نحنُ مُبرمَجون على الماضي.. كأنّنا نعبُدُ هذا الماضي.. نَحسبُه أهمَّ من الحاضر.. وحتى من المستقبل.. كأن الماضي ليس من وحداتِ الزّمن.. وما هو إلا كذلك.. مجردُ عصر من العصور.. وليس لا مُقدّسًا.. ولا مُنزّها عن أيّ خطأ.. والدولُ المتحضّرة تُصحّحُ أخطاءَها مع ماضيها.. ولا عيبَ في الاعترافِ بأخطاءٍ ماتت وانتهت.. العيبُ هو أن نبقَى رهينِي أوهامٍ ماضية.. ومن هذا الماضي الذي يُلاحقُنا، يَحدُثُ ما لا نتوقع: وهو أنّ هذا المتطرّف، الذي هو ماضينا، ما زال ساكنًا فينا.. إنّنا لم نتخلّص من انحرافات تُراثنا القديم، ومن أحكامِنا المُسْبَقة على غيرِنا.. وفينا مُتعلّمون كثيرون لم يمنعهم ما تعلّموه، في المدارسِ العُليا والجامعات، من التخلّص من سلبيات أوهامنا التّراثية، وما رسّخته في أذهانِنا الطفولية تقاليدُ مُتوارَثَةٌ أبًا عن جدّ.. التقاليدُ القديمة تتحكمُ فينا.. وما زال بعضُ المتعلّمين يعتبرون أنفسَهم أحسنَ من غيرِهم، وأعقلَ وأفهمَ وأمْهَر.. وفيهم من يحسبُون أنفُسَهم أقربَ إلى "مرضاةِ الله" من غيرِهم.. وأن غيرَهم مأواهُم جهنّم.. وفي مُتعلّمينا من يجهرُون بأنهم أشرفُ الناس وأخْيَرُهم، ما دامُوا هم من نسلِ الجدّ الفُلاني أو العلاّني.. أو من عقيدةِ كذا.. أو قبيلةِ كذا.. أو جنسِ كذا.. أو لُغةِ كذا.. أو البلدِ كذا.. وهذا التّميُّز لا وجودَ له إلا في أوهامِهم.. أوهامٌ قائمةٌ على خُرافات.. وضبابيات.. ولسنا بمنأى عن تدخّلات الماضي السحيقِ في حياتنا اليومية.. وأغلبُنا نُبجّلُ هذا الماضي، ونجعلُه ساكنًا فينا، وكأنهُ خالٍ من العِلاّت.. وهذه الأوهام تُرافقُ أغلبَنا من المهدِ إلى اللحد، وتُوجّهُ سلوكَنا، وتَعامُلاتِنا مع غيرِنا.. ولم تُقدّم لنا المدرسةُ ما يجعلُ فكرَنا مُتحرّرًا من تقاليدِ الماضي، وعقليةِ السابقين.. ما زالت رؤيتُنا إلى المستقبلِ رهينةً بما تربّيْنا عليه من أن فِعالَ أجدادِنا كانت كلُّها صائبة، عاقلة، حكيمة، ولا لُبسَ فيها.. بينما أجدادُنا لم يكونُوا مُنزَّهين عن الخطأ.. بل إنّ أخطاءَهم كثيرة، ومنها إساءتُهم لغيرهم ممّن خالفُوهم الدينَ أو السياسة أو غيرَها... أجدادُنا كانت هم أيضا تحكُمهم مصالح.. وعلى أساسِ المصالح، كانوا يتعاملون مع غيرِهم.. ومن واجبنا نحنُ أن نُصحّح تاريخَنا، ليكونَ مُعافًى من سلبياتٍ في التعاملِ مع الآخرين.. أجدادُنا لم يكُونوا أيضا عاقلين بالشكل الذي نتصوّر.. ولو كانوا عاقلين، لتعاملوا مع الثقافةِ العَقَدية بما لا يتعارضُ مع العقل.. وقد ورثنا منهم سلبياتٍ كثيرة.. ومن ماضينا، نجترّ هذه السلبيات، ونتحاشى الخوضَ في علاجها وتصحيحِها.. وإلى الآن، ونحن مجتمعٌ ذو مُستوياتٍ معرفيةٍ متفاوتة، تُعشّشُ في أوساطنا أفكارٌ خاطئةٌ تقودُنا وتتحكّمُ فينا، واحدًا بعد الآخر، وأجيالاً بعد أجيال.. تُراثُنا الفكري، بما فيه من مُنزلقات، ما زال ساكنًا فينا، تمامًا كما ورثناه من ماضينا السحيق.. الموروثُ الاجتماعي لم يتغيّر، ورُؤيتُنا إلى أنفُسِنا هي هي.. نحسبُ أنفُسَنا أحسنَ الناس.. وغيرَنا أقلّ منّا شأنا ودرايةً ورَويّة.. والتعليمُ قد كرّسَ فينا هذا الأنا، وهذه العُلْويّةَ المرَضيّة، وهذا الغُرورَ بالذات.. ومع تعليمِنا المُختلّ، صارت السياسةُ العمومية تشحنُ أدمغتَنا بثقافةِ الأنا: أنا أفضلُ منك.. ونحنُ أحسنُ منهم، وأَعْلَمُ وأعقَلُ من غيرنا.. وأن الدولَ المتطوّرة ذاتُ أخلاقٍ متدنّية.. وأن أخلاقنا هي الأفضل.. وهكذا نكذبُ على أنفُسنا.. ونتبجّحُ أن الكُلَّ أقلُّ شأنًا منّا.. في كل المجالات.. إنه الغرورُ بما ليس فينا.. نتظاهرُ بما ليس منّا.. ونكذبُ على أنفُسِنا.. ونُصدّقُ حتى أكاذيبَنا.. ونضعُ بينَنا وبين أدمغتِنا حواجزَ نفسية، فلا نستطيعُ التحرُّرَ الذاتي، وبالتالي ما زلنا عاجزين عن تحرير عقُولنا، وعاجزين عن تحقيق استقلاليةِ التفكير، واستقلاليةِ القرار، فنبقى كما كُنّا، تابعين لغيرِنا، بعيدين عن استقلالية العقل، وعن إعمال أي تدبيرٍ عقلانيّ مُستقلّ، مؤهّلٍ لتصحيح انحرافاتِ تُراثنا وتقاليدِنا وتأويلاتِنا الدّينية.. وما زلنا مشلُولين، تابعين لغيرنا، ولتقاليدَ خاطئةٍ تقودُنا إلى ما يُقرّره غيرُنا.. وهذه التّبَعية مكّنت غيرَنا من الإنتاج، ونحنُ نقتني هذا الإنتاج، ونواصلُ تكبيلَ عقُولنا.. ومن فينا يتّسمُ بحُريةِ الفكرِ والقرار، يُعتبَرُ خارجًا عن الجماعة، وعن سياسة البلد، أي هو عدوٌّ للسلطة السياسية والسلطة الدينية، وعن كل منظومةِ الدولة.. وكلُّ الجهات حولَه ترى فيه خارجًا عن الجماعة.. وإذا لم تكُن معنا، فأنتَ ضدّنا.. ويجبُ أن تعرف أنه ممنوعٌ أن تُفكر بطريقة تُوصلُك إلى نتيجةٍ غيرِ ما هي عليه الجماعة.. وممنوعٌ أن تنتقدَ شيئًا في السياسة، وشيئا في الدين.. لا كلامَ لك، في السياسة والدين.. النقدُ ممنوع.. ابْقَ على ما نحنُ فيه.. وعلى كلِّ حالِنا.. وعلى تقاليدِ الآباء والأجداد، وكلِّ الأقدمين، وإلاّ فأنتَ خارجَ الطاعة، تخدمُ جهاتٍ أجنبية، وتابعٌ لدين غيرِ ما كان عليه أجدادُك.. عقليةٌ قبَليةٌ عشائريةٌ لا تحِدْ عنها قيدَ أنمُلة.. وتشبّثْ معنا بما نحن عليه منذ قرون، من فكرٍ واقتناعٍ وتقاليد.. الدولُ المتطوّرة تبيعُنا ما نُريد، ونحن نشتري.. نحنُ نستهلك.. ولا نشتغل.. وهذه من قيمنا.. اللاّشغلُ هو من القيم.. هو أحسنُ ممّن يشتغل.. وهذا أيضا من أخطرِ الأوهام.. ويقومُ الإعلامُ بتضخيمِ هذه الأنا المرَضيةِ فينا.. وتَكْبرُ فينا العيُوب، ونحنُ نحسبُها مَحاسن.. إننا نرى الحياةَ بالمقلُوب.. وفي هذه البيئةِ اللاطبيعية، لا نعرفُ رأسَنا من قدَمِنا.. وتختلطُ فينا كلُّ المفاهيم.. لا الخيرُ واضح.. ولا الشّرُّ واضح.. ولا الطريقُ بينهُما واضح.. ويتكاثرُ بيننا المشعوذُون.. والخُرافاتُ بلا حدُود.. ويتناسلُ السماسرة.. والفسادُ على نسَقٍ سريع.. ويُصدّقُ الناسُ أيَّ شيء.. وأيَّ كلام.. وأيَّ تصوُّر.. والنصيحةُ لا تستقيم.. والحقيقةُ لا تتّضح.. والرؤيةُ تشكُّ في نفسِها.. وتصابُ المراقَبةُ بالشَّلَل.. وتشرَئبُّ أعناقُ بني داعش.. والإرهابُ يتحوّلُ إلى نظامِ حُكم.. الظلمُ هو الحاكم.. والشراسةُ في كل مكان.. والفوضَى في الليل والنهار.. وداعشُ يتناسلُ بيننا.. يتناسلُ في تعليمِنا وفي كلِّ مُجتمعِنا.. فترى الناسَ مُتسامِحين، وعندما يقعُ كلامٌ في الدّين، يَقفزُون من ذواتِهم: "هذا حرام!".. ويقفزُ داعشُ من هُنا وهُناك، يُكفّرُ ميْمَنَةً ومَيْسَرَة.. وتَحْمَرُّ الوجوه.. ويَظهرُ العُنف.. العنفُ يقُودُ الحوار.. ويَسُودُ بيْنَنا داعِش.. داعش.. ساكنٌ فينا! فمتى نتحرّر، من عقليةٍ داعشية؟ [email protected]