يوم 2 يناير من كلّ عام الذي يريد الحزب الإسباني اليميني الشوفيني المُتطرّف (بوكس) أن يجعل منه عيداً وطنياً للأندلس (أنظر مقالي: "الحزب الإسباني "بوكس".. عنقاء التطرّف تنبعث من رماد السّياسة" في "هسبريس" بتاريخ الخميس 03 يناير 2019)، يقول عنه الكاتب الإسباني المعروف أنطونيُوغَالاَ: "في 2 يناير 1492، عندما تمّ تسليم غرناطة للملكيْن الكاثوليكييْن فرناندو وإيزابيل، أيّ في مرحلة بداية إراقة الدم في شبه الجزيرة الإيبيرية، أصبحت إسبانيا فقيرة ومنعزلة لمدة قرون. وأصبحت الدول المسيحية بها هرمة بعد أن أفلت شمس الحضارات السامية العربية والإسلامية فيها.عندئذ انتهى عصر العلم والحكمة والفنون والثقافة الرفيعة والذوق والتهذيب، وتمّ مزج كل ما هو قوطي وإسلامي المحمّل بكلّ ما هو ناعم ورقيق، وبالمعارف الإسلامية البليغة. وكان هؤلاء الذين يطلقون عليه غزواً لا يدركون أنه كان في الواقع فتحاً ثقافياً أكثر من أيّ شيء آخر، ممّا جعل الإسبان يسبقون عصر النهضة بحوالي قرنين، إلاّ أنه بعد الثاني من يناير 1492 انتهى كلّ شيء، أفل ذاك الإشعاع، وخبا ذاك الشّعاع، وإدارة الاقتصاد والفلاحة، والهندسة والمعمار، وكذا الأعمال والأشغال المتواضعة التي كان يقوم بها المسلمون من عرب وأمازيغ، فضلاً عن اليهود، وظلت إسبانيا بعد ذلك التاريخ تافهة مكروبة ومغمومة ومخذولة، وكان عليها أن تنظر إلى الخارج، ومن ثمّ كان ما يُسمىّ باكتشاف العالم الجديد في تلك السنة المشؤومة نفسها". ابكِ مثل النّساء مُلكاً مُضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرّجال! ويضيف غالا: "أن مكتبة قصر الحمراء كان أكبر قسط منها يتألف من مكتبة «مدينة الزهراء» التي كان بها ما ينيف على 600.000 مجلد، وقد أحرقها أسقف طليطلة الكاردينال سيسنيروس عام 1501 في مكان يسمى «باب الرملة» بمدينة غرناطة، أصبح هذا المكان اليوم ساحة تحمل اسمها العربي القديم نفسه، فاختفى العديد من الوثائق والمخطوطات والمظان وأمهات الكتب النفيسة والغميسة التي أبدعها علماء أجلاء في مختلف فروع المعارف في الأندلس. ويقال إن الجنود الذين كلفوا بالقيام بهذه المهمة كانوا يخفون بعض هذه المخطوطات أثناء إضرامهم النار فيها، في أرديتهم لفرط جمالها وروعتها؛ إذ كان معظمها مكتوبا بماء الذهب والفضة، آية في الرونق والبهاء، ويا لعجائب المصادفات وغرائب المتناقضات، ففي المدينة نفسها التي نقل إليها ما تبقى من هذه الذخائر والنفائس (حوالي 4000 مخطوطة) التي نجت من الحرق، وهي مدينة «قلعة النهر» (ألكلا دي إيناريس) وتم إيداعها في الجامعة نفسها التي أسسها الكاردينال سيسنيروس نفسه بها، في هذه المدينة سيولد في ما بعد الكاتب الإسباني العالمي المعروف ميغيل دي سيرفانتيس صاحب رواية «دون كيشوت» الشهيرة المستوحاة في غالبيتها من التراث العربي والإسلامي كذلك، كما يؤكد معظم الدارسين الثقات في هذا القبيل". ويشير «غالا» إلى أنه اكتشف أن أبا عبد الله الصغير أصبح في عيون الباحثين والمؤرخين والناس مخادعا متخاذلا جبانا، فهذه كتب التاريخ تصف لنا لحظة التسليم المذل فتقول: "وافق المسلمون على شروط التسليم، ولم يكن في مقدورهم إلا أن يوافقوا وتنازل السلطان أبو عبد الله عن آخر معقل للمسلمين بالأندلس، ووقف مع ثلة من فرسانه بسفح جبل الريحان، فلما