نهضة بركان يبحث بكل ثقة وهدوء عن تأكيد تأهله إلى النهائي من قلب الجزائر    ماراطون الرباط الدولي.. الأوغندي شيلانغات يحرز اللقب والمغربي بوقنطار وصيفا له    اليوم يتعرف "البيجيديون" على أمينهم العام الجديد وسط غياب بارز للرؤية السياسية المستقبلية    18 قتيلا على الأقل و800 جريح في حصيلة جديدة لانفجار المرفأ في إيران    الأمن الوطني يكشف حقيقة فيديو جريمة قتل وهمية بابن أحمد ويوقف المبلغ الكاذب    تصاعد التوتر بين الهند وباكستان بعد قرار قطع المياه    كندا.. قتلى وجرحى إثر دهس سيارة لحشود في مهرجان بفانكوفر    تونس تتحول في عهد قيس سعيد إلى ظل باهت لنموذج سلطوي مأزوم    الجزائر في مواجهة مرآة الحقيقة: أكاذيب الداخل والخارج    مشروع ورش الدار البيضاء البحري يرعب إسبانيا: المغرب يواصل رسم ملامح قوته الصناعية    توقعات أحوال الطقس اليوم الأحد    "العدل" تستعدّ لإصدار نصّ تنظيمي بشأن تطبيق قانون العقوبات البديلة    "لبؤات الفوتسال" يواجهن أنغولا    احتجاج أمام "أفانتي" في المحمدية    جلسة حوارية "ناعمة" تتصفح كتاب "الحرية النسائية" للمؤرخ بوتشيش    حقيقة قتل "سفاح ابن أحمد" لطفلة    برشلونة يحرز لقب كأس إسبانيا    "المرأة البامبارية" تُبرز قهر تندوف    المديني: روايتي الجديدة مجنونة .. فرانسيس بابا المُبادين في غزة    فوزي لقجع نائب أول لرئيس الاتحاد الإفريقي لكرة القدم    الأمن يصيب جانحا بالرصاص بالسمارة    بنكيران يتجنب التعليق على حرمان وفد "حماس" من "التأشيرة" لحضور مؤتمر حزبه    الدوري الماسي: البقالي يحل ثانيا في سباق 3000 متر موانع خلال ملتقى شيامن بالصين    قتلى في انفجار بميناء جنوب إيران    المباراة الوطنية الخامسة عشر لجودة زيت الزيتون البكر الممتازة للموسم الفلاحي 2024/2025    الكلية متعددة التخصصات بالناظورتحتضن يوما دراسيا حول الذكاء الاصطناعي    أدوار جزيئات "المسلات" تبقى مجهولة في جسم الإنسان    أخنوش يمثل أمير المؤمنين جلالة الملك في مراسم جنازة البابا فرانسوا    تتويج 9 صحفيين بالجائزة الوطنية الكبرى للصحافة في المجال الفلاحي والقروي    مناظرة جهوية بأكادير لتشجيع رياضي حضاري    جديد نصر مكري يكشف عن مرحلة إبداعية جديدة في مسيرته الفنية    بواشنطن.. فتاح تبرز جاذبية المغرب كقطب يربط بين إفريقيا وأوروبا والولايات المتحدة    مؤتمر "البيجيدي" ببوزنيقة .. قياديان فلسطينيان يشكران المغرب على الدعم    جيدو المغرب ينال ميداليات بأبيدجان    المغرب يرسّخ مكانته كمركز صناعي إفريقي ويستعد لبناء أكبر حوض لبناء السفن في القارة    برهوم: الشعب المغربي أكد أنه لا يباع ولا يشترى وأن ضميره حي ومواقفه ثابتة من القضية الفلسطينية    بدء مراسم جنازة البابا في الفاتيكان    إطلاق مشروعي المجزرة النموذجية وسوق الجملة الإقليمي بإقليم العرائش    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    البشر يواظبون على مضغ العلكة منذ قرابة 10 آلاف سنة    من تندرارة إلى الناظور.. الجهة الشرقية في قلب خارطة طريق الغاز بالمغرب    تصفية حسابات للسيطرة على "موانئ المخدرات" ببني شيكر.. والدرك يفتح تحقيقات معمقة    تتويج الفائزين في مباريات أحسن رؤوس الماشية ضمن فعاليات المعرض الدولي للفلاحة بالمغرب 2025    ماذا يحدث في بن أحمد؟ جريمة جديدة تثير الرعب وسط الساكنة    بدء مراسم تشييع البابا فرنسيس في الفاتيكان    ولاية أمن الدار البيضاء توضح حقيقة فيديو أربعة تلاميذ مصحوب بتعليقات غير صحيحة    المرتبة 123 عالميا.. الرباط تتعثر في سباق المدن الذكية تحت وطأة أزمة السكن    الجهات تبصِم "سيام 2025" .. منتجات مجالية تعكس تنوّع الفلاحة المغربية    العالم والخبير في علم المناعة منصف السلاوي يقدم بالرباط سيرته الذاتية "الأفق المفتوح.. مسار حياة"    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    متدخلون: الفن والإبداع آخر حصن أمام انهيار الإنسانية في زمن الذكاء الاصطناعي والحروب    الرباط …توقيع ديوان مدن الأحلام للشاعر بوشعيب خلدون بالمعرض الدولي النشر والكتاب    كردية أشجع من دول عربية 3من3    دراسة: النوم المبكر يعزز القدرات العقلية والإدراكية للمراهقين    إصابة الحوامل بفقر الدم قد ترفع خطر إصابة الأجنة بأمراض القلب    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من تأليف إدريس جبري ..قراءة في كتاب: سؤال الحداثة في الخطاب الفلسفي لمحمد عابد الجابري

بداية، أشكر مركز محمد بنسعيد آيت إيدر للأبحاث والدراسات، وجمعية أفق المحمدية، ومركز أجيال 21 للمواطنة والديمقراطية على تنظيم هذا النشاط. أتشرف بإلقاء هذه المداخلة بين يدي المجاهد محمد بنسعيد آيت إيدر. وأنا سعيد بالجلوس إلى جانب أستاذي الدكتور محمد العمري، لأشارك في الاحتفاء بأخي وصديقي وزميلي في مجلة البلاغة وتحليل الخطاب، وهو بالمناسبة المدير المسؤول فيها، الأستاذ ادريس جبري، بمناسبة صدور كتابه: سؤال الحداثة في الخطاب الفلسفي لمحمد عابد الجابري.
هذا الكتاب يسد فراغاً عانت منه المكتبة العربية. فالعمل الرائد الذي قام به المرحوم محمد عابد الجابري ما زال في حاجة إلى قراءة شمولية نسقية وتحليل موضوعي يمارس النقد من أجل البناء والتصحيح، وخلق إمكانات جديدة للتفكير في القضايا والإشكالات التي أثارها مُنجَزُه الفكري، من منطلَق نفس الهم الذي سكنه وحرّكه: همِّ الخروج بهذه الأمة من التخلف والتبعية إلى آفاق النهضة والحداثة دون أن تفقد هُويتها العربية الإسلامية.
وهو ما عمل الأستاذ ادريس جبري على إنجازه في هذا الكتاب. وقد كان واعياً بالنواقص التي شابت معظم الأعمال التي تناولت إنجاز الأستاذ محمد عابد الجابري، والتي اتسمت بالتجزيء والاختزال والانتقاء، ولم »تُلمَّ بالسؤال الناظم لخطابه الفلسفي والفكري الذي أنشأه [...] ولم تَرْقَ بالتالي إلى مستوى مقاصد الخطاب وحصر آليات اشتغاله، وفهم أسباب نزوله«.
وقد تطلب هذا العمل النسقي الذي قام به الأستاذ ادريس جبري قراءة فاهمة لكل أعمال محمد عابد الجابري. وقد ركز فيه على الكتب الأربعة المشكِّلة لمشروعه الفكري: تكوين العقل العربي ? بنية العقل العربي ? العقل السياسي العربي ? العقل الأخلاقي العربي. لكنه كثيراً ما كان يعود إلى كتبه الأخرى، والتي تُعتبر إما ممهدة للمشروع أو امتداداً له، لتعميق الفهم وضبط النسق. وبذلك ضمن لعمله أن يكون ، فعلاً، قراءة نقدية شمولية نسقية للمُنجَز الفكري للأستاذ محمد عابد الجابري.
