يقود عمر المتيوي مجموعة "روافد موسيقية" بمدينة طنجة بعشق كبير للموسيقى الأندلسية، فهو ناشئ في بيت مولع بالموسيقى، فبعدما رأى النور سنة 1962 ولج المعهد الموسيقي في سن مبكر، وتعلم طرب الآلة على يد المشايخ أمثال أحمد الزيتوني ومحمد العربي المرابط ومحمد العربي التمسماني. مسيرة فنية متميزة قادت الفنان المتيوي إلى نيل شهادة الجائزة الشرفية (1991) والجائزة الأولى في الموسيقى الأندلسية (1993) من قبل وزارة الثقافة، وقد عمل على النهل من معين الحضارتين الشرقية والغربية محاولاً إيجاد توازن بين الكتابة والرواية الشفهية في الموسيقى. سبق له أن كوّن مع فنانين إسبان، من طينة إدواردو بانياكوا وبيكونيا أولافيدي، مجموعات موسيقية؛ منها “ابن باجة”، كما له مجموعة صوفية تحت اسم “الشُشتري” ومجموعة “روافد موسيقية”، هذه الأخيرة أدت يومي الجمعة والسبت نوبة رمل الماية على امتداد 11 ساعة وبأداء متقن سبقه استعداد دقيق دام أشهراً. في هذا الحوار، يتحدث ابن مدينة طنجة، الذي درس علوم الصيدلة في بلجيكا، إلى ميكروفون جريدة هسبريس الإلكترونية حول مجموعة "روافد موسيقية" التي يترأسها، إضافة إلى النسخة الحادية عشرة من "ملتقى العبادي" للموسيقى الأندلسية الذي نظم نهاية الأسبوع الماضي، وعرف حضور عشاق وهواة موسيقى الآلة تحلقوا لساعات أمام سمفونية راقية أداها معلمون وشباب يحملون مشعل فن اشتهر لدى سكان الشمال. هل لكم أن تتحدثوا لنا عن تجربة مجموعة "روافد موسيقية" التي تترأسونها؟ يرجع تأسيس هذه المجموعة الموسيقية إلى سنة 1994، وهي تتكون من خيرة العازفين التقليديين المحافظين الذين ينتمون إلى مدينة طنجة، وتكمن أصالة المجموعة في توجهها نحو المحافظة على التراث الموسيقي الأندلسي المغربي وتطويره باعتباره تراثاً أثيرياً مجرداً ونحاول الرقي به نحو العالمية. وقد سعت المجموعة إلى المحافظة والتثبيت لتراث سمعي شفهي كما عُهد به أداء وتقديماً عند شيوخه الكبار، وتسعى جاهدة إلى إعادة ترميم آلات موسيقية من أجل إحيائها ونفض غبار النسيان عنها ووضعها تحت إشعاع الضوء عوض ظل المتاحف، إذ إن بعضها موثق عبر جداريات ومنمنمات ومخطوطات تعود إلى القرون الوسطى وأخرى أبعدت عن الاستعمال وطالها النسيان. ومن ضمن ثوابت المجموعة رفضها لكل آلة دخيلة بنيت على قواعد السلم المعدل الغربي. وقد جاء أول تسجيل للمجموعة يرسخ لهذا التوجه على يد دور توزيع عالمية سنة 1997، كما شاركت المجموعة في العديد من التظاهرات الفنية والدولية؛ من بينها تظاهرة “زمن المغرب” مع مؤسسة "روايومون" بفرنسا سنة 1999، والمهرجان المغاربي “للمحجوز بقسنطينة بالجزائر سنة 2001. كما تشارك المجموعة سنوياً في مهرجان الموسيقى الأندلسية بمدينة فاس، كما شاركت في مهرجان “طركونا” بإسبانيا سنة 2001، وفي سنة 2015 كان لها حضور بمعهد العالم العربي بباريس، وآخر جولة لها كانت مع جمعية أصدقاء الآلة في دول البحر الأبيض المتوسط خلال السنة الجارية. وفي سنة 1994، بدأت المجموعة عملاً مشتركاً مع الفنانة الإسبانية بيكونيا أولافيدي والفنان إدواردو بنياكوا من أجل إعادة بناء التراث المشترك بين المغرب وإسبانياً، وأيضاً مع صانع الآلات القديمة “كارلوس بانياكوا”. وتضم المجموعة حالياً 18 عضواً. أديتم، خلال النسخة الحادية عشرة لملتقى العبادي بطنجة، نوبة رمل الماية.. هل لكم أن تحدثونا عن تاريخ النوبة في الموسيقى الأندلسية؟ كلمة نوبة تعود إلى القرن الثامن ميلادي، حيث كانت تستعمل في بلاط العباسيين وتعني دور الموسيقي الذي يقدم أداءه أمام الحاكم آنذاك، وقد أخذ هذا المصطلح مفهوم وصلة موسيقية، وسافر مع زرياب إلى الأندلس وقرطبة ليستقر بدول المغرب الكبير. فيما بعد أصبحت النوبة تعني الأجزاء المختلفة التي تتكون منها الموسيقية الأندلسية المغربية، أو كما نفضل تسميتها ب”موسيقى الآلة”، ونسيمها هكذا لكي نميز بينها وبين السماع الذي يعتمد على الأصوات فقط. عدد النوبات الموجودة حالياً 11 جمعها محمد بن الحسين الحايك في أواخر القرن الثامن عشر، وأصبح متداولاً فيما بعد “كناش الحايك” الذي يعدّ مرجعاً قديماً وذا أهمية قصوى، لأنه تضمن ترتيب الصنعات وأنغامها التي تعني الطبوع والوحدات. وتتوفر النوبة الواحدة من عدة طبوع، أي مقامات، تتناسق مع بعضها لتعطي هيئة موسيقيى، والنوبة هي مقاطع موحشات مختلفة تأتي الواحدة تلو الأخرى، وتضم أيضاً معزوفات تسمى بالتواشي تضم فقط الموسيقى. وتتميز النوبة بالانتقال من إيقاع بطيء إلى سريع في منظومة تدوم ساعات. ماذا عن نوبة رمل الماية.. ما قصتها ومميزاتها؟ بخصوص نوبة رمل الماية، التي أديناها على مدى يومين، هي أول نوبة في تصنيف كناش الحايك، وكانت في الأولى عبارة عن شعر يتناول موضوع الخمريات والغزل، إلى أن جاء الفقيه والعالم عبد الرحمن الفاسي في القرن الثامن عشر وحوّل كل أشعارها إلى مديح في الرسول صلى الله عليه وسلم. وكنتيجة لذلك، أصبحت نوبة رمل الماية نوبة مديحية محضة، وأصبحت تناسب كل الأوقات وتتداول أيضاً لدى المادحين والذاكرين في الزوايا المغاربة، وكان لها انتشار كبير لدى المغاربة. تضم هذه النوبة، الأصعب والأطول من بين النوبات الإحدى عشرة، أربع ميازين: الأول ميزان البسيط ويدوم ثلاث ساعات ونصف الساعة، وميزان القائم ونصف في ساعتين، وميزان البطايحي في ساعتين ونصف، وميزان القدام في ثلاث ساعات، يليه ميزان الدرج في ساعة ونصف، أي أن المدة الزمنية الكاملة التي أدينا فيها النوبة دام 11 ساعة، وبذلك نكون قد أتينا بما لم تأتي به “أنطولوجية الآلة” التي أعدتها وزارة الثقافة سنة 1991. مما لا شك فيه أن الموسيقى الأندلسية متجذرة لدى سكان الشمال، إلى درجة أنها تكاد تكون طقساً يومياً لدى بعض العائلات... نعم هي كذلك، لكن هناك من المغاربة من يعتبر أن الموسيقى شيء ثانوي في حياة الإنسان ولا يجب أن نهتم بها بما فيه الكفاية، ويعتقد البعض أيضاً أن الدين الإسلامي يحرم الموسيقى، أقول لهؤلاء إن هذا الموضوع عرف نقاشاً طويلاً منذ قرون؛ لكن من لديه شكوك في الأمر يجب أن يقرأ "إيضاح الدلالات في سماع الآلات" لعبد الغني النابلسي، وسيعرف مدى أهمية الموسيقى وموقف الإسلام من ذلك. بالنسبة إليّ أرى أن سماع الإنسان للكلام الجميل وفي الأنغام الجميل أمر ضروري، كما أن على المرء أن يكون منفتحاً، إذ لا يوجد إنسان لا يحب الموسيقى والجمال الذي خلقه الله، فالطبيعة والحياة بأكملها عبارة عن سمفونية موسيقية، ونحن نقلد فقط ما حولنا. كما أن الأديان الأخرى تتوفر على موسيقى جميلة، بل إن المسيحية ارتكزت على الموسيقى لتوصل أذكارها إلى الناس، أضف إلى ذلك أن الصوفيين المغاربة اتخذوا الموسيقى عنصراً مهماً وأساسياً لديهم؛ لأنها مؤثرة في النفس البشرية وتدخل دون استئذان.