"ابْكِ مِثْلَ النِّسَاء مُلْكاً مُضَاعاً لَمْ تُحَافِظْ عَلَيْهِ مِثْلَ الرِّجَال"! مرت خمسة قرون ونيّف على تسليم آخر ملوك بني نصر السلطان أبي عبد الله الصغير، المعروف في الروايات الإسبانية باسم Boabdil، لآخر معاقل العرب في الأندلس، مدينة غرناطة، للملكيْن الإسبانيين فرناندو وإيسابيل المعروفين بتعصّبهما الأعمى؛ وذلك في الثاني من يناير من عام 1492. وتتمّ في هذه التواريخ بهذه المدينة الاحتفالات التقليدية التي تقام بهذه المناسبة من طرف فئة قليلة من الإسبان لتعيد إلى الأذهان ذكرى سقوط الحاضرة التي كانت وما زالت تحتضن بين جنباتها قصر الحمراء، الذي يُعتبر من أجمل المعالم والمآثر التي خلّفها العرب والأمازيغ في الأندلس. ويؤكد الباحثون المتخصّصون في التاريخ الأندلسي من الإسبان وغير الإسبان أن المدينة لم يتمّ استرجاعها أبداً بالقوّة، بل تمّ تسليمها في أجواء سلمية للملكين فرناندو وإيسابيل، علماً أن الاتفاقيات التي أبرمت خلال هذا التسليم لم تُحترم ولم تطبّق أبداً. كما يؤكد المؤرخون أن هؤلاء الذين أبعِدوا وطرِدوا وأخرِجوا من ديارهم لم يكونوا عرباً أو أمازيغ أو يهودا، بل كانوا غرناطيين إسبان مثل سائر سكان غرناطة في ذلك الأوان. وطالب هؤلاء المؤرخون بتضميد جراح الماضي، والتئامها، ونسيانها، لإقامة مزيد من التقارب، والتداني، والتثاقف، والحوار، وإعادة قراءة التاريخ بمنظار جديد لاستخراج العناصر الصّالحة منه لنا جميعاً. المثقفون الإسبان وتسليم غرناطة كيف يرى المثقفون الإسبان الكبار الذين لهم وزنهم في الأوساط الثقافية داخل إسبانيا وخارجها؟ كمثال لما يراه هؤلاء المثقفون، والكتّاب، والشعراء في هذا الخصوص، نذكّر – على سبيل المثال وليس الحصر - بما قالته الكاتبة الإسبانية "ماغدالينا لاَسَالَا" خلافاً لما نُشر عن هذا الموضوع الشّائك، وسال حوله حبر غزير، إن "أبا عبد الله الصّغير على العكس ممّا قيل فيه. وأشيع عنه بخصوص موقفه المُهين بتسليمه مدينة غرناطة، كان رجلاً شجاعاً، لأنه كان يعرف أنه كان بمثابة الحَجرة الأخيرة في طريقٍ كان لا بدّ له أن يُعبّد. كان يعلم بأنه يمثل نهاية حقبة، وبأنه لا يستطيع منافسة أو مواجهة تقدّم جحافل الجيوش القشتالية، وإعداداتها العسكرية الهائلة. كان يعلم أن أيامه معدودة. لقد أنقذ أبو عبد الله الصغير معلمة الحمراء. كان يدرك تمام الإدراك ويعي تمام الوعي كيف أن فرناندو الكاثوليكي الأراغوني المتعنّت لم يكن يقف شيء أو عائق في طريقه، فقد أخضع في جميع غزواته السّابقة مختلفَ المدن التي مرّ بها بعد حصارات دمويّة طويلة. الشيء الوحيد الذي كان في استطاعة أبي عبد الله القيام به في النهاية هو إنقاذ قصر الحمراء من الدمار؛ إذ إنه لو لم يكن قد سلّم مفاتيحَ المدينة في ذلك الموقف المذلّ للملكيْن الكاثوليكيْين واقتحمت جيوشُهما القصور، لمَا كان اليوم في وقتنا الحاضر وجود للحمراء". ويشير صاحب رواية المخطوط القرمزي" عن أبي عبد الله الصغير، الكاتب، والرّوائي الإسباني المعروف "أنطونيو غالا"، في هذا القبيل، إلى أنّه "اكتشف أن أبا عبد الله الصغير قد أصبح في عيون الباحثين، والمؤرّخين، والناس مُخادعاً، مُتخاذلاً جباناً، فهذه كتب التاريخ تصف لنا لحظة التسليم المذلّ فتقول: "وافق السلطان أبو عبد الله الصّغير على شروط التسليم، ولم يكن في مقدوره إلاّ أن يوافق، وتنازل عن آخر معقل للمسلمين بالأندلس، ووقف مع ثلة من فرسانه بسفح جبل الرّيحان، فلمّا مرّ موكبُ الملكيْن (فيرناندو وإسابيل) تقدّم فسلّم لهما مفاتيحَ المدينة، ثم لوى عنانَ جواده مولياً، ووقف من بعيد يودّع مُلكاً ذهب، ومجداً ضاع، وكان هو بأعماله وسوء رأيه سبباً في التعجيل بضياعه". وكانت كلمات أمّه خيرَ ما يمكن أن يوجّه إليه في هذا المقام، فقد رأته يبكي فقالت له: "ابكِ مثلَ النّساء مُلكاً مُضاعاً لم تحافظ عليه مثلَ الرّجال"!، وما زالت الرّبوة، أو الهضبة، أو الأكمة التي ألقي منها آخرَ نظرةٍ على غرناطة وقصر الحمراء ثمّ تنهّد فيها تنهيدة حرّى عميقة حيث عاتبته أمّه، تُسمّى باسمه حتى اليوم Suspiro del Moro!" كما يقول: "في مرحلة بداية إراقة الدّم في إسبانيا، أي في اليوم نفسه 2 يناير من عام 1492، عندما تمّ تسليم غرناطة للملكيْن فرناندو وإيزابيل من طرف آخر ملوك بني الأحمر أبى عبد الله الصّغير، أصبحت إسبانيا فقيرة، ومنعزلة، وهرمة لمدّة قرون، بعد أن أفلت شمس الحضارات السّامية العربية فيها، عندئذٍ انتهى عصرُ العلم، والحِكمة، والفنون، والثقافة الرّفيعة، والذّوق، والتهذيب، وتمّ مزج كلّ ما هو قوطي وروماني بالمعارف العربية البليغة. وكان هؤلاء الذين يطلقون عليه غزواً، لا يدركون أنه كان في الواقع فتحاً ثقافياً أكثر من أيّ شيء آخر، ممّا جعل الاسبانَ يسبقون عصرَ النهضة بحوالي قرنين، إلاّ أنه بعد الثاني من يناير 1492 انتهى كلّ شيء، أفل ذاك الإشعاع، وخبَا ذاك الشّعاع، وتداعت إدارة الاقتصاد، والفلاحة، وكذا الأعمال والأشغال المتواضعة التي كان يقوم بها العرب والأمازيغ فضلاً عن اليهود، وظلت إسبانيا بعد ذلك التاريخ تافهة مكروبة، ومغمومة، ومخذولة، وكان عليها أن تنظر إلى الخارج، ومن ثمّ كان ما يُسمّى ب"الاكتشاف"، أي اكتشاف الأرض البكر التي أطلق عليها بأمريكا". ويضيف "غالا": "مكتبة قصر الحمراء كان أكبر قسط منها يتألف من مكتبة "مدينة الزّهراء" التي كان بها ما ينيف على 600000 مجلّد، وقد أحرقها (الكاردينال سيسنيروس) عام 1501 في مكانٍ يُسمّى "باب الرّملة" بمدينة غرناطة، (أصبح هذا المكان اليوم ساحة تحمل الاسم العربي القديم نفسه)، فاختفت العديد من الوثائق، والمراجع، والمخطوطات، والمظانّ، وأمّهات الكتب النفيسة والغميسة التي أبدعها علماءُ أجلاّء في مختلف فروع المعارف في الأندلس". ويُقال إن الجنود الذين كُلّفوا بالقيام بهذه المهمّة كانوا يُخفون بعضَ هذه المخطوطات أثناء إضرامهم النارَ فيها في أرديتهم لفرط جمالها، وروعتها؛ إذ كان معظمها