سأتناول في هذه المداخلة نقطتين:
أولاهما تتعلق بموقف المؤلف من الأستاذ عبد الله العروي والأستاذ طه عبد الرحمن اللذين يحلو له أن ينعتهما ب»المُتاخِمَين الثقافيين» لمحمد عابد الجابري، ويعتبر أنهما يقفان في الخط النقيض لموقفه. وقد صَنّف الأول ضمن ما سمّاه: «الأصولية الحداثية»، باعتبار أنه، أي العروي، يرى أن تحقيق الحداثة لن يتأتى دون القطيعة مع التراث وطي صفحاته، والانتظامِ غير المشروط في قيم الحداثة الغربية ومكتسبات الليبرالية «الأصلية». وصَنّف الثاني ضمن ما سمّاه «الأصولية التراثية»، باعتبار أنه ينزع نحو »نوع من التراث يجد مرجعيته في مجال الخطاب الصوفي، وينتهي عند تأصيل الأصول وتأثيلها من منطلقات تجعله نقيضاً لخطاب الجابري ومطلبه الحداثي، ومرجعاً أثيراً للخطاب التقليدي«.
والموقفان معاً مرفوضان عند المؤلف، باعتبار أنه يقف في صف محمد عابد الجابري الذي يُدرِج خطابه ضمن ما سمّاه: «خطاب إعادة البناء»، والذي يرى أنه لا سبيل لتحقيق حداثة عربية دون القيام بعملية تجديد من الداخل، تعود إلى التراث لقراءته قراءة نقدية تجعله قابلاً للتحديث والتطوير والتجديد، وموصولاً بأسئلة الحاضر وروح العصر، بما يضمن، كما يقول الجابري:»تحديث أصالتنا وتأصيل حداثتنا«. فالحداثة، عنده، مطلبٌ مصيري للوجود العربي. لكن الحداثة التي يطلبها عربية، وهذا المنظور لها يجعل منها ومن التراث وجهين لعملة واحدة. فتحقيقها يتطلب الانطلاق من التراث بروح تاريخية نقدية عقلانية، »فلا وجود، يقول الأستاذ ادريس جبري، لحداثة خارج التراث، ولا معنى لتراث دون حداثة [...] متى كانت الغاية من تفاعلهما تحقيقَ حداثة قومية«4. إن موقف الأستاذ عابد الجابري موقف استراتيجي يهدف إلى «تبيئة» الحداثة وقيمها العقلانية والديمقراطية في التربة العربية من بوابة التراث الإسلامي.
ليس المقام مقام مناقشة للمواقف الثلاثة، بل ما أسعى إليه في هذه المداخلة هو تأكيد صحة تصنيف المؤلف لموقف الأستاذ العروي وطه عبد الرحمن من خلال نصوص لهما تثبت ذلك.
وأبدأ بالأستاذ عبد الله العروي الذي يرى أن »تحقيق الحداثة في بعدها الليبرالي وتَدارُك التأخر [...] طموحٌ يستعصي إنجازه [...] دون الإقدام على القطيعة مع التراث وطي صفحاته«. فهو يقول: »لا بد إذن من امتلاك بداهة جديدة. وهذا لا يكون إلا بالقفز فوق حاجز معرفي، حاجزِ تراكم المعلومات التقليدية. لا يفيد فيها أبداً النقد الجزئي، بل ما يفيد هو طي الصفحة... وهذا ما أسميته ولا أزال أسميه بالقطيعة المنهجية«.
هذه القطيعة مع التراث التي يدعو إليها على صعيد الفكر، يرى أنها حدثت بالفعل في الواقع. من هنا، فالتراث »معطى «ميت» انتهت صلاحيته بانتهاء الظرفية التاريخية والثقافية والحضارية التي أنتجته«. يقول: »رباطنا بالتراث الإسلامي في واقع الأمر قد انقطع نهائيّاً وفي جميع الميادين. وإن الاستمرار الثقافي الذي يخدعنا، لأننا ما زلنا نقرأ القدامى ونؤلف فيهم، إنما هو سراب. وسبب التخلف عندنا هو الغرور بذلك السراب وعدم رؤية الانفصام الواقعي، فيبقى حتماً الذهن العربي مفصولاً عن واقعه، متخلفاً عنه«. وهو يرى أن دراسة التراث تتطلب أولاً القطيعة معه لتتصف بالعلمية والموضوعية. يقول: »لا يستطيع أحد أن يدّعي أنه يدرس التراث دراسة علمية موضوعية إذا بقي هو ? أعني الدارس ? في مستوى ذلك التراث. لا بد له قبل كل شيء أن يعي ضرورة القطيعة وأن يقدم عليها. كم من باحث يتكلم عليها كموضوع، وهو بنفسه غير قادر على تحقيقها«. ولتجاوز الذهنية السلفية يراهن عبد الله العروي على »ثورة ثقافية« تسهّل الانتظام في الحداثة، هذه الثورة من شأنها أن تخلق ذهنية جديدة منقطعة عن العقلية السلفية التراثية الأسطورية والخرافية؛ ذهنيةً حداثية علمية وإنتاجية. يقول: »هذه الثورة لا يقوم بها إلا من حمل أدلوجة عصرية. وهي ثورة للأسف أمامنا وليست وراءنا، إذ لا نتصور ثورة علمية منفصلة عن ثورة ثقافية شاملة؛ عن انتقال ذهني من كون إلى كون«. وأريد أن أؤكد أن هذا الكلام في حق الأستاذ عبد الله العروي يسعى إلى بيان موقفه من التراث (وهو موقف فيه نقاش)، ولا يعني بأي حال من الأحوال الغض منه أو التبخيس من جهده العلمي الذي استفدنا منه جميعاً.
