احتفلت الأوساط الموسيقية مؤخرا بمرور عشر سنوات على رحيل الباكستاني نُصرت فاتح علي خان، كموسيقار الحوار بين الحضارات ورمزا لإيقاع المحبة بين الأديان والشعوب.فُنصرت كان هو الرسول الأكثر تأثيرا، في عصرنا،لإشاعةالولهالصوفي في العالم، مغنيا رسالته العميقة والداعية إلى الوئام وإلى حب الآخر واحترامه. ولو كان حيا،أثناء تفجيرات برجي نيويورك، لذهب إلى نيويورك وجلس فوق الأنقاض مهمهما بصوته الشجي وكأنه يبكي على قبر أحد الأولياء، ولكان للضحايا مرثية حقيقية تأتيهم من أعماق باكستان، بكاء أشبه بصرخة احتجاج على جريمة اسلاميين هم، في العمق،في خدمة أعداء المسلمين. بل لكان هذا أفضل اعتذار تقدمه الحضارة الإسلامية على ما أرتكب من جريمة باسمها. لكنه توفي سنوات قبل أن تحدث هذه الجريمة، في السادس عشر من غشت 1997 بعد نضال مع عديد من أمرض الكبد. "" نُصرت فاتح علي خان هو "القوّال" الوحيد الذي مكن الغناء التعبدي الصوفي المعروف باسم "القوّالي" ("النُطق" الذي أسسه متصوفو فارس في القرن العاشر للميلاد وانتقل بعد قرنين إلى الهند) من تجاوز الحدود الجغرافية والعرقية، وأن يجعله ظاهرة غنائية عالمية لها معجبون، بل متحمسون ليست لهم أية علاقة بالصوفية أو الإسلام، ولا حتى معرفة بسيطة بالأوردية أو البنجابية. ويكفي أن تسأل كل من حضر حفلا واحدا من الحفلات التي كان يقيمها نُصرت فاتح علي خان، حتى يخبرنا كيف أنّ صالة الحفل لم تكن قاعة موسيقى، بل حلقة ذكر فعلية، يشارك فيها المستمع بكل جوارحه حد التيقن من أنه لم يعد مستمعا بل مُتلقنا، يتنوّر، بل يزيد من معرفته الباطنة، متحولا إلى شخص مختلف عن ذلك الذي كانه قبل ولوج القاعة. تُرى، مَن هذا الذي يقدر على لجم عضلات روحه وبدنه من الترنّح أو الرقص رقصا يذكر بدراويش "المثنوي"، وصوت نُصرت يفيض في جوف القاعة؟ إن كل من شاهده في الحفل، يلمس أن نُصرت ورجاله العشرة لا يعزفون موسيقى وإنما هم الموسيقى عينها آتية من سويداء الروح الطاهرة لتؤجج فيه، ولو إلى حين، النشوة ووَجْد الخلاص. ذلك لأن صوت نُصرت، ذراعيه المرتفعتين شمالا ويمينا، آهاته اللولبية وبالأخص عندما تحايثه آهات أخيه المنبجسة من حنجرة الحنين. نقرات الطبلة، تواليات الأرغنين القصبيين، الثلاثة الجالسين في الخلف وليست لهم مهمة سوى التصفيق والهمهمة، التكرار شبه الرتيب لبعض الأبيات حد انفناء المعنى... كل هذا يساهم في خلق تيار غيبوبة متناوب يخترق الكراسي، الحاضرين، البواب، الحراس، وكل ما في القاعة من بروجكترات وأحلام! ولد نُصرت فاتح علي خان في الثالث عشر من أكتوبر 1948 ابنا لعائلة تمارس "القوّالي" منذ ستة قرون. فوالده أستاذ فاتح علي خان يعتبر واحدا من كبار "القوّالين" ويتذكر الجميع الