد عدة متهمين، خاصة تلاميذ الثانوي، لدعم اتهامات لا أساس لها". وإذا كان أول أستاذ جامعي مغربي خصص أطروحته هو عبد الرحمان طنكول في نهاية سبعينيات القرن الماضي، فإن الأبحاث حولها في الخارج، المنشورة خلال سبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن العشرين، كانت تشير دائما إلى اعتقال عبد اللطيف اللعبي، أي أن الحفاظ على ذاكرة المجلة حية كان مرتبطا بإعلان التضامن. كما أن هذه الدراسات اهتمت أساسا بالجانب الأدبي والثقافي لأنفاس، وغضت الطرف عن منحاها السياسي. أما اليوم، تشرح المؤلفة، فأنفاس لم تعد مندرجة ضمن المحرمات، عقب مرور ثلاثين سنة هي المدة التي لزم انتظارها ليعرف الوضع السياسي انفراجا. بل إن جميع أعدادها، باللغتين، أصبحت متاحة للجميع في موقع المكتبة الوطنية للمملكة. وتصف كنزة الصفريوي وضع أنفاس الجديد هذا، ومعه تناولها بلغة مادحة من طرف الصحافة اليسارية، بل وحتى اليمينية، بالأمر الجيد، ذلك أن المجلة طرحت أسئلة جماعية، في نهاية ستينيات القرن الماضي ومطلع سبعينياته، بإمكانها إضافة الكثير للنقاش السياسي والثقافي الحالي بالمغرب. وعلى رأس هذه الأسئلة والتأملات، توجد بالطبع إشكالية الثقافة الوطنية التي قاربتها المجلة، عبر مضمونها الأدبي ودراساتها، كمشروع سياسي يفترض انخراط المجتمع المغربي برمته. "انطلقت هذه المعركة أولا، تكتب المؤلفة، في حقل القيم الرمزية، قصد اقتراع مشروع مجتمعي حقيقي. تمثل هدف المجلة الأول في إعادة تملك الثقافة الوطنية والانفتاح على كافة أشكال التعبير الفني: الأدب، الفنون التشكيلية، المسرح، السينما، الخ. ولقد قامت المجلة بتشخيص جد سلبي للأوضاع القائمة للثقافة الوطنية، ساعية إلى بعث طفرة جديدة في رحمها، متطلب الجودة... خلاصة القول إن أصحاب المجلة كانوا يطمحون إلى نسق جمالي ورمزي جديد." وإذا كانت استعادة الموروث الثقافي المفكك من قبل الحماية هدفا معلنا، فهو يتضمن في ثناياه مشروعا لمغرب المستقبل، مغرب بمواطنين فعليين يشاركون في النقاش العام، علما أن النتيجة التي ستتمخض عن هذا المشروع تتموقع كليا في الحقل السياسي. في الأصل كانت مجموعة لقاءات تمخضت أنفاس، تكتب كنزة الصفريوي، عن مجموعة لقاءات: "كان مبدعون شباب، وخاصة الشعراء الذين يكتبون بالفرنسية، مشبعين بالرغبة ذاتها في التعريف بأعمالهم. وكانت تحركهم إرادة التميز عن الأجيال السابقة ومنح الحرية كاملة لحساسيتهم الطلائعية في التعبير عن نفسها، الحساسية التي كانوا يعتبرونها مقيدة". أيامها، كان عبد اللطيف اللعبي ومصطفى النيسابوري ومحمد خير الدين قد شرعوا في الكتابة، لكنهم كانوا غاضبين جميعا بسبب العراقيل التي يواجهونها لنشر أعمالهم، إذ لم يكونوا يجدون مكانا لهم تحت سماء المسالك الثقافية في تلك الحقبة، لا في الهيئات الجمعوية ولا في المجلات، علما أن نشر الكتب في مغرب الستينيات كان أمرا مستحيلا. وقد انضافت إلى إحباطات الكتاب معاناة السينمائيين (أحمد البوعناني كان يحلم حينها بإنتاج أفلام مستقلة) والتشكيليين (كان فريد بلكاهية يؤمن بأن شرط تأسيس تيار تشكيلي هو خلق مجموعة محدودة العدد ذات ميولات مشتركة حقيقية، ومحمد المليحي بضرورة قيام علاقة بين التشكيليين والشعراء، ومحمد شبعة بضرورة مصاحبة منجزه الفني بالتأمل الفني). تولدت فكرة تأسيس مجلة أدبية ناطقة باللغة الفرنسية لأول مرة في سنة 1965، بمناسبة لقاء جمع كلا من الشاعر الفرنسي بيير إمانويل (صاحب مبادرة عقد اللقاء)، مصطفى النيسابوري، عبد اللطيف