فيما يتعلق بالأستاذ طه عبد الرحمن، فهو يقول معبراً عما سماه ب»مبدإ التفضيل التداولي العام»: »ليس في جميع الأمم، أمة أوتيت من صحة العقيدة وبلاغة اللسان وسلامة العقل مثل ما أوتيت أمة العرب، تفضيلاً من الله«. ويستنبط من هذا المبدإ قواعد من بينها ما سماه «قاعدة الاختيار» التي تقول: »سَلِّم بأن العقيدة التي لا تنبني على أصول الشرع الإسلامي، قولاً وعملاً، كائنة ما كانت، لا تُعَدّ عقيدة مقبولة عند الله عز وجل«. ومن بينها كذلك ما سماه «قاعدة الاتساع» التي تقول: »سَلِّم بأن المعرفة الإسلامية حازت اتساع العقل بطلبها النفع في العلم والصلاح في العمل، ولا نفع في العلم ما لم يقترن بالعمل، ولا صلاح في العمل ما لم يقترن بطلب الآجل«. و»قاعدة الاتباع» التي تقول: »لتكن في توسُّلك بالعقل الوضعي، طلباً للعلم بالغايات الخفية للكون، متَّبِعاً إشارات العقل الشرعي«. ويؤمن طه عبد الرحمن بأن الخاصية المميِّزة للإنسان ليست العقل بل «صالح الأخلاق» (بمعناها الصوفي). يقول: »إن هذه الأسماء الثلاثة: «الإنسانية» و»الرجولة» و»المروءة» [وهي الأسماء التي يرى أنها وُضعت في العربية للدلالة على «الخاصية البشرية»، وهي مراتب للأخلاقية، أدناها «الإنسانية» وأعلاها «الفتوة»] تشترك كلها في إفادة معنى واحد هو: «اكتساب الأخلاق الكريمة»، بحيث إن ما ينبغي أن يميز الكائن البشري عن الكائن الحيواني ? أي ما يحدد هُويته ? ليس هو، كما ساد الاعتقاد، ممارسة العقل ? أو قل «التعقل» ? وإنما ممارسة الخُلق ? أو قل التخلق ? ومتى أخل هذا الكائن بشرط التخلق، سقط إلى رتبة الحيوان أو البهيمة«. والأستاذ طه عبد الرحمن يرفض فكر ابن رشد، ويربطه برفضه للحداثة بشكل عجيب. يقول: »وإذا بدا أنهم اتفقوا على أن ينتصروا لابن رشد على الإطلاق، وأن يكونوا رشديين في فكرهم، فإني اخترت أن لا أنتصر له على هذا الوجه. لأنه لا يمكنني أبداً أن أكون رشديّاً [...] فقد شهد المتقدمون والمتأخرون بأن ابن رشد مُقلِّد لأرسطو [...] ولا ينحصر هذا التقليد في شروحه وتفاسيره وملخصاته وجوامعه [...] لمؤلفات المعلم الأول، بل تعداها إلى ما وضعه من مصنفات من عنده [...] ولا سيما كتبه الثلاثة المشهورة: تهافت التهافت والكشف عن مناهج الأدلة وفصل المقال؛ إذ يكفي القليل من التأمل [...] لكي نتبين كيف أن الكتاب الأول منها هو عبارة عن الدفاع عن التقليد في وجه المعترضين على هذا التقليد، ممثَّلين في شخص الغزالي، وكيف أن الكتاب الثاني هو عبارة عن الدفاع عن التقليد في وجه المتكلمين، ممثَّلين في الأشاعرة، وكيف أن الكتاب الثالث هو عبارة عن الدفاع عن التقليد في وجه رجال الدين ممثَّلين في الفقهاء. والأدهى في دعوة ابن رشد إلى التقليد في المجال الفلسفي هو أن يدعونا إلى تقليد من يعود فكره إلى التاريخ السحيق، إذ تفصله عن أرسطو خمسة عشر قرناً، كأن الفترة الحضارية التي عاشها المسلمون لم تكن قطّ، أو كان عطاؤها الفلسفي لا يُعتبر كليّاً. ولما كان ابن رشد قد وضع أصول التقليد في الفلسفة وبدا أبرز مشرِّع له [...] أمدّ المحدَثين بمشروعية هذا التقليد وسهّل عليهم طريق ممارسته. فإذن لا عجب أن يتهافتوا على الفكر الغربي الحديث، ينقلون ويجترّون - كما تهافت هو على أرسطو [...]