في جنوب إفريقيا الكل يتحدث عن الفساد والرشوة والمحسوبية وسوء الإدارة. والأكثر إثارة للتعجب هو أن هذه الصفات ينطق بها أشخاص متهمون بهذه الأوصاف. على قائمة مؤشرات الفساد لعام 2016 جاءت جنوب إفريقيا في المرتبة 64 من بين 176 دولة في سلم منظمة الشفافية الدولية Transparency International. لكن ماذا يهمنا من أمر جنوب إفريقيا؟. ربما كل ما يعرفه العامة عن هذا البلد الواقع في أقصى جنوب القارة السمراء، هو وجه الزعيم الراحل نلسون مانديلا. إلى هذا تضاف شذرات من المعلومات عن معاناة غالبية سكان هذا البلد مع نظام الميز العنصري الذي كان يعطي للأقلية البيضاء أحقية في الاحتفاظ بممارسات حاطة بكرامة الإنسان، يعود تاريخها إلى ما قبل عصر الأنوار. الأمر ليس بهذه البساطة. فهذا البلد الغني بموارده المنجمية الهائلة يلعب أكثر من دور سياسي وأمني واقتصادي ورمزي في عموم القارة، وخارجها. يوم الاثنين 18 ديسمبر الجاري انتخب أعضاء الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني الافريقي) رئيسا جديدا له يدعى سيريل رامافوسا خلفا لرئيس البلاد، جاكوب زوما. قد يبدو هذا إجراء داخليا عاديا في بلد بعيد. لكن في عاصمة بعيدة مثل لندن، سرى شعور بالارتياح، وتنفس الكثير من السياسيين ورجال الأعمال نفسا عميقا. حين توفي نلسون مانديلا في مثل هذه الأيام من عام 2013، ترك بلدا تحرر غالبية أبنائه وبناته من ربقة العنصرية البغيضة، وأصبح بإمكانهم التصويت في الانتخابات بكل حرية أسوة بالأقلية البيضاء التي ظلت لعقود من الزمن تستأثر بهذا الحق. لكن حين كان عشرات من قادة العالم يودعون هذا الرمز التحرري إلى مثواه الأخير، كان نصف عدد سكان جنوب إفريقيا يفكرون في ما سيملأون به بطونهم وبطون عيالهم في عشاء تلك الليلة. فكيف يحدث هذا في بلد تستخرج من باطن أرضه ثلاثة أرباع ما ينتجه العالم من معدن البلاتين الثمين؟. صوت الإجماع يقول: إنه الفساد والمحسوبية والزبونية و"الشِّليلية" وضعف الحكامة. ومن المسؤول عن ممارسة هذه النعوت المسببة لفقر الناس؟. يتقاذف الحكام في ما بينهم هذه العبارة:"إنهم الحكام!". يعيش في جنوب إفريقيا حوالي 53 مليون نسمة، يعاني واحد من بين كل اربعة منهم من البطالة. وحين تدقق النظر يتجد أنه يعيش في أتون البطالة نسبة أربعين في المائة ممن تقل أعمارهم عن الثلاثين. هؤلاء كانوا أطفالا رُضّعا أو لم يكونوا قد جاءوا إلى الحياة، حين تنفس مانديلا هواء الحرية عام 1990 ، بعد أن قضى 27 سنة من عمره خلف أسوار السجون العنصرية. لقد ضحى بزهرة شبابه من أجل تمتيع بني جلدته بحياة كريمة. لكن القليل من ذلك تحقق حتى الآن. يقدر الناتج الداخلي الخام السنوي لجنوب إفريقيا بما لا يقل عن 360 مليار دولار أمريكي، وهو الثاني في إفريقيا. ويعتبر هذا البلد القوة الصناعية الأكبر في القارة. ومع ذلك فإن نصف ساكنته من السود يعيشون تحت عتبة الفقر. حين فاز سيريل رامافوسا على منافسته نكوسازانا دلاميني زوما الرئيسة السابقة لمفوضية الاتحاد الإفريقي وطليقة الرئيس زوما، كان بذلك يحقق انتصارا لجيل المرحلة الثانية من مقاومة الاستعمار . فإذا كان زوما البالغ من العمر 75 عاما قد عاصر في بدايات شبابه عصر الانطلاقة الحقيقية لمقاومة الابارتهايد، وقضى عشرة أعوام في السجن مع مانديلا في جزيرة روبن المعزولة، وكان حكما لمباريات كرة القدم بين رفاقه في الزنازن، فإنه في الوقت ذاته يمثل رؤية للعالم تجاوزتها الأجيال الحالية التي لديها تطلعات وأحلام غير تلك الأحلام التي راودت أجيال الأربعينيات والخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. في حقبة تصفية الاستعمار كانت الحركات الوطنية والثورية بافريقيا تنشد أنواعا من التغيير. في شمال القارة كانوا يريدون في البدء تغييرا في اسماء المتحكمين، من شارل وأنطونيو وفرانكو، الى محمد والحبيب وإدريس والمختار وعبدالناصر. أما في القطاع الجنوبي منها فقد كانوا يريدون أشخاصا لون بشرتهم يشبه لون بشرة الغالبية العظمى منهم. تحقق ذلك على مدى سنوات في معظم بلدان افريقيا جنوب الصحراء، لكنه تأخر في شقيقاتها الواقعة بمحاذاة نهر زامبيزي العظيم في ما يعرف بإفريقيا الجنوبية، فكان لزاما على الأغلبية في زامبيا وزمبابوي وناميبيا وجنوب افريقيا ولفيف آخر من تلك البقاع أن تقاوم بأشكال مختلفة، تشبث الأقلية البيضاء القادمة من أوروبا بتلابيب السلطة والثروة. بعد الافراج عن مانديلا، انتهت مرحلة الحلم، وبدأت حقبة البحث عن تحقيقه على الأرض. في أبريل عام 1994 انتخب مانديلا رئيسا للبلاد، وأطلق سياسته الشهيرة القائمة على "الصفح الجميل"، منهيا بذلك مطالب بالانتقام من أركان نظام الميز العنصري ومن الأقلية البيضاء. لقد كان بذلك يرغب في تفادي سياسات روبرت موغابي، بالجارة زمبابوي، التي أدت إلى رحيل غالبية البيض ومعهم ثرواتهم وخبراتهم. هذا ما سعى مانديلا الى تفاديه. انتقل المؤتمر الوطني الافريقي من حزب ممنوع إلى حزب حاكم. وتحول أعضاؤه القياديون من عناصر ثورية ملتصقة بهموم الجماهير الإفريقية الفقيرة، إلى مسؤولين يشرفون على وزارات لديها نصيب من كعكة ال360 مليار دولار، وهم من يوقعون العقود الكبرى. بعبارة أخرى بإمكانهم التأشير على الصفقات وإرساؤها على من يريدون، ويحجبونها عمن لا يحبون. وهنا برزت الظاهرة التي يتقاذفها الحاكمون والطامحون للحكم: الفساد والرشوة والمحسوبية والزبونية وسوء الحكامة!. في عام 1997 أجريت في جنوب افريقيا انتخابات رئاسية ترشح لها سيريل رامافوسا و تابو امبيكي، وكانت من نصيب هذا الأخير، الذي يعد من القيادات التاريخية للمؤتمر الوطني الافريقي. في مطلع الستينيات طاردت سلطات الاقلية البيضاء هذا الشاب الاسود المنتمي للمؤتمر الوطني الإفريقي، فاضطر لتقمص شخص لاعب كرة، وغادر البلاد على متن حافلة نحو روديسيا (زمبابوي) ومنها إلى زامبيا، ومن ثمة امتطى طائرة نحو لندن. في بريطانيا درس امبيكي الاقتصاد بجامعة برايتون، وفيها بدأ نشاطا سياسيا سيشكل منعطفا أساسيا في الدفاع والترويج لتطلع الشعب الإفريقي ببلاده إلى الحرية والمساواة والكرامة. سيطول مقام تابو امبيكي في الخارج إلى أن يشرع صنم الابارتهايد في التهاوي، وحينها سيعود إلى بلده كقيادي بارز في المؤتمر. شهدت سنوات رئاسة امبيكي لبلاده نسب نمو سنوية لم تقل عن 4.5 في المائة، واتسعت خلالها قاعدة تمكين السود من الأعمال في قطاعات عديدة. لكن السوق عنيدة، فهي لا تقبل سوى بالكفاءات، وهذه الكفاءة المهنية والوظيفية مفتقدة لدى غالبية السود الذين لم يستفيدوا في زمن الابارتهايد من أي تعليم أو تكوين يؤهلهم للاندماج في الدورة الانتاجية. إذن لك يتغير الكثير في حياة هؤلاء، لكن حياة قادة المؤتمر وأهاليهم ستجعل هذه الفئة المحظوظة تنظر إلى سنوات الكفاح العجاف على أنها مجرد ذكرى بعيدة. فقد جاءت السنوات السِّمان. بعد أن فشل سيريل رامافوسا أمام امبيكي، قرر تطليق السياسة ولو مؤقتا، وانغمس في مجال الأعمال. لقد كان الكثير ينظر إليه على أنه الوريث الشرعي لمانديلا، وهو الذي تفاوض باقتدار مع أركان نظام الأبارتهايد حول شروط الانتقال السلس نحو التعددية، ولم يكن عمره عام 1990 يتجاوز 38 عاما، وكان أقرب المقربين إلى قلب الزعيم. لكن في السياسة لا ينال القلبُ كل ما يهوى. ترك رامافوسا جمل السياسة بما حمل، وشرع في بناء امبراطورية أعمال ستنمو أذرعها عاما بعد عام، لتشمل المعادن الثمينة والاتصالات والبنوك. وخلال فترة قصيرة سيستحوذ على نسبة 35 في المائة من الاتصالات في نيجيريا مثلا، وسيدخل بورصة لندن، وسيتفاوض مع دول عربية. ليبلغ ما في رصيده حاليا حوالي 450 مليون دولار. شتان ما بين ما في ملكيته اليوم، وجيبه الفارغ حين أنشأ عام 1982 (الاتحاد الوطني لعمال المناجم)، وهي نقابة عتيدة لعبت بإضراباتها وحركيتها النضالية دورا هاما في إسقاط نظام الفصل العنصري. بينما صب رامافوسا اهتمامه على اعماله الخاصة، كان نجم جاكوب زوما يرتفع في صفوف الحزب. فقد بلغ مرتبة نائب الرئيس امبيكي صيف عام 1999، لكن الرئيس سيقيله من هذا المنصب عام 2005 بعد رفع قضايا ضده في ملفات تحمل عبارات "الفساد والرشوة والمحسوبية والتربح غير الشرعي"، إحداها تتعلق بمزاعم عن رشاوى مقابل شراء فرقاطات ومعدات حربية لقوات البحرية. وأخرى تتعلق بالاغتصاب الجنسي. يعرف عن زوما أنه مزواج مطلاق. ففي رصيده الرسمي ست نساء، ويشير مقربون منه إلى أن له نحو عشرين من البنين والبنات. إلا أنه سيستطيع بخطاباته الحماسية وقدرته الجدلية على الاقناع، أن يحمل القضاء على إلغاء الملاحقات بحقه باعتبار ان تلك القضايا كانت مبنية على اعتبارات سياسية، وفي عام 2009 سينتخب رئيسا للبلاد، خلفا لامبيكي. لقد تحقق له هدفه الأسمى. وحين نبحث في مؤهلاته الأكاديمية والعلمية، سنجد أنها لا شيء. يتهمه مناوئوه باعتماد سياسة "الاستعراض والتأجيج والتخوين" ضد كل من لا يتفق معه، وفي الوقت ذاته تمكين أجنحة المؤتمر الوطني الافريقي المقربة منه، من امتيازات ضخمة. في فبراير الماضي، واثناء افتتاح البرلمان في جوهانسبورغ، أمر باستعراض للقوة تخلله تحليق لطائرات الهيليكوبتر العسكرية وانتشار لعدة آلاف من عناصر الشرطة وقوات مكافحة الشغب والجيش في محيط مبنى البرلمان. في العادة كان هذا الافتتاح استحضارا للنفس الديمقراطي الذي أطلقه الراحل نسلون مانديلا، لكن المناوئين يقولون إن مشهد فبراير الماضي يذكر بممارسات واستعراضات قام بها بيتر بوتا رئيس نظام الابارتهايد حتى عام 1989، أي قبل فترة وجيزة من رفع الحظر عن حزب المؤتمر. آذن الشعور بالقمع والتعالي لا زال لدى فئة من الشعب والنخب السياسية رغم انتهاء نظام الابارتهايد قبل ربع قرن. على صعيد القارة استغل زوما سمعة مانديلا وشعبيته، فكان له نفوذ قوي في الاتحاد الإفريقي، وتمكن من ايصال طليقته نكوسازانا دلاميني إلى رئاسة مفوضية الاتحاد، التي تعد الجهاز التنفيذي لهذه المنظمة القارية. انتهجت هذه السيدة خطا سياسيا وصفه الكثير من المراقبين في المفوضية بالمتشدد، حيث واصلت خطاب الستينيات الذي كان يصنف الانظمة الافريقية إلى "تقدمية تحررية وثورية"، وأخرى "رجعية وعميلة للامبرالية والاستعمار". لكن الفضائح التي لاحقت طليقها ورئيس بلدها، كان لها دور في تراجع