في تعليمنا غث وسمين.. ونخبة من أساتذتنا علمت أجيالا كيف تفكر.. وإلى جانب هذه الفئة الجادة، يوجد العكس.. وفي الوزارة الوصية، مسؤولون يدفعون في الاتجاه المعاكس: إنتاج «أشباه مثقفين»! مفارقة غريبة: مجهودات فردية، من أساتذة نزهاء، تنتج الفكر.. وسياسيون يخططون للتجهيل والتكليخ.. وصناعة أشباه مثقفين.. ومناهج دراسية يجب أن يعاد فيها النظر، لتكون في مستوى من علمونا كيف نفكر.. وأن تكف الحكومة عن الاستهتار بالتعليم لعمومي، لكي تكون لنا مدارس غير ميالة إلى تخريج ببغاوات.. كفى من مناهج التلقين والشحن.. المدرسة يجب أن تكون فضاءا للأخلاق والتربية والمعرفة، وتمهيدا لتشغيل مسؤول نزيه.. هذا دور المدرسة.. وكفى من العبث.. لقد شحنونا بالتقاليد، وغرسوا في أعماقنا الفخر والاعتزاز بالتقاليد، فصرنا نعتبرها من الثوابت، غير قابلة للأخذ والرد، وكأن كل ما فيها يفيد ولا يضر.. وجعلوا من التقاليد عشقا لعصور غابرة، ولما في تلك العصور من أحداث، ومن أسماء، وصراعات بين خير وشر.. ونحسب هذا الماضي حافلا بالازدهار والحكمة والعقل والعدل.. ونغفل عن أن تقاليدنا لم تنقل إلينا تراثا متوازنا، سليما.. ليس كل تراثنا معافى.. وتحت اليافطة التراثية، أوصلوا إلينا، في مدارسنا وبيوتنا وشوارعنا وحياتنا العامة، أن كل الخيالات التراثية ما هي إلا صور لنشاطات فكرية وعاطفية وتفاعلية مفيدة.. وأوصلوا إلينا مشاهد لخرافات وشعوذات وسلوكات بعيدة عن العقل، ونحن قد جعلونا نقبلها.. وصرنا نحسب أن العقل ليس مهما لتوازنات وتنمية الأمم، ولتمرير منطق الحياة من جيل إلى جيل، ومن عصر إلى آخر.. وفي حياتنا اليومية، يعلمون طفولتنا كيف تعيش الحاضر، بعقلية الماضي السحيق، وكيف تبتعد عما يصنعه العالم من بشائر الحاضر والمستقبل.. وأصبحنا، أجيالا بعد أجيال، منفصلين عن اليوم والغد.. وعن المدنية العالمية.. وعن المساهمة في الإنتاج الفكري والعلمي والتكنولوجي الدولي، مقتصرين على الاقتناء والاستهلاك، بعيدا عن الإنتاج الحضاري.. نحن مجرد مستهلكين لما يصنعه غيرنا.. وانفصالنا شبه تام عن الحياة المدنية المعاصرة.. انفصال يقود إلى انفصام في شخصيتنا.. نحن متيمون بالماضي، وفي نفس الوقت نتمنى أن نعيش في بلدان ذات قوانين تفصل الغيبيات عن شؤون الحياة البشرية المشتركة.. - الدين لله، والوطن للجميع.. هذه المقولة يترجمونها إلى واقع، خارج حدودنا، في دول الديمقراطية، والحضارة الفكرية، والسلوكات المتخلقة، تحت غطاء قانون مدني لا يفرق بين الناس.. ونحن بعقليتنا المرتبطة وجدانيا بالماضي، وبالتراث الذي فيه ما فيه، والتقاليد المحملة بخزعبلات، فمنفصلون انفصالا عن القانون الدولي الذي لا يفرق بين البشر، والذي يتعامل مع الجميع على قدم المساواة.. وإلى الآن ما زلنا في حالة انفصام.. وحكومتنا المتأسلمة تعلمنا كيف نمجد هذا الانفصام المركب في شخصيتنا.. وإعلامنا السمعي البصري، والورقي، والأنترنيتي، لا يقبل أن يقدم أي منا على الشك السلبي في تقاليدنا المهترئة.. وحتى