اللعبي، محمد خير الدين وآخرين. وحسم الأمر في لقاء ثان استضافه معرض محمد المليحي بباب الرواح في أكتوبر 1965. يومها اقترح عبد اللطيف اللعبي على التشكيلي إنجاز التصور الفني للمجلة، وهو المشروع الذي سيلتحق به كل من محمد شبعة وفريد بلكاهية من مدرسة الفنون الجميلة بالبيضاء. مجلة مناضلة بدون هيكلة تنظيمية منذ العدد الأول، تكونت نواة صلبة للمجلة من شعراء وتشكيليين أصدقاء، وصارت اجتماعات هيئة التحرير تنعقد مرة في الرباط (في منزل عبد اللطيف وجوسلين اللعبي) ومرة في البيضاء (في مدرسة الفنون الجميلة)، علما أنها ظلت هيئة منفتحة وغير مهيكلة تراتبيا. وقبل صدور العدد الأول، تذكر كنزة الصفريوي، سيغادر محمد خير الدين المغرب للاستقرار بباريس، وهناك سيكون حلقة وصل فريق المجلة مع الأوساط الثقافية الباريسية. أما مصطفى النيسابوري، المقيم في البيضاء، فسيصبح جسر التواصل مع فناني المدينة. وبالنسبة له، فأنفاس مشروع شامل يضمن للتشكيليين مكانتهم كاملة في إطاره. بسرعة، تقول المؤلفة، ستأخذ المجلة الطابع المميز لها إلى حين احتجابها: منبر مناضل وغير مهيكل تنظيميا. لقد ظل محرروها مصرين على عدم تشكيل شركة ناشرة، كما أن مقرها كان هو منزل مديرها عبد اللطيف اللعبي الذي كان مكلفا أيضا بالإيداع القانوني لدى المكتبة الوطنية. وطوال سنوات وجودها السبع، لن تشتغل أنفاس كمؤسسة ذات هدف ربحي. ذلك أن جميع محرريها والمتعاونين معها كانوا متطوعين، مثلما كان كل واحد منهم يدفع مساهمة مالية لإصدار الأعداد، مائة درهم وفق ما يتذكره فريد بلكاهية. شقت أنفاس طريقها دون التوصل بأي دعم من أية جهة بفضل مساهمات كتابها ومبيعاتها، ودون الاعتماد على مداخيل الإشهار الذي لن تتضمنه إلا في عددها الثالث والذي مكث حضوره باهتا (5 صفحات فقط من أصل المائة صفحة التي تشكل مجموع صفحات النسخة الفرنسية). كان ثمن العدد العادي من المجلة درهمين ونصفا، والأعداد المزدوجة أربعة دراهم. وللمقارنة، فقد كانت نسخة لاماليف تباع بدرهمين اثنين. مسارات وتحولات وقطائع ترصد كنزة الصفريوي في الكتاب مراحل مسار أنفاس طوال السبع سنوات التي عاشتها المجلة، متوقفة عند لحظات مفصلية شكلت، بحق، انعطافات كبيرة. ففي الباب الأول، الموسوم ب "أنفاس، تاريخ حركة"، تتوقف الباحثة، بتفصيل طويل لا يطال قارئه الملل رغم ذلك، عند المحطات التي جعلت أنفاس تعرف تحولات جذرية في مسارها، ملؤها الانتقالات والقطائع. فإذا كان العدد الأول بيانا ثقافيا حسب الكاتبة، يبرز خطابا للقطيعة ويعكس فورانا فكريا وآمالا في التحرر، فإن مرحلة 1966- 1969 اتسمت بالخطاب والمنحى الثقافيين للمجلة عبر احتضانها لنخبة ثقافية حالمة ببناء البلاد، ونظرتها المنفتحة والملتزمة بدون هوادة، وكونها قطبا ثقافيا وتعبيرها عن إرادة تملك سلطة رمزية. لكن نهاية هذه المرحلة ستعرف بداية انعطاف أنفاس سياسيا الذي سيجسده بجلاء عددها الخاص "من أجل الثورة الفلسطينية" الصادر في الفصل الثالث من 1969. انعطاف سيقود المجلة إلى اعتناق الراديكالية وتعميق خطها السياسي. مما سيؤدي بها، من نهاية 1969 إلى مطلع 1972، إلى التحول، ومعها نسختها العربية التي ستشرع قي الصدور حينها، إلى منبر للحركة الماركسية اللنينية عبر مكونيها (المنظمة ألف، إلى الأمام لاحقا، والمنظمة باء، 23 مارس لاحقا) يهدف إلى تعبيد الطريق لقيام الثورة وتوفير شروطها الموضوعية والذاتية. لكن المغامرة ستتوقف في يناير 1972، بقوة الحديد والنار، عن طريق الاعتقالات الجماعية