مر موكب الملكين الكاثوليكيين (فيرناندو وإسابيل) تقدم فسلم مفاتيح المدينة، ثم لوى عنان جواده موليا، ووقف من بعيد يودع ملكا ذهب، ومجدا ضاع، وكان هو بأعماله وسوء رأيه سببا في التعجيل بضياعه". وكانت كلمات أمه خير ما يمكن أن يوجه إليه في هذا المقام، فقد رأته يبكي فقالت له: "ابك مثل النساء ملكا مضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال"! وما زالت الرابية أو الأكمة التي ألقى منها آخر نظرة على غرناطة وقصر الحمراء ثم تنهد فيها تنهيدة حرى عميقة حيث عاتبته أمه، تسمى باسمه حتى اليوم. الفردوس المفقود الحديث عن الأندلس حديث عن الشعر والنثر والحنين والأنين والشوق والتاريخ والأدب والفكر والفلسفة، والفلك والرياضيات، والخرجات والموشحات والوصلات والزجل والخجل والوجل، والعمران والمعمار، والمرمر الموضون والرخام المسنون والدر المكنون، والعيون المسبلة والحواجب المزججة والأسى والأسف والآه التي سرعان ما تغدو آهات… الحديث عن الأندلس حديث عن الحب والصب والصبابة والجوى والهوى، عن الزمن الذي مضى وانقضى، عن خلجات النفوس المكلومة وزفرات القلوب العاشقة الوالهة الولهانة والمعناة، عند الحديث عن الأندلس عن ذاك الحلم الضائع بين ثنايا الزمن وطياته، الذي تبعثر وتبخر واندثر مع دياجي الفجر يطفو على سطح ثبج الذاكرة دائما مصطلح "الفردوس المفقود". هذا النعت الذي ما فتئ ينثال على شفاهنا، ويترى نصب أعيننا، ويتكرر على مسامعنا، ويندس في العديد من النصوص والمراجع والمصادر والمظان والوثائق والمخطوطات والمقالات والدراسات والقصص والروايات والأشعار والكتب والتآليف والبحوث والأطروحات التي كتبت عن هذا الصقع الأندلسي القريب–البعيد. في هذه الجزيرة، أو شبه الجزيرة المحروسة التي ما انفكت ذكراها تتغلغل في أعمق أعماقنا، لصلاتها الوثقى، وعلاقتها المتينة وأواصرها العرقية العريقة، الإثنية منها والروحية والدينية والتاريخية والجغرافية، والفكرية والثقافية، واللغوية والشعرية والفنية والعاطفية، بتاريخنا وثقافتنا ووجداننا، وبعالمنا العربي والإسلامي مترامي الأطراف على امتداد التاريخ وطول الزمن وفضاء المسافات. نص نثري يتدثر بدفء الشعر، وينتعش برقته، أو شعر نثري يتسربل بروعة السرد ويزهو برشاقته، تغلفهما لوعة الحنين وصدى الأنين، يتعانقان في تقارب وتداخل وتناوش وتدان وتلاحم أبدي، في سديم الزمن، وبعد المسافات وثبج الذكريات... يناغيان ذكرى "الفردوس المفقود" الذي غدا حلما جاد به غيث همى في زمان وصل بالأندلس، لم يكن وصله إلا حلما، في الكرى، أو خلسة المختلس! فهل يحق لنا ويجوز أن نسمي الأندلس ب"الفردوس المفقود"؟ فقد سمّوه فردوساً، ولكنه ليس مفقوداً كما وُهموا، بل إنه هنا موجود، حاضر الكيان، قائم الذات، إنه هنا بسيره وأسواره وبقاياه وآثاره ونفائسه وذخائره، إنه هنا بعاداته وطبائعه، في عوائده وأهوائه، إنه هنا في البريق المشع، في المدائن والضيع والوديان، في اللغة والشعر والعلم والأدب، في لهجة القروي النائي، والفلاح المغمور، إنه هنا في الإباء الذي يميز العرب الأقحاح وإخوانهم في الله والدين والوطن والمصير، الأمازيغ الصناديد الأحرار الذين أقاموا معا صرح حضارة مشعة أنارت دياجي الظلام في أوروبا دهرئذ، إنها هنا في النخوة والإباء والحزازات القديمة، التي ما تزال تفعل في ذويها فعل العجب! الأندلس.. أيّ سرٍّ أنت كائن فينا وبيننا؟ أي سحر أنت تائه في طيات الألسن ومخادع القلوب؟ يتساءلون وقد علت جباههم علائم الدهشة، وأمارات السؤل، كيف حدث ذلك؟ كيف استطاعت سنابك خيولهم المسومة بقيادة طارق الفاتح، رحمه الله، أن تطأ ثرى هذه الأرض البكر وأن تقام واحدة من أكبر الحضارات الإنسانية ازدهارا وتألقا وسطوعا وتوهجا أشعت على العالم المعروف في ذلك الإبان؟ يتساءلون كيف تسنىّ لهؤلاء القوم الغبر الوشاح، البداة الجفاة من عرب وأمازيغ أن يضطلعوا بكل ذلك؟ وتزداد حيرتهم ويتفاقم ذهولهم، كيف دانت لهم الدنيا ودالت لهم الدول؟ كيف أمكن لهم أن يروعوا كسرى في إيوانه؟ وأن يجعلوا الرومان يفرون تحت وخزات الرماح ووطأة السلاح وثقل الصفاح؟ إنهم ليسوا قوما قساة، عتاة، جفاة، كما وهموا، بل إنهم قوم مبشرون بحضارة وعلم وتاريخ وعمران. هذه الجزيرة المحروسة التي هاموا بعقيانها هياما، ثم سرعان ما خبت الضياء، وجفت المآقي، هذه الواسطة في عقد من جمان، مرصعة في جيد الزمان، كيف وهنت قلادتها وتناثرت حباتها وانفرط عقدها وتحولت إلى عبرات حرى تبكي العهد والجد والدار؟ هكذا كانت البداية ثم أفلت الشمس بدون شروق قريب وغاض النبع الرقراق، ولم يبق سوى وميض خافت نتلمسه هنا وهناك، سرعان ما تحول إلى بريق مشع قوي نفاذ، تراه في هذه الأعين النجل، والحواجب المزججة، ذات الملامح العربية والأمازيغية الأصيلة والمولدة، والقسمات الدقيقة، التي تحملك في رمشة عين إلى أعماق الجزيرة الأولى، أو إلى جنان الرصافة والجسر، أو تتيه بك في غياهب المسافات السرمدية اللامرئية. الأندلس.. إنها باقية هنا في العادات الشرقية والمغاربية الجميلة، في رعشات الأنامل وانحناءاتها، في ضربات الأكف والأرجل المتوالية المتناغمة التي تذكرك بمراكش الحمراء، وبجرش والبتراء، وبعروس البقاع زحلة الأرز، وحماة القاهرة وبغداد الهوى ودوحة الخير ووهران وتلمسان، وتونس الخضراء وطرابلس الإباء ودمشق الفيحاء، ونواكشوط العالمة… إنها هنا في هذه الأقراط العربية المدلاة عبر جيد في بياض النرجس، بض ناصع ذي ذوائب فاحمة، إنها شامخة في قصر الحمراء، وجنة العريف، في الزخارف والأقواس، في النقوش المرصعة للمرمر الموضون، والرخام المسنون، وإفريز الخشب المحفور، إنها في نوافير المياه والبرك والسواقي، في الموشحات والأزجال والخرجات الأندلسية الرخيمة، إنها هنا في هذه الراح التي لا تلبث أن تتحول إلى روح متلألئة حية قائمة محاورة. أيها النائي القريب، إنهم يحنون إليك ويتغنون بك وباسمك، قلوك زمنا، ولكنهم سرعان ما فاقوا من سباتهم وثابوا إلى رشدهم وتخلوا عن نكرانهم، فراحوا يشيدون لك الأبنية والمجسمات والتماثيل المخلدة، ولكنهم في خبل من أمرهم، ذلك أن ربيعك دائم متجدد، لا تراه الأعين، ولا ترمقه إلا في الحدائق والجنان، أو على ضفاف الأنهار المنسكبة والجداول المنسابة، بل إنها في النغمات والآهات والخطى والعيون والحواريات، إنها ربيع طلق ضاحك، باسم لا يعقبه صيف قائظ، بل يتولد منه ربيع تلو ربيع. جيراننا (الإسبان) يتأوربون أحيانا أكثر من الأوروبيين أنفسهم! وأحيانا أخرى تشط بهم الأحلام بعيدا، ولكنهم في كلتا الحالتين أبدا يظلون ملتصقين بأرضهم التي تعاقبت عليها حضارات، يظلون فخورين بأجناسهم، مزهوين