هذا الخطاب ومصداقيته، وبالتالي نفوذ هذه السيدة في الاخير!. يتهم زوما أيضا بأنه كان ضالعا بصفة أو أخرى في تكييف سياساته الخارجية وفق المصالح أكثر من تشبثه بالمبادئ المعلنة. تعد جنوب افريقيا من بين البلدان المصدرة للأسلحة، وبشكل خاص الدخيرة والمتفجرات، ولكن على وجه الخصوص صنف من عربات نقل الجنود القتالية المتطورة التي تحمل اسم Mbombe، وهي عربات أثبتت مرونتها وقدراتها الكبيرة على العمل في مختلف التضاريس القاسية والوعرة، وخاصياتها المقاومة لانفجارات الالغام والقذائف من نوع أر بي جي. في ميادين حرب كثيرة، من بينها مالي والعراق، كانت لهذه العربات مساهمة في دحر مقاتلي داعش وأخواتها. وكان لزوما دور في التصديق على مبيعاتها. مقابل هذه السياسات بدأ رصيد جنوب افريقيا القاري يتآكل. فالالتفاف الذي أحدثه مانديلا بدأ يتفكك بعد رحيله. والاجيال الصاعدة في القارة لم يعد يهمها رموز الاستقلال والتحرر، بقدر ما تهتم بتحديات البطالة والتعليم الجيد والتكوين والصحة. هذه هي النماذج التي يرغب الشباب فيها، وهي التي تدفع الملايين من شباب القارة الى تجربة الهجرة النظامية وغير النظامية نحو أوروبا. أما أحاديث الأمجاد فقد تلاشت مع تلاشي زمن المسامرات الليلية الافريقية الجميلة، وجلسات الانصات الجماعية على نور البدر أو النجوم، لإذاعة بي بي سي على الموجات القصيرة. وفي الداخل تآكلت قوة حزب المؤتمر نتيجة للصراعات الداخلية على مواقع النفوذ، والنفور الشعبي من الفشل الاقتصادي. في عام 2013 انطلقت حركة تدعى تنظيم (مقاتلو الحرية الاقتصادية Economic Freedom Fighters )، وهي ذات توجه يساري شعبوي يقوده شباب غاضبون طُردت غالبيتهم من المؤتمر الوطني الإفريقي، ويطالبون بتحقيق المطلب التاريخي للغالبية السوداء بإعادة توزيع الثروات. وقد أصبح هذا التنظيم يشكل القوة السياسية الانتخابية الثالثة في البلاد، بعد حزب (التحالف الديمقراطي) المنتمي ليمين الوسط. هاتان القوتان ستشكلان خطرا حقيقيا على هيمنة المؤتمر الوطني الافريقي. يفترض أن يتولى سيريل رامافوسا رئاسة جنوب افريقيا خلفا لزوما عام 2019، وبحسب خبراء دوليين، فإن بإمكانه أن يعيد توجيه بوصلة الاقتصاد والسياسة نحو الاتجاه التصاعدي، لكن شرط أن يجُبَّ سياسات سلفه. وأن يأخذ بعين الاعتبار أن المستثمرين في بلاده بدأوافعلا يوجهون النظر نحو بلدان أخرى في الشمال، أكثر مردودية واستقرارا وجاذبية. ويضربون في هذا الصدد أمثلة ناميبيا ورواندا وكينيا غاناونيجيريا وإثيوبيا، وآخر من سيلتحق بالركب الجارة الشمالية زمبابوي التي ترك لها روبرت موغابي اقتصادا مخربا وفي الوقت ذاته سوقا تحتاج لكل شيء، ويمكن الاستثمار فيها بشروط تنافسية للغاية. في الأعوام الخمسة الاخيرة استثمرت شركات جنوب افريقية نحو 250 مليار دولار في الخارج. وبعض أثرياء البلد يحتفظون في الخارج بنصف ما يملكونه من ثروات . فهل سيستطيع رامافوسا التغلب على بؤر الفساد في حزبه، وإقناع المستثمرين المحليين والدوليين بالمساهمة في تحقيق وعد مانديلا باقامة مجتمع يستوعب كل مكوناته؟ الجواب سيمر حتما عبر قطع أوردة الفساد والزبونية والمحسوبية وسياسة تفضيل الاهل والاصدقاء والخِلّان. لكن ما حدث في جنوب افريقيا ستتبعه حتما اشكال مماثلة في بلدان مجاورة. افريقيا تتحرك، وربيعها وبما سيكون أفضل حالا من "ربيع" العرب الدامي. *إعلامي مغربي مقيم في لندن