مكتوباً بماء الذّهب والفضّة، آية في الرّونق والبهاء، ويا لعجائب المُصادفات، وغرائب المتناقضات، ففي المدينة نفسها التي نُقل إليها ما تبقّى همن ذه الذّخائر والنفائس (حوالي 4000 مخطوط) التي نجت من الحرق، وهي مدينة "قلعة النهر" (ألكَالاَ دِي إيناريسْ)، وتمّ إيداعها في الجامعة نفسها التي أسّسها الكاردينال سيسنيروس نفسُه بها، في هذه المدينة سيولد فيما بعد الكاتبُ الإسبانيّ العالميّ المعروف "ميغيل دي سيرفانتيس"، صاحب رواية "دون كيخوته دي لا مانشا" الشّهيرة المُستوحاة في غالبيتها من التراث العربي، كما يؤكّد معظم الدّارسين الثقات في هذا القبيل. الفِرْدَوْسُ المَفْقُود بعد هذه الحضارة الكبرى الفريدة التي ظهرت، ونشأت، وتألّقت، وازدهرت في شبه الجزيرة الإيبيرية التي أنارت دياجي الظلام في أرووبا دهرئذٍ لحقبة زمنيّة امتدت زهاء ثمانية قرون، هل يحقّ لنا ويجوز أن نسمّي اليوم (الأندلس) "بالفردوس المفقود"!؟ فقد سمّوه فردوساً، ولكنّه ليس مفقوداً كما وُهِمُوا؛ إذ يرى البعض أنّه هنا موجود، حاضر الكيان، قائم الذات، إنّه هنا بسِيَرِه وأسواره، وبقاياه وآثاره، ونفائسه وذخائره، إنّه هنا بعاداته وطبائعه، في عوائده وأهوائه، إنّه هنا في البريق المشعّ، في المدائن، والضّيع، والوديان، في اللغة والشّعر، والعلم والأدب، والأمثال السّائرة، والأقوال المأثورة، في لهجة القرويّ النّائي، والفلاّح المغمور، إنّه هنا في الإباء الذي يميّز العربَ الأقحاحَ وإخوانَهم الأمازيغ الصناديد الأحرار الذين أقاموا معاً صرحَ حضارة مشعّة، إنّها هنا في النّخوة، والحزازات القديمة، التي ما تزال تفعل في ذويها فعلَ العُجْب! الأندلس.. أيُّ سرّ أنت كائن فينا وبيننا؟ أيّ سحر أنت تائه في طيّات الألسن، ومخادع القلوب؟ يتساءلون وقد علت جباهَهم علائمُ الشّدوه، وأماراتُ السُّؤْل، كيف حدث ذلك؟ كيف استطاعت سنابكُ خيولهم المُسوّمة بقيادة طارق المغوار أن تطأ ثرى هذه الأرض البكر، وأن تُقام واحدة من أكبر الحضارات الإنسانية ازدهاراً وتألّقا، وسطوعاً وتوهّجا أشعّت على العالم المعروف في ذلك الإبّان؟ يتساءلون كيف تسنّى لهؤلاء القوم الغُبْر الوِشاح، البُداةُ الجُفاةُ، أن يضطلعوا بكلّ ذلك؟ وتزداد حيرتُهم، ويتفاقم ذهولُهم، كيف دانت لهم الدّنيا، ودالت لهم الدّول؟ كيف أمكن لهم أن يروّعوا كسرى في إيوانه. وأن يجعلوا الرّومانَ يفرّون تحت وخزات الرّماح، ووطأة السلاح، وثقل الصّفاح؟ إنّهم ليسوا قوماً قساةً، عتاةً، جفاةً، كما وُهِموا، بل إنهم مُبشّرون بحضارة وعلم وتاريخ وعمران. هذه الجزيرة المحروسة التي هاموا بعقيانها هياماً، ثمّ سرعان ما خبت الضّياء، وجفّت المآقي، هذه الواسطة في عقدٍ من جُمان، مُرصّعة في جيد الزّمان، كيف وهنت قلادتها؟ وتناثرت حبّاتُها، وانفرط عقدُها؟ وتحوّلت إلى عَبَرات حرّى تبكي العهدَ والجدَّ والدار؟ هكذا كانت البداية ثمّ أفلت الشمسُ بدون شروق قريب، وغاض النّبعُ الرّقراق، ولم يبق سوى وميض خافت نتلمّسه هنا وهناك، سرعان ما تحوّل إلى بريق مشع ّقويّ نفّاّذ، تراه في هذه الأعين النّجل، والحواجب المزجّجة، ذات الملامح العربية، والأمازيغيّة الأصيلة، والمولّدة، والقسمات الدقيقة، التي تحملك في رمشة عين إلى أعماق الجزيرة الأولى، أو إلى جنان الرُّصافة والجِسر، أو تتيه بك في غياهب المسافات السّرمدية اللاّمرئية. الأندلس.. إنّها ما زالت هنا في العادات المشرقيّة والمغاربية الجميلة، في رعشات الأنامل، وانحناءاتها، في ضربات الأكفّ والأرجل المتوالية المتناغمة التي تذكّرك بمرّاكش الحمراء، وبجرش والبتراء، وبعروس البقاع زحلة الأَرز، وحماة القاهرة، وبغداد الهوى.. إنها هنا في هذه الأقراط العربية المدلاّة عبر جيد في بياض النّرجس، بضّ ناصع، ذي ذوائب فاحمة، إنّها شامخة في قصر الحمراء، وجنّة العريف، في الزخارف والأقواس، في النقوش المرصّعة للمرمر المَوْضُون، والرّخام المَسْنُون، وإفريز الخشب المحفور، إنها في نوافير المياه، والبِرَك والسّواقي، في الموشّحات والأزجال والخَرْجات الأندلسية الرّخيمة، إنها هنا في هذه الرّاح التي لا تلبث أن تتحوّل إلى روح متلألئة حيّة قائمة محاورة! أيّها النائي القريب، إنهم يحنّون إليك، ويتغنّون بك وباسمك، قَلَوْك زمناً، ولكنّهم سرعان ما فاقوا من سُباتهم، وثابوا إلى رشدهم، وتخلّوا عن نكرانهم، فراحوا يشيّدون لك الأبنيةَ والمجسّمات والتماثيل المخلّدة، ولكنّهم في خَبَل من أمرهم، ذلك أن ربيعك دائم متجدّد، لا تراه الأعين، ولا ترمقه إلاّ في الحدائق والجنان، أو على ضفاف الأنهار المنسكبة، والجداول المنسابة، بل إنّها في النغمات والآهات، والخُطى، والعيون، والحواريّات، إنّها ربيع طلق ضاحك، باسم لا يعقبه صيف قائظ، بل يتولّد منه ربيع تلو ربيع! جيراننا (الإسبان) يَتَأورَبُونَ أحياناً أكثر من الأوروبيّين أنفسهم! وأحياناً أخرى تشطّ بهم الأحلام بعيداً بعيداً ولكنّهم في كلتا الحالتين أبدا يظلّون ملتصقين بأرضهم التي تعاقبت عليها حضارات، يظلّون فخورين بأجناسهم، مزهوّين بمحتدهم، وتاريخهم الحافل، مشدودين إلى عاداتهم الدّخيلة، وإلى لغتهم المزدوجة، وتقاليدهم العريقة، قالها "ماتشادو"، ولوركا"، و"ألبرتي"، و"دامسو"، و"أليكسندري"، مثلما قالها قبلهم "ابن زيدون"، و"ابن هانئ"، و"ابن عبد ربّه"، "ابن زُمرك"، و"ابن حمديس"، و"ابن الخطيب"، و"ابن سهل"، و"ابن حزم"، وسواهم. هَدِيلُ الحَمَام يضحكون منك وعليك، وهم فيك ومنك وإليك، ينكرون طبائعَك وعوائدَك، وهم الذائدون عنها. هنا حطّ الشّاعرُ يوماً رحله، بعد أن هجر القصرَ وترفَه، والشّعرَ ولغوَه، بعد أن بنى معبدا للصّلاة، فكانت له جنّة الخلد، هنا في هذه الحياة الدّنيا قبل الآخرة، بعد أن خلّف وراء ظهره ثماني من الرّواسى الرّاسخات. إنها تعدّ عدّا، ضاربة جذورها في عمق التاريخ، تعلو في عنان السّماء، ألوانها مزركشة زاهية يعانق قوسُ قزحها الآفاقَ البعيدةَ، معلنة للملأ أجمعين أنّها ما زالت