والاختطافات والتنكيل بحاملي مشعل أنفاس وحركتها السياسية. وبين 1972 وأكتوبر 1973، ستعود المجلة إلى الحياة، عرضيا، في باريس من طرف أعضاء الحركة المنفيين هناك. أنفاس كمشروع معارضة رغم تحولها شيئا فشيئا إلى منبر لحركة سياسية هي اليسار الجديد أو الجذري، والأدلجة المفرطة التي ستصبح طابعها لاحقا، فإن أنفاس حافظت، منذ البدء وإلى الخنق، على أهداف دافعت عنها باستماتة. ووفق الكاتبة، فهذه الأهداف تحمل ثلاثة عناوين رئيسة: استكمال استقلال البلاد، وبلوغ وضع المواطنة الفعلية وبناء حداثة ذاتية قصد الوصول إلى الكونية. وفي أفق تحقق أهدافها هذه، صاغت المجلة، عبقر كتابها وافتتاحياتها ومساهمات المتعاونين معها الذي كان العديد منهم يضطر للتوقيع بأسماء مستعارة بسبب طول يد الآلة القمعية، العديد من المقترحات ودافعت عنها فكريا وثقافيا وإبداعيا وإيديولوجيا. وقد خلصت كنزة الصفريوي قوة أنفاس الاقتراحية في الخانات التالية: - رد الاعتبار للثقافة الشعبية؛ - الدفاع عن سياسة ثقافية فعلية؛ - إعادة إحياء اللغة الوطنية؛ - الدفاع عن التربية الشعبية؛ - تحمل تاريخ البلاد في شموليته؛ - الانخراط في خندق ثقافة منفتحة على العالم؛ و - الانتصار لجمالية للتحرر. حملت الإيديولوجية إذن آمال حركة أنفاس، لدرجة الإفراط. وهي إيديولوجية التحرر التي كان عنوانها آنذاك الماركسية اللنينية في كل أرجاء المعمور، ومنها المغرب. ولم تكن كنزة الصفريوي قاسية على التجربة حين خلصت في نهاية كتابها إلى مثل هذا الحكم، فعبد اللطيف اللعبي يكتب في ذات السياق في مقدمته للمؤلف: "وهذا لا يعني أن مسار أنفاس، مثله مثل مسار حركة اليسار الجديد الذي كانت المجلة منبرا له خلال مدة من الزمن، خال من الأخطاء أو من الانبهار بالإيديولوجيات التي كانت رائجة في تلك المرحلة. هذه الانزلاقات كانت مشتركة بين كل الشبيبات الثائرة والمثقفين الملتزمين عبر العالم". "ورغم أن تجربة (أنفاس) كانت منحصرة في الأوساط المثقفة والفنية والشباب المناضل، تؤكد الكاتبة، فإنها كانت تتمتع بقوة كبيرة، لدرجة ووجهت معها بقمع يتفق جميع الشهود على أنه تجاوز الحد: لم يكن ثمة فعل يبرر الاتهامات التي وصلت إلى المس بأمن الدولة، ولا اللجوء المنهجي للتعذيب، ولا الأحكام القاسية بالسجن." لكنه، ورغم عنف القمع وشدته، فإن رسالة أنفاس لم تذهب أدراج الرياح، تضيف المؤلفة، بل إنها تسائل مغرب اليوم أيضا، كما أنها ساهمت بقوة في صياغة الأدب والفنون والصحافة الحديثة، علما أن إرثها لرمزي ممتد إلى حدود الآن عبر المجتمع المدني. ومع ذلك، فهناك نقاشات أساسية لم تنتبه لها أنفاس، تستطرد كنزة الصفريوي، وعلى رأسها حقوق المرأة والعلمانية. شهادات يتضمن كتاب كنزة الصفريوي ملحقا يضم ما لا يقل عن 15 حوارا للفاعلين في مسار أنفاس في مختلف مراحلها، أنجزت بين 2002 و2008. وهذه بعض المقتطفات من بعضها. عبد اللطيف اللعبي "أعتقد أن (اختيار اسم أنفاس) كان مرتبطا بمفهومنا للشعر: إنه لا يرتبط فقط بالمكتوب، بل هو أيضا كلام. ليست القصيدة نتاجا لسيروة ثقافية فحسب، بل هي اشتغال جسدي، طاقة، تحضر من بعيد، من ذاكرة فردية وجمعية، تخترق الجسد، تدخله إلى دائرة الفعل وتخرج من الفم. بالطبع، حين يقرأ المرء اليوم نصوص أنفاس، فهو لا يسمع صوت كاتبها. إنها نصوص ذات كتابة جد مكثفة. الاشتغال على اللغة أساسي في تجربة المجلة. لكن ثمة أيضا مقاربة للشفوي، لأنه منغرس في تقليدنا الثقافي الشعبي. لم يكن أدب نخبة معينة يهمنا، كان يبدو لنا جامدا. وبالمقابل، نجد في الثقافة الشعبية نغمية متعددة، سيرورات كانت تلتقي مع اهتماماتنا كشعراء معاصرين..." "... تعرضت هذه التجربة للمنع من طرف الرقابة، لكنهم عجزوا عن حجبها فعليا. هذا هو الرائع في الأمر. خلال مدة طويلة، ظل الصمت سائدا حول أنفاس، صمت طال الجامعات أيضا. ومع ذلك، فهناك أطروحة عبد الرحمان طنكول التي هشمت هذا الصمت. ومنذ ذاك، أعادت أجيال جديدة اكتشاف المجلة، اكتشاف اتسعت دائرته بفعل توفرها على الإنترنيت. أظن أن مجلة أنفاس استبقت العديد من النقاشات التي تشغل المشهد الوطني اليوم." (كريتوي، 15 نونبر 2002) جوسلين اللعبي "كنت أرقن النصوص، أصحح الصفحات، أقوم بالمراسلات وأتابع الاشتراكات... كانت الاشتراكات موزعة على العديد من الدول: فرنسا، ألمانيا، تشيكوسلوفاكيا وجامعات أمريكية كثيرة..." "... ساهمت طوني مارايني كثيرا في المجلة. وباستثنائها، حضر توقيعان أو ثلاثة توقيعات نسائية أخرى في المجلة. وفي ذات الآن، ففي تلك المرحلة لم يكن يبرز إلا عدد قليل من النساء... لم يكن الأمر مقصودا. لو وجدت نساء كن يكتبن، لاقترحن أنفسهن..." (كريتوي، 15 نونبر 2002) مصطفى النيسابوري "... (سؤال: ألم أكن أكتب باللغة العربية؟) ليس هو الأهم. العربية هي لغتي الأصل. وأنا أتقنها جيدا. لقد ترجمت نصوصا من العربية نشرت في كتب أو مجلات، لكن العربية ليست لغة اشتغالي. في المجال الأدبي أساسا، وفي حقل الشعر على وجه الخصوص، لا يبدو لي أن الانتقال من لغة إلى أخرى جدي، حتى لا أقول غير أمين بعض الشيء. لا معنى لهذا الانتقال في حقل الشعر، إلا إذا كان المرء هو بيسوا. كانت ثمة إذن قضية الالتزام السياسي. وبالنسبة لي، لم أكن أرغب في العودة إلى قضايا سبق طرحها في العشريات السابقة: لمن نكتب وماذا نكتب، الخ. دارت بيننا نقاشات طويلة لكنني بقيت منسجما مع نفسي... وبما أن الأمر كان يتعلق بمشروع على مستوى الرؤية أكثر مما كان على مستوى المؤسسة، فمن الطبيعي أن يصل وقت نجد فيه أنفسنا في عنق الزجاجة، مما يحتم إعادة النظر في ما قمنا به سابقا. في هذا يكمن كون المشروع كان ثوريا، محمسا، لكنه كان أيضا مرعبا في بعض جوانبه، وخاصة في جانب مع الانزلاقات المؤدلجة..." (الدارالبيضاء، 24 فبراير 2003) محمد برادة "... اليوم، ومع وجود المسافة الزمنية اللازمة، يظهر أن مجلات أنفاس ومجلة للقصة والمسرح وأقلام، وخصوصا اتحاد كتاب المغرب الذي استعدناه في 1968 والذي نظمنا في إطاره فعاليات كثيرة، أن كل هذا أدى إلى تقليب تربة الأدب المغربي. كنا نصدر مجلة آفاق التي ما زالت تصدر إلى حد الآن. كنا نناقش جميع الإصدارات الأدبية وخلال المؤتمرات... كل هذا هيأ الأرضية وسمح بالانعتاق من وزر نظرة ماضوية معينة، نظرة ما زالت قائمة إلى حدود اليوم، كانت موجودة أساسا في الشرق العربي. لكنه يجب القول إن حركة التجديد كانت موجودة أيضا في الشرق العربي. كانوا يتوفرون هناك على تجربة أكبر، وأثروا على شعرائنا وروائيينا..." (الرباط، ماي 2004) الطاهر بن جلون " (غادرت أنفاس) نظرا لتصور أساسي، تصور أدبي. لم تكن المجلة قد بقيت فضاء للتعبير الأدبي، بل أصبحت مجالا للصراع السياسي والإيديولوجي. وهذا أمر مختلف. ودون إصدار حكم على ما كانت قد آلت إليه، فإنها صارت مختلفة عن مشروع البدايات. لم يكن هناك انسحاب لأننا قمنا بعملية مكاشفة: لقد ابتعدت عنها. لم أكن قد بقيت أشعر أني معني بالمجلة، مثلي مثل النيسابوري كذلك. كان لدينا معا نفس الموقف تقريبا..." (باريس، 13 شتنبر 2004)