فئات متعلمة منا تمجد التراث التقليدي حتى وهو لا ينتمي للعصر الذي نحن فيه.. وحكومتنا توظف التقاليد لتكريس إبقاء عقولنا رهينة لماض سحيق لا علاقة له بالحاضر.. تريدنا أن نبقى على قيد الحياة، مجرد كائنات تتنفس، لا أن نعيش بالفكر، وباستقلالية التفكير.. تريدنا تابعين لأزمنة لا علاقة لنا بها، ولا علاقة لها بنا، إلا من حيث التسلسل التاريخي والأركيولوجي.. وها نحن بالوجدان مبرمجون على أغوار تقاليد الآباء والأجداد، وعمليا في واقع العصر الذي نعيشه بالهاتف المحمول، والشبكة العنكبوتية، ونحن مشتتون بين الحقوق والواجبات، تحت قوانين محلية أقل ما يقال فيها: إنها قوانين الغاب! وحكومتنا تنهب حقوقنا، وكأن من الطبيعي أن تكون هي ناهبة، ونحن منهوبون.. عقلية الإقطاع ما زالت هي السائدة.. وفي أحزابنا من يرددون أن الدين هو هكذا.. فوق كل تفكير مستقل.. وكل نقاش.. والويل لمن يجادل.. والطاعة العمياء حتى لحكومة تصلي وتصوم، وفي نفس الوقت هي تستولي على أرضك ورزقك وأحلامك، وحتى حقك في حرية التفكير والتعبير.. وفي مدارسنا، تشحن الحكومة أطفالنا بمعلومات تلو أخرى، وكأن العقل وعاء للشحن، فقط.. إنها سياسة التشحين والتكديس.. ومن في شبابنا يتخرج من الجامعة، تعطاه شهادة تفيد أنه قد حصل على ما يشبه طنا، أو حتى عشرين طنا، من المعلومات.. هي تحسب الشهادة بالكم، لا بالكيف.. بالميزان، لا بالقيمة.. إنها شهادة أطنان.. ويحسب الطالب نفسه مثل شاحنة تحمل كذا أطنان من الإسمنت والأحجار والرمال.. وقلة من الطلبة يفلتون من هذه القاعدة التشحينية، ويعون أن المعلومات لا تعني العافية الفكرية.. الفكر لا يكون سليما إلا باستقلالية التفكير والتأمل والقرار والإنتاج.. بينما شهادات كثيرة، حتى وهي جامعية، هي شهادة معطوبة.. وقد أشار لذلك الملك الراحل الحسن الثاني الذي تحدث في إحدى خطبه عن الشهادة، ووصفها بشيك بلا رصيد.. وفعلا، شهادات، ومنها دكتورات، ما هي إلا شيكات بدون رصيد.. وعندما يفتح شخص حسابا بنكيا، يجب أن يشتغل لكي يكون له رصيد، وإلا فشهادته مجرد ورقة تم تخريجها من مطبعة تجارية.. إن بعد الشهادة، يبدأ التعلم الحقيقي، وهو البحث، كما يفعل فطاحلة من بلادنا في الداخل والخارج.. أولاء يدركون أن الشهادة، مهما كانت كبيرة، لا تفيدهم إلا للدخول من بعض الأبواب.. هي لا تعني حسن وجودة التفكير.. ولا تعني أن المعلومات المحصل عليها، هي نفسها المعرفة.. هناك فرق بين المعلومات والمعرفة.. وما أحوج بلادنا إلى استقلالية عن تقاليد بالية، وتشبث باستقلالية المعرفة.. - أية قيمة مضافة تقدمها لغيرك، وللعلم، يا حامل الشهادة؟ أم تراها فقط مثل شهادة الازدياد؟ أو شهادة السكني؟ الجامعة التي لا تخرج استقلالية التفكير، هي مجرد مطبعة عادية، يديرها مطبعي يحمل اسم «رئيس الجامعة»، تحت وصاية وزير اسمه «وزير التعليم العالي»! - علموا الأجيال الصاعدة كيف تفكر، وكيف تنتج، وكيف تساهم في بناء الوطن، وتوجيه المواطن، لا كيف تكون مجرد ببغاء.. [email protected]