تأليف إدريس جبري [بتعاون بين مركز محمد بن سعيد أيت إيدر، مركز أجيال 21، وجمعية أفق المحمدية، نظمت قراءة لكتاب: سؤال الحداثة في أعمال محمد عابد الجابري، تأليف إدريس جبري. وذلك يوم 06/07/2013. شارك في القراءة الأساتذة محمد العمري، والحسين بنوهاشم، ثم أعطيت الكلمة للمؤلف الذي تحدث عن ظروف تأليف الكتاب، وتلت ذلك مناقشة وتوقيع للكتاب. وقد ترأس هذه الجلسة أستاذ الفلسفة الدكتور مراد الزوين. وقد احتفل الجمهور المنتخب الذي ملأ قاعة مكتبة دار الثقافة محمد بلعربي العلوي (مدينة المحمدية) بحضور المناضل العتيد المجاهد محمد بنسعيد أيت إيدر. فيما يلي مداخلة الأستاذ محمد العمري] وهذا رابط صور اللقاء: https://www.facebook.com/media/set/?set=a.480744548677915.1073741827.319323278153377&type=1 يعتبر هذا الكتاب (الصادر حديثا عن دار فاليا للطباعة والنشر 2013) حدثا هاما لسببين متفاعلين: أولهما سياقي يتعلق بالوضع السياسي الراهن حيث تَركَز السؤال (سؤال الهوية) على الأصولية والحداثة، في حين تضاءل الجواب فكريا وفلسفيا نتيجة هيمنة الخطاب الشعبوي المسطح. فهو يسترجع لحظة هي أغنى لحظات الحوار الفكري السياسي في المغرب بدون منازع، لحظة السبعينيات والثمانينيات، وما حولهما، (لحظة عزيز لحبابي وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وعلي أمليل ومن سار في دربهم وطه عبد الرحمن ومن سار في دربه...الخ). إنه زمن الفلسفة بامتياز. والسبب الثاني بنيوي يعود إلى طبيعة بناء الكتاب نفسه، فهو كتاب حواري من أوله إلى آخره، تصطدم فيه وجهات نظر مختلفة إلى حدود التعارض. كما أحسن الباحث في اختيارِ اللحظةِ وطريقةِ المعالجة الحوارية أحسن اختيار السؤال. فَ "سؤال الحداثة" هو ضلع الموشور (أو البلور) الذي يمكنك أن ترى منه كل أركان وزوايا مشروع المرحوم محمد عابد الجابري، كما ترى منه الجهات التي احتك بها أو احتكت به درجات من الاحتكاك. وقد هيمن هذا السؤال على مدى مسار طويل مليئ بالعطاء والإنجاز: يمتد من مساهمة المرحوم الجابري في تقديم الفلسفة الغربية والفكر الإسلامي في مقررات الفلسفة للتعليم الثانوي، أواخر ستينيات القرن الماضي، إلى قراءته للقرآن الكريم في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. الحداثة رديفة للعقلانية عند الجابري، هذا هو الخيط الذي أمسك به إدريس جبري القادم من إمبراطورية البلاغة غير متهيب. بقطع النظر عن التقسيم الإجرائي للكتاب من تقديم وأربعة أبواب، فإني أفضل تقسيمه إلى مدخل وقسمين: عالج في المدخل قضيتين جوهريتين: تتعلق أولاهما بمنهج المعالجة، وهو منهج متعدد المداخل يبرهن على مشروعية القراءة البلاغية لعمل فيلسوف مثل الجابري، بل يتجاوز المشروعية إلى الافتقار طلبا لتحقيق رؤية مختلفة (كما نص المؤلف في العنوان)، والثانية استعراض النقود الكثيرة التي وُجهت إلى أعمال الجابري مشروعا وجزئيات، وإبداء الرأي فيها، وهذه مهمة ليست باليسيرة. فالمدخل إشكالي محفز. بعد المدخل، خصص القسم الأول (الباب الأول) لمعالجة علاقة الحداثة بالتراث العربي الإسلامي. وما نعيشه اليوم من