ها هنا قائمة الذات، ثابتة، في الصّور والمنقوشات، في الدّور والقصور، في الحمراء، وجنّة العريف، وبرج الذهب، والخيرالدا، والجعفريّة، والظفرة، وفي القلاع الحرّة، والحصون المنيعة، وفي الرّقصات والعيون، وفي العقل واللسان والجَنان. إنّها ها هنا تَسْلُبُ لبّ العاشقين، وتروي صدى وأوامَ الهائمين، من دوحها انطلق "بحزم" هديلُ الحَمامٍ نائحاً ذات مساء، حزيناً، باكياً، شاكياً، يلقّن المحبّينَ والعاشقينَ أصولَ العشق، والهيام، والهوى، والحبّ، والصّبابة والجوى، إنّهم لا يمقتونك، بل معجبون، إنهم يفرّون منك إليك، يغيبون بك عنك وإليك، فيظنّون أنهم أنت! الأندلس هذا النّهر الجارف المنهمر، من يستطيع الغوصَ فيه، أو الدنوّ منه لآب إلى النّبع الأوّل، هذا الوادي الرّقراق الذي شقّ النّسيمُ عليه يوما جيبَ قميصه، فانسابَ من شطّيه يطلب ثارَه، فتضاحكت ورقُ الحمام بدوحها هزءاً، فضمّ من الحياء إزارَه. الأندلس هذه الفاكهة المحرّمة المعلقة في شجرة ليس لها جدع قائم، من يطولها يطول الخلد، وتعود إليه الحياة في ثوب قشيب جديد متجدّد. هذه الأغرودة الحلوة الحالمة التي تنطلق عند الأصيل من حنجرة رخيمة (لفلاّح منكوب) "الفْلاَمِنْكُو"! على ضفاف الآهات، ورموش العيون المُسبلة، تتمازج في رونق بديع، وبهاء رائع مع ترانيم وتغاريد الطيور، ووجه المليح مشعّ مثل الثريّا، والسّاقي المؤدّب يسقي بالأواني البندقية، والعيدان تصنع تواشي منوّعة، فلا يملّ السّمعُ منها ولا يشبع، ولا يكلّ اللحظ ولا يدمع، ولا يفلّ القلب منها ولا يشفع، هذا الحسنُ الباهرُ، والجمالُ الظاهرُ، هذه الأنثى الهائمة المخصاب التي تغنّى بمفاتنها الشّعراء، وصدح ببهائها المنشدون، فجاءت هاشّة، باشّة، فرحة، جذلة، كغادة فاتنة أو كغجريّة حسناء حالمة، يسافر شَعْرُها الحريريّ الفاحم المجنون في كلّ الدنيا، ثمّ سرعان ما يعود لينسدل على الخصر حُسْنَا وبهاءً...! صدقتَ أيها الشّاعر العاشق الولهان، صدقت أيها الشّاعر المكلوم، وصدق حبّك للأرض لتي نعتوها بالفردوس، وللمرأة الولود، كيف لا وحولك ماءٌ وظلٌ وأنهارٌ وأشجارُ...! أبو عبد الله الصّغير شكراً لك أيّها الشّاعر الرّاوي المتيّم، المقتفي لآثار هذا السلطان سيّئ الطّالع أبي عبد الله الصّغير، كما يقتفي الشاعر المعنّى "بابلو نيرودا" لآثار أرْجُل النَّوارس على الرّمال، في الشطآن النائية، شعرك غذاء للنّفس، والعقل، والوجدان معاً، نصّك سجّاد طائر، وسردك زورق من ورق بلّوري ساحر، ينقل قارئه في رحلة ممتعة إلى عمق التاريخ، عبر قارب اسمه اللغة في أرقى مظاهرها، وأبهى حللها، لتطير أو تطوف به على ثبج الزّمن السّرمد، وغياهب المسافات، مهما شطّ المزار، أو بعدت الديار، جَلَمُكَ الأعلى يراعٌ أو بَوْصلة بيد ربّان يجيد فنّ الإبحار في مباهج اللغة وشواردها، أشرعته كلماتك الموفية، وحيزومه أسلوبك السّلس، الذي يأخذ بمجامع القلوب، بإجادتك فنّ الغَوْص، أخرجتَ لنا تلك الدّرر النفيسة، والصدفات المتلألئة التي ترصّع فلكك بالقوافي الغرّ، والقصائد الموشيّة. تتبع خطوات أبي عبد الله الصغير، باحثاً عنه في سديم الليالي، والدياجي الحالكات بمصباح ديوجين لرصد آهاتِه وزفراتِه، وتسجيل حسراته وتنهيداته، رحلتك متعة وفائدة وهي عبرة لمن يعتبر، فالعبرة أمّ الخبرة، والتاريخ ما زال معلمنا الأوّل والأخير، فهل من مصغ ٍ، وهل من متّعظٍ، "كفّ إذن عن قراءة التاريخ، واقرأ الحاضرَ لترى كيف تعود إليك الصّور، وتسترجع المعاني ما رسب في قعرها من ثمالات". أبوعبد الله الصغير صَغُرَ في أعين الناس، ولكنّه كبر في أعيننا بسردك البليغ الذي ينبض حياةً وحيويّةً، ويتدفّق خصوبةً ونضرةً، لقد ارتقيت بأنفاسنا بحلو كلامك، وطلاوة بيانك، ولكن سرعان ما انهدّت قلوبنا مع تنهيدة أبي عبد الله، لحظة التسليم المذلة، على الرّبوة إيّاها التي ما زالت تحمل اسمَه، والتي ظلت وصمةَ عار مرسومة على كلّ جبين، بتنازله المخزي عن درّة المدن، وبهجة الحواضر غرناطة الحمراء، آخر المعاقل الأندلسية في هذا الفردوس المأسوف عليه، إنّه: "وترٌ تحطّم أو تمزّق في قيثارة جنح الليل"... و"جفّت مآقي دموعنا على غرناطة الأولى، وبكينا أخواتها اللاّحقات...!"؛ "فالحضارات دُوَلُ... والسؤدد برهة". صدقتَ، وأبلغتَ، وأقنعتَ، وأصبتَ يا أيّها الشاعر الماجد المكلوم...! الشّاعر الهائم المُتيّم شاعر الحمراء ابن زُمْرُك الهائم والمتيّم في الأندلس، وماضي الأندلس، وشعر الأندلس، وأدب الأندلس، وموسيقي الأندلس، وتاريخ الأندلس، وعمران الاندلس، ومعمار الأندلس، ورفاهية وترف الأندلس، وقصور، وحصون الأندلس، خطّ على حاشية مرمر مَسنون، وذهب مَوضون ببهو الأسود هذه الأبيات التي يقول فيها: يذوبُ لُجيْن سالَ بين جواهر / غدا مثله في الحُسْن أبيضَ صافيَا تشابه جارٍ للعيون بجامد / فلم ندر أيّا منهما كان جاريَا ألم تر أن الماءَ يجرى بصفحها / ولكنّها سدّت عليه المجاريَا كمثل محبٍّ فاضَ بالدّمع جفنُه / وغِيضَ ذاك الدّمعُ إذ خافَ واشيَا قال الشاعر الأندلسي الغرناطي ذائع الصّيت "فيدريكو غارسيا لوركا": "بضياع الأندلس ضاعت حضارة رائعة، لا نظير لها، ضاع الشّعر، والموسيقى، ضاعت علوم الفلك، ضاعت الفنون المعمارية، وضاعت حياة مترفة فريدة، لا مثيل لكلّ ذلك في العالم أجمع". وقال "بلاسكو إبانييز": "كانت الأندلس في ذلك العهد كالولايات المتّحدة الأمريكية، يعيش فيها المسلم، والمسيحي، واليهودي بحرية تامّة ومن غير تعصّب، وعندما كانت دول أوروبا تتطاحن، وتتقاتل في حروب دينية وإقليمية فيما بينها، كان المسلمون والمسيحيون واليهود يعيشون في سلام كتلةً واحدة، وأمّة واحدة، فزاد سكان البلاد، وارتقى فيها الفنّ، وازدهرت العلوم، وأسّست الجامعات. سَكَنَ ملوكُها القصورَ، وعاش شعبُها في الرّخاء، بينما كان ملوك بلدان الشمال يبيتون في قلاعٍ صخريّة سوداء، وكانت شعوبها تعيش في أحقر المنازل". *عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا- كولومبيا