- معتقدين أنهم دخلوا عصر الحداثة من بابه الواسع«. وهو يعتبر ابن رشد، كما يقول: »فيلسوفاً غربيّاً بلسان عربي، لا فيلسوفاً عربيّاً بعقل عربي، لذلك يكون قد أمات الفلسفة بالنسبة لنا وأحياها بالنسبة لغيرنا«. ومقابل هذا العداء لابن رشد اتجه إلى الغزالي الذي يعتبره محمد عابد الجابري «زعيم» دائرة العرفان، وهي عنده ? أي الجابري ? أحد المعيقات الجوهرية في كل توجُّه عقلاني ومطلب حداثي، فطه عبد الرحمن يعتبر الغزالي كما يقول: »مفكراً عملاقاً قصُر معاصرونا عن مطاولة عقله الكبير فبَخَسوهُ حقه«. والعلمانية عند طه عبد الرحمن تهمة يستعملها استعمال الأصوليين لها، لنزع الشرعية من خصومهم ومُخالفيهم الرأي. فهو يرى أن الهدف من وراء الدعوة إلى تبني فكر ابن رشد كما يقول: »هو بث روح العلمانية في نفوس المسلمين والعرب، كما هي مبثوثة في الفكر الفلسفي الغربي«. وقريب من «تهمة» العلمانية حضور اليهودية والمسيحية عنده حضورهما عند الأصوليين بشحنة عنصرية عدائية. يقول: »فقد أخذ فلاسفة اليهود يوجِّهون على التدريج عموم الفكر الفلسفي الحديث فيما ينبغي أن يثير من أسئلة واستشكالات وما ينبغي أن ينتهج من مسالك ومقاربات، وحتى ما ينبغي أن يتوصل إليه من أحكام واستنتاجات [...] وأدى كل هذا إلى خلق بيئة فلسفية عامة موجَّهة بمعالم القومية اليهودية [...] وهكذا عدنا نشهد في مجال الفكر الحديث تَشكل فضاء فلسفي يهودي عالمي يندمج فيه غير اليهودي اندماج اليهودي فيه [...] وهذا يعني أن الفلسفة القومية اليهودية استطاعت أن تتستر على أصلها القومي، وتُنزل نفسها رتبةَ الفلسفة العالمية«21. وهو لا يتوانى أن يذكر لائحة فلاسفة لا يرى فيهم سوى أصلهم اليهودي، وأنهم عملوا على تهويد الفلسفة، ومنهم: هيرمان كوهن ? فرويد ? شيلر ? بيرجسون ? لوكاتش ? ليفي ستراوس ? هوسرل ? كاسيرر ? ماركوز ? تشومسكي ? دريدا... ليستخلص أن: »الكونية في الفلسفة أو الفلسفة الكونية التي ينتجها النظام العالمي الجديد ? أو ما أصبح يسمى ب»العالمية في الفلسفة» أو «الفلسفة العالمية» ? ليست على الحقيقة إلا فلسفة قومية مبنية على أصول التراث اليهودي المسخَّر لأغراض سياسية، أو قل فلسفة قومية مبنية على اليهودية المسيَّسة«. هكذا فالذين ينتصرون للحداثة، في تصور طه عبد الرحمن، ومنهم بالطبع محمد عابد الجابري، إنما ينتصرون للتراث اليهودي. من هنا فالمتفلسفون العرب يدورون على نفس الاستشكالات والمسلَّمات التي يتضمنها الفضاء الفلسفي العالمي. »يلزم عن هذا، والكلام لطه عبد الرحمن، أن الإنسان العربي، في نهاية المطاف، يتفلسف بما يخدم عدوه وهو لا يدري«.
ذكرت، في بداية هذا العرض، أن الأستاذ ادريس جبري اصطف إلى جانب محمد عابد الجابري في موقفه من التراث والحداثة. وقد دافع عن هذا الموقف بشدة واستماتة، رافضاً ومنتقداً طروحات «الأصولية الحداثية» ممثَّلة في الأستاذ عبد الله العروي، و»الأصولية التراثية» ممثَّلة في الأستاذ طه عبد الرحمن. غير أن هذا الاصطفاف إلى جانب موقف الأستاذ محمد عابد الجابري والدفاع عنه لم يمنعه من الحفاظ على المسافة التي تمكّنه من التعامل النقدي مع مشروعه. وهذا موضوع النقطة الثانية من هذه المداخلة، والتي سأركّز فيها على الانتقاد الرئيس الذي وجهه الأستاذ ادريس جبري لمشروع الجابري، قصد توضيحه وبيان أبعاده.
فمعلوم أن الأستاذ عابد الجابري قسّم العقل العربي إلى ثلاث دوائر ثقافية ونُظم معرفية هي: البيان الذي يضم النحو واللغة والبلاغة والكلام والفقه والشعر والخطابة... والعرفان الذي يحتوي التصوف والتنجيم والسحر... والبرهان الذي يشتمل على الفلسفة والمنطق والرياضيات والفيزياء... ومعلوم أيضاً أن الأستاذ الجابري خلُص إلى أن »ما آل إليه العقل العربي من أزمة وتصدع راجع بالأساس إلى «استقالة العقل» العربي من مهام التجديد والإبداع لمّا لجأ إلى مصادر غير عقلية وغير برهانية. وتتجسد هذه اللحظة التاريخية بقوة في فكر الغزالي الذي انتصر للعرفان الصوفي [...] فكان المجال البرهاني كمنهج أول ضحاياه«.
وقد اعتبر الأستاذ ادريس جبري أن هذه الدوائر المعرفية جاءت »منغلقة على ذاتها، ومفصولة عن باقي الدوائر، الأمر الذي أدى إلى تكريس الانفصال بينهما وقطع أواصر التفاعل والتكامل بينهما. وأنه إذا كانت دائرة البرهان تمثل قمة العقلانية، وكانت دائرة العرفان تمثل قمة اللاعقلانية [...] فإن دائرة البيان بقيت «معلقة» لا هي طالت قمة العقلانية ولاهي التحقت بسفحها«. ويأخذ الباحث على الأستاذ الجابري انحيازه إلى الدائرة البرهانية »في بعدها «الضيق» وانتصاره «المطلق» للعقل وحده دون غيره«، ويرى أن هذا الانحياز فرض عليه »»التقوقع» داخل هذه الدائرة دون توسيعها لتستوعب مكتسبات دائرة البيان«.
إن الأستاذ ادريس جبري، باعتباره بلاغيّاً، لم يستسغ موقف الجابري من البلاغة، واعتبره ضرراً يطال غايات الجابري من مشروعه. يقول: »وهذا يعني أن سكوت الجابري عن البلاغة والبلاغيين، ودورِ البلاغة في تسيير الشؤون العامة للحاضرة اليونانية، لم يكن سكوتاً محايداً «بريئاً»، بل في هذا السكوت «ضرر مقيم» بالمطلب الديمقراطي وبالحداثة السياسية في الوطن العربي التي يتحيز الباحث إليهما بكل ثقله المعرفي والسياسي والإيديولوجي، ويسعى إليهما. ذلك أنه يتعذر من الناحية التاريخية، وبالأساس من الناحية المبدئية، أن يتحيز المرء إلى الديمقراطية، ويسعى إلى الحداثة السياسية، دون أن يستحضر الخطاب الإقناعي/بلاغة الإقناع، ويقر بحقها في الوجود والتواجد إلى جانب باقي المعارف الأخرى في هذا المجال، وذلك بحكم دورها الفعال في تدبير الخلاف، وتصريف التعدد، وخلق الحوار حول قضايا احتمالية مختلفة، والمشاركة في صنع الرأي العام، ثم الدفاع عن «القيم المجردة: العدالة والصدق والخير والجمال»، بل ودورها في «تغيير الأنظمة والأوضاع القائمة» على حد تعبير بيرلمان وتيتكا«.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.