بمحتدهم وتاريخهم الحافل، مشدودين إلى عاداتهم الدخيلة، مشدوهين إلى لغتهم المزدوجة وتقاليدهم العريقة، قالها ماتشادو، ولوركا، وألبرتي، ودامسو، وأليكسندري، مثلما قالها قبلهم ابن زيدون، وابن هانئ، وابن عبد ربه، وابن زمرك، وابن حمديس، وابن الخطيب، وابن سهل، وابن حزم وسواهم. هديل الحمام يضحكون منك وعليك، وهم فيك ومنك وإليك، ينكرون طبائعك وعوائدك، وهم الذائدون عنها. هنا حط الشاعر يوما رحله، بعد أن هجر القصر وترفه، والشعر ولغوه، بعد أن بنى معبدا للصلاة، فكانت له جنة الخلد، هنا في هذه الحياة الدنيا قبل الآخرة، بعد أن خلف وراء ظهره ثمانٍ من الرواسي الراسخات، إنها تعد عدا، ضاربة جذورها في عمق التاريخ، تعلو في عنان السماء، ألوانها مزركشة زاهية يعانق قوس قزحها الآفاق البعيدة، معلنة للملأ أجمعين أنها ما زالت ها هنا قائمة الذات، ثابتة في الصور والمنقوشات، في الدور والقصور في الحمراء وجنة العريف وبرج الذهب وصومعة الخيرالدا، وقصر الجعفرية، وقصر الظفرة، وفي القلاع الحرة والحصون المنيعة، وفي الرقصات والعيون وفي العقل واللسان والجنان. إنها ها هنا تسلب لبّ العاشقين، وتروي صدى وأوام الهائمين، من دوحها انطلق "بحزم" هديل الحمام نائحا ذات مساء حزينا باكيا شاكيا، يلقن المحبين والعاشقين أصول العشق والهيام والهوى والحب والصبابة والجوى، إنهم لا يمقتونك، بل معجبون، إنهم يفرون منك إليك، يغيبون بك عنك وإليك، فيظنون أنهم أنت! الأندلس هذا النهر الجارف المنهمر، من يستطيع الغوص فيه، أو الدنو منه لآب إلى النبع الأول، هذا الوادي الرقراق الذي شق النسيم عليه يوما جيب قميصه، فانساب من شطيه يطلب ثأره، فتضاحكت ورق الحمام بدوحها هزؤا، فضم من الحياء إزاره. الأندلس هذه الفاكهة المحرمة المعلقة في شجرة ليس لها جدع قائم، من يطولها يطول الخلد، وتعود إليه الحياة في ثوب قشيب جديد متجدد. الأندلس هذه الأغرودة الحلوة الحالمة التي تنطلق عند الأصيل من حنجرة رخيمة (لفلاح منكوب) "الفلامنكو"! على ضفاف الآهات، ورموش العيون المسبلة، تتمازج في رونق بديع، وبهاء رائع مع ترانيم وتغاريد الطيور، ووجه المليح مشع مثل الثريا، والساقي المؤدب يسقي بالأواني البندقية، والعيدان تصنع تواشي منوعة، فلا يمل السمع منها ولا يشبع، ولا يكل اللحظ ولا يدمع، ولا يفل القلب منها ولا يشفع، هذا الحسن الباهر، والجمال الظاهر، هذه الأنثى الهائمة المخصاب التي تغنى بمفاتنها الشعراء، وصدح ببهائها المنشدون، فجاءت هاشة، باشة، فرحة، جذلة، كغادة فاتنة أو كغجرية حسناء حالمة، يسافر شعرها الحريري الفاحم المجنون في كل الدنيا، ثم سرعان ما يعود لينسدل على الخصر حسنا وبهاء! صدقت أيها الشاعر العاشق الولهان، صدقت أيها الشاعر المكلوم، وصدق حبك للأرض التي نعتوها بالفردوس وللمرأة الولود، كيف لا وحولك ماء وظل وأنهار وأشجار! أبو عبد الله الصغير شكراً لك أيها الشاعر الراوي المتيم، أمجد ناصر، المُقتفي لآثار هذا السلطان سيئ الطالع أبي عبد الله الصغير، كما يقتفي الشاعر المعنىَّ "بابلو نيرودا" لآثار أرجل النوارس على الرّمال، في الشطآن النائية، شعرك غذاء للنفس والعقل والوجدان معا، نصك سجاد طائر، وسردك زورق من ورق بلوري ساحر، ينقل قارئه في رحلة ممتعة إلى عمق التاريخ، عبر قارب اسمه اللغة في أرقى مظاهرها، وأبهى