ردة كاف وحده لإدراك خطورة سؤال التراث والهوية في حسم قضية الحداثة. لقد كان بوسع الباحث أن يقدم وجهة نظر المرحوم الجابري مستقلة، من خلال نسقها الداخلي، ولكنه اختار الطريق الصعب، فتناولها تناولا حواريا في احتكاكها بمشروعين أخرين: تمثَّل أولهما، وأقدمهما في منحى الحداثة الذي قد يصل إلى حد اعتبار التراث مجرد عائق من عوائق الحداثة، وسماه الباحث "الأصولية الحداثية"، ومنهج القدامة الذي يعتقد إمكانية اجتراح/استنباط تصور وفلسفة من التراث العربي الإسلامي مفارق لتصور الحداثة، وسماه "الأصولية التراثية". ودون الدخول في ترتيب مستويات مفترضة داخل الاتجاهين (الحداثي والأصولي) وتدريجها اعتَبَر مشروع ذ. عبد الله العروي (خاصة في كتابيه الأيديولوجية العربية 1967، والعرب والفكر التاريخي 1973) نموذجا ممثلا للمنحى الأول، ومشروح ذ. طه عبد الرحمن ممثلا للثاني. وقد تطلب منه هذا المسلك الحواري عرض وجهتي نظرهما عرضا كافيا لبيان وجوه تعارضهما مع المنحى الذي سار فيه ذ. محمد عابد الجابري الذي اختار مد الجسور بين التراث والحداثة بطريقة نقدية تقيم حوارا بين مقترحات التراث وأسئلة العصر التي كان شاهدا عليها وفاعلا فيها. (فمن المعروف أن المرحوم الجابري بدأ من عمله في صحافة حزب معارض شغل نصف قرن من الصراع مع النظام القائم، وتدرج داخل سلالمه إلى أن حظي بعضوية أعلى هيئة مسيرة فيه (المكتب السياسي)، في زمن صعب، ليصير في الأخير منظرا للحزب، وآحد أبرز منظري اليسار). لقد رصد إدريس جبري لحظات الاحتكاك القوي بين هذه المشاريع الثلاثة وكيف كان الموقف من التراث موجها لها في مسار تاريخي متدرج: ففي الوقت الذي بادر فيه محمد عابد الجابري إلى نقد موقف العروي من التراث بعد صدور كتابيه المذكورين، جاء الهجوم المعاكس من قبل طه عبد الرحمن على مشروع الجابري في قراءة التراث ونقد العقل العربي. وهذه مفارقة من سخرية الأقدار، فدفاع الجابري عن الحاجة إلى قراءة صفحات التاريخ قبل طيها ردا على النزوع إلى طيها مبدئيا كما يفهم أو يشم من موقف الجابري من السلفية السياسية، لم يكن ليشفع للجابري عند أصحاب التوجه التراثي الخالص الذين يصرون على استنباط نموذج إسلامي لا رائحة فيه للأدوات الحديثة التي يوظفها العروي (العقلانية)، ولا للأهداف الحداثية الديموقراطية التي ينشدها الجابري. ومع تطور النقاش وامتداده في الباب الثاني من الكتاب، ومع الانفتاح على أعمال جديدة للعروي، سيظهر أن الفرق بينه وبين الجابري أقرب إلى أن يكون إجرائيا: فالجابري يرجح العمل البيداغوجي المراعي لأحوال المتلقين الذين يقتسم معهم الساحة النضالية من مناضلين وجمهور عام، في حين يكاد العروي رغم مساهماته في لحظات نضالية في نفس الواجهة يتحرر من هذه الإكراهات، ويتجه إلى المعطيات العلمية وقوانين التاريخ غير مبالٍ بما يمكن تقبله من جرعات في الواقع، فملاءمة الدواء لحال المريض مهمة الطبيب، وليست مهمة البيولوجي الذي يكتفي بالتحليل وتسجيل الخصائص، (ولذلك سبق لي أن شبهت العروي في نزعته التاريخانية بداروين). وقد يلتبس الأمر أحيانا فيتضخم الخلاف، فقد اعتبر أحيانا موقف العروي من السلفية موقفا من التراث، وهذا أمر لا يستقيم، فالسلفية قراءة من قراءات التراث، ولا أدل على ذلك من أن هناك تراثا واحدا وسلفيات عدة. ورغم أن الاعتبارات المذكورة، وما شابهها، حاضرة في عمل الباحث، فإنها لم تكن بالقدر الذي يكبح بعض العبارات والمصطلحات القليلة الحادة التي وصف بها مشروع العروي (من قبيل نعت الأصولية)، وربما استسلم في ذلك لغواية التوازن بين الطرفين القائمين على يمين الجابري ويساره، على نحو ما سماه البلاغيون المشاكلة. وأنا متأكد من إعجابه بالكثير من أعمال العروي، لاسيما الأخيرة منها، فهو لا يكف عن الاستشهاد بها، بل لقد اعتمد آراء العروي المتأخرة في الرد على منتقدي الجابري في الباب الثاني في قضايا حساسة. ولذلك اعتقد أن القارئ الذي لم يجايل مرحلة صعود هذين النجمين في سماء المغرب سيستفيد كثيرا، وسيحزن كثيرا: سيستفيد من حوار فكري قوي وجه الباحث الضوء نحوه فأبرز معالمه بجلاء: سيعرف كيف ارتفع النقاش في المغرب خلال السبعينيات إلى درجة رفيعة عمقا وحرارة... وسيحزن لما آل إليه حال الفكر السياسي في حاضرنا حيث هيمنت الشعبوية والبذاءة والجهل. إن انغماسنا حاليا في الرداءة المدعوة شعبوية تجعل عودتنا إلى ذلك الحوار الذي عرفته السبعينيات وما حولها أمرا إيجابيا. واستكمالا للصورة، وتحقيقا للإنصاف فإني اعتقد أن في ذمة صاحب الكتاب إدريس جبري اليوم وتحت مسؤوليته (العلمية) أن يخرج من لحظة التماس الأولى بين العروي والجابري، ومن حدود سؤال التراث، ليفتح هذا الحوار نحو العقلانية الحداثية في فكر العروي ابتداء من كتابه القيم الذي لم يظهر في هذا الباب وهو أصول الوطنية المغربية Les origines sociales et culturelles du nationalisme marocain (1830–1912) وانتهاء بترجماته الأخيرة وخواطره ويومياته...الخ في ذمته كتيب، ولو صغير، يسجل ما أعرفه من إعجابه بفكر العروي. أما في الاتجاه الآخر، الاتجاه التراثي الخالص، فلا اعتقد أن هناك مزيدا على ما قدم به تصور طه عبد الرحمن. ذلك أن الأستاذ طه سهل مهمة الباحث حين خرج بقدميه، وبمحض إرادته، صراحة لا تلميحا، من مجال الحوار الممكن بين العقلاء: سهل ذلك حين ربط العقلانيةَ والحداثية باليهود مضحيا بابن رشد من أجل دحر الجابري. وهو مستمر، إلى اليوم، في توسيع هذا المنحى المُعادي للحداثة وكونية القيم الإنسانية هروبا من مُستحقات منظومة حقوق الإنسان. من هذه الأفكار تتغذى التيارات الأصولية التي تركز اليوم على نفي صفة الكونية عن حقوق الإنسان، واعتبارها مؤامرة يهودية مسيحية. ولذلك فإن نسبة هذه النزعة إلى العرفان الصوفي والغنوص، حين يتعلق الأمر بطه عبد الرحمن، لا يصف غير الجانب اللاعقلاني فيها، في حين يظل البعد السيكولوجي والاجتماعي في حاجة إلى استكشاف خاص. (وقد عايشت شخصيا لحظات من هذا البعد الثاني، خاصة حين قررت مجلة دراسات سيميائية إجراء حوار مع الرجلين، فتم فعلا الحوار مع طه عبدج الرحمن، ونشر في عدد من أعداد مجلة دراسات سيميائة، بعد حذف فقرات منه ضدا على رغبة الأستاذ طه. وقد تعرفت من خلال مناقشته في شأن حذفها مدى توتره وانفعاله من مجرد ذكر اسم الجابري). وقد سبق لي أن عرضت موقفي من هذا الانحراف الحواري في فكر طه عبد الرحمن في كتابي دائرة الحوار ومزالق العنف، وحذرت من خطورة تبنيها من قبل المتطرفين، وذلك ما وقع. كان المؤلف في هذا الباب منافحا بشراسة عن موقف الأستاذ الجابري. ولا شك أن أي قارئ لا يعرف عن المؤلف غير انتمائه إلى نفس التوجه السياسي الذي عمل فيه الجابري (قبل أن يخلص وجهه للعلم منذ ثلاثة عقود) سيخطئ في تقدير هذا المنحى. غير أن الانتقال إلى الباب الثاني من الكتاب، ومعاينة الطريقة النقدية التي تعامل بها الباحث مع الكثير من آراء الجابري كفيل برد هذا التفسر، خاصة ما يتعلق بتقدير الجابري ل"ألعقل البياني"، حيث أدينت البلاغة تحت هذا المسمى. فجبري يلتقي مع موقف الجابري في القول بضرورة فتح صفحات التاريخ لقراءتها قراءة نقدية من أجل الحداثة نفسها، لأنه يحمل فعلا ذلك الهم النضالي البيداغوجي الذي شغل الجابري، ولكنه إذ يدافع عنه في مستوى هذا الاختيار ينتقده في مستوى التصور والمعالجة والتحليل في الجزء الثاني. ناقش الباحث في القسم الثاني تصور الجابري وهو يعالج التراث العربي الإسلامي، ذلك التصور القائم على تقسيم العقل العربي إلى ثلاثة عقول: برهاني وبياني وعرفاني، وترتيب قيمه من الأعلى (العرفان) إلى الأدنى (البيان) فالأدني (العرفان). وقد توجهت أسئلته ونقده إلى نقطتين أساسيتين: 1 مدى مشروحية إقحام البيان في سؤال العقلانية واللاعقلانية، وترتيب قيمته على هذا التصنيف، فالبلاغي يرى البيان من طبيعة أخرى (الاحتمال)، وله بالتالي نفس القيمة التي للبرهان، والبرهان مفتقر، كما هو معلوم، للبيان. 2 والثاني تقييم التصورات الأخلاقية للعصر الإسلامي الأول التي حكمت المسار الحضاري للعرب والمسلمين. وقد أبدى الباحث في ذلك وأعاد، وأعد لنقده ما يكفي من عدة وعتاد، بما يعرف بالوقوف عليه في مكانه. والذي يمكن أن نفيد به القارئ هو بيان حيثيات هذه القراءة، ومدى إمكانيتها ومشروعيتها. أين يمكن اللقاء بين بلاغي ينتمي لشعبة اللغة العربية، وفيلسوف ينتمي إلى شعبة الفلسفة؟ فإذا عُرف السببُ بطل العجب. لا حاجة إلى الحديث عن موسوعية المرحوم الجابري، وخوضه في كل مناحي التراث والحداثة، .. فهو بحديثه عن البيان عند الجاحظ والجرجاني ومن لف لفهما قد دخل عاصمة البلاغة ببعديها الشعري والحجاجي. وبتركيزه على الخطاب السياسي، والقيم الأخلاقية قد استهدف المجال المثالي لبلاغة الإقناع، أي الخطابية، المدعوة بلاغة جديدة، أو منطقا القيم. أما الباحث إدريس جبري فقد قادته الظروف هو الأخر ليخطو خطوات نحو المجال التداولي الحجاجي، ونحو هموم الفلاسفة ومنظري السياسة. فهو خريج مدرسة التواصل وتحليل الخطاب، مدرسة البلاغة الجديدة، البلاغة التي استرجعت بعدها التداولي الذي فقدته في عصور الانحطاط (في البلاغة الغربية والعربية على حد سواء). هو خريج تلك المدرسة، وهو اليوم امتداد لها بمساهمته في إنشاء مجلة البلاغة وتحليل الخطاب وإدارتها. ومن المفيد أن يعرف القراء أن هذه الوحدة التي أنشئت سنة 1998 بكلية الآداب بفاس كانت تنتمي إلى تخصص السميائيات حسب قانون إنشائها، من جهة، وحسب تركيبة موادها وأساتذتها من جهة أخرى. وللقارئ أن يتصور كيف أن هذه الوحدة كانت تضم مواد فلسفية وفكرية أكثر من موادها الأدبية: 1 المنطق. د.حسان الباهي. وهو صاحب مؤلفات قيمة في الموضوع (من شعبة الفلسفة). 2 علم النفس (التمثلات). د. عنيمي الحاج (من شعبة الفلسفة). 3 السميائيات. ساهم في تدريسها ثلاثة من الأساتذة، منهم د.سعيد بنكراد (أستاذ السميائيات)، 4 اللسانيات. ألقى بعض محاضراتها الأستاذ حنون مبارك. 5 أصول التشريع الإسلامي. درسها الأستاذ الأصولي حمادي إدريس (من شعبة الدراسات الإسلامية). وله مؤلفات عدة في الأصول والعقيدة وتحرير المرأة. 6 الترجمة. تكفل بها الأستاذ محمد الولي. وهو صاحب مؤلفات قيمة أصفية ومترجمة. 7 السرديات. ودرسها الأستاذ رشيد بنحود وهو صاحب مؤفات أصلية ومترجمة في هذا التخصص. 8 وأخيرا: البلاغة. ودرسها العبد الضعيف محمد العمري. هذا فضلا عن مادة الإعلاميات. إن الانتماء إلى هذه المدرسة التي نشأت على هامش مشاريع علمية أخرى (مثل مجلة دراسات أدبية، ومجلة دراسات سيميائية) هو الذي يفسر اختيار إدريس جبري المنتمي لشعبة اللغة العربية لدراسة أعمال الجابري المنتمي إلى شعبة الفلسفة، كما يفسر تعاطفه مع منهجه في ضرورة قراءة التراث من أجل حداثة ممكنة. بل هو الذي سيجعل القارئ يفهم النقد الصريح والمتوالي (لحد التكرار أحيانا) لتصور الجابري وتطبيقاته وأحكامه التي خصص لها هذا الباب الثاني: تصور العقول الثلاثة: البرهاني والبياني والعرفاني. لقد بلورت هذه المعارف كلها في اتجاه بلاغة جديدة، البلاغة باعتبارها علما للخطاب الاحتمالي، علم وراءه فلسفة في النظر إلى الحياة. فحين تلتحق بلاغة التداول والحجاج بالاجتهادات الكثيرة التي وسعت مجال الشعرية والتخييل عامة فإنها تنصب نفسها فلسفة أو علما للخطاب الاحتمالي المؤثر الممتد بين الخطاب البرهاني وبين الهذر. ومن المعروف أن المجال الأثير للخطابية هو الخطاب السياسي، ونظرا إلى أن الحداثة سؤال سياسي والسياسة ملتبسة بالأخلاق فإن إدريس جبري اكتشف أن الفيلسوف دخل منطقة تسمح بمساءلته، كما سبق. وإذ أجدني والبلاغيين الجدد حاضرين في صف الجابري ومساندين له في هذه المراجعة وفي الدفاع عن البلاغة وتخليص منطقها من ثنائية العقلانية واللاعقلانية... أجدني مختلفا معه في حديثه عن القيم الفارسية والكسروية والعربية الأصيلة والإسلامية الخالصة. .. وكما دعوته إلى إعادة قراءة العروي بعيدا عن لجاجة التراث، أدعوه الآن إلى إعادة قراءة أعمال ابن المقع قراءة بنيوية أولا، النص، ولا شيء غير النص، ثم تكوينية ثانيا، على نحو ما نصح به گولدمان. وبعد ذلك يجيب عن هذا السؤال: لماذا قتل ابن المقفع؟ والبداية الطبيعية للجواب هي: من قتله؟ فسر القتل موجود عند القاتل. لا شك أن قارئ هذا القسم الثاني سيستفيد كثيرا من المراجعة المنهاجية في قضية غياب البلاغة، إذ لا سياسة بدون بلاغة، وسيستفيد أيضا من النقاش حول المسألة الأخلاقية، ولكنه سيظل متسائلا: هل هناك شيء فارسي أو عربي خالص في منطقة سحقتها سنابك الغزاة قرونا قبل المسيح.