حللها، لتطير أو تطوف به على ثبج الزمن السرمدي، وغياهب المسافات، مهما شط المزار، أو بعدت الديار، حلمك الأعلى يراع أو بوصلة بيد ربان يجيد فن الإبحار في مباهج اللغة وشواردها، أشرعته كلماتك الموفية، وحيزومه أسلوبك السلس، الذي يأخذ بمجامع القلوب، بإجادتك فن الغوص، أخرجت لنا تلك الدّرر النفيسة، والصدفات المتلألئة التي ترصع فلكك بالقوافي الغر، والقصائد الموشيّة. تتبع خطوات أبي عبد الله الصغير، باحثاً عنه في سديم الليالي والدياجي الحالكات بمصباح ديوجين لرصد آهاته وزفراته، وتسجيل حسراته وتنهيداته، رحلتك متعة وفائدة وهي عبرة لمن يعتبر، فالعبرة أم الخبرة، والتاريخ ما زال معلمنا الأوّل والأخير، فهل من مُصغٍ، وهل من متعظ، "كفّ إذن عن قراءة التاريخ، واقرأ الحاضر لترى كيف تعود إليك الصور، وتسترجع المعاني ما رسب في قعرها من ثمالات"! أبو عبد الله الصغير صغر في أعين الناس، ولكنه كبر في أعيننا بسردك البليغ الذي ينبض حياة وحيوية، ويتدفق خصوبة ونضرة، لقد ارتقيت بأنفاسنا بحلو كلامك، وطلاوة بيانك. ولكن سرعان ما انهدت قلوبنا مع تنهيدة أبي عبد الله، لحظة التسليم المذلّ، على الربوة إياها التي ما زالت تحمل اسمَه إلى اليوم، والتي ظلت وصمةَ عارٍ مرسومة على كلّ جبين، بتنازله المخزي عن درة المدن، وبهجة الحواضر غرناطة الحمراء، آخر معاقل المسلمين في هذا الفردوس المأسوف عليه، إنه: "وتر تحطم أو تمزّق في قيثارة جنح الليل" وجفت مآقي دموعنا على غرناطة الأولى، وبكينا أخواتها اللاحقات! "فالحضارات دول… والسؤدد برهة"، والله صدقت أيّها المُغرِّد الصّادح، الرّاجح، النّائح الطلح في الغدوّ والرّواح! صدقت، وأبلغت، وأقنعت، وأوفيت، وأصبت أيّها الشاعر الماجد المكلوم! الشاعر المُتيّم شاعر الحمراء ابن زمرك الهائم والمتيم في الأندلس، وماضي الأندلس، وشعر الأندلس، وأدب الأندلس، وموسيقى الأندلس، وتاريخ الأندلس، وعمران الاندلس، ورفاهية وترف الأندلس، وقصور وحصون الأندلس، خط على حاشية مرمر مسنون، وذهب موضون ببهو الأسود هذه الأبيات التي يقول فيها: يذوبُ لجَيْنٌ سالَ بين جواهر**غدا مثله في الحُسْن أبيض صافيَا تشابه جار للعيون بجامد**فلم ندر أيّاً منهما كان جاريَا ألمْ ترَ أن الماءَ يجرى بصفحها**ولكنّها سدّت عليه المجاريَا كمثلِ مُحبذٍ فاضَ بالدّمع جفنُه**وغِيضَ ذاك الدّمعُ إذ خاف واشيَا قال الشاعر الغرناطي ذائع الصيت فيدريكو غارسيا لوركا معلقا على هذه المأساة: "لقد ضاعت حضارة رائعة، لا نظير لها، ضاع الشعر، ضاعت علوم الفلك، ضاعت الفنون المعمارية، وضاعت حياة مترفة فريدة، لا مثيل لكل ذلك في العالم أجمع". وقال بلاسكو إبانييز: "جعل المسلمون من إسبانيا في ذلك العهد كالولايات المتحدةالأمريكية، يعيش فيها المسلم والمسيحي واليهودي بحرية تامة ومن غير تعصب، وعندما كانت دول أوروبا تتطاحن وتتقاتل في حروب دينية وإقليمية في ما بينها، كان المسلمون والإسبان واليهود يعيشون في سلام كتلة واحدة، وأمة واحدة، فزاد السكان في البلاد وارتقى فيها الفن، وازدهرت العلوم، وأسست الجامعات. سكن ملوكها القصور وعاش شعبها في الرخاء، بينما كان ملوك بلدان الشمال يبيتون في قلاع صخرية سوداء، وشعوبها أحقر المنازل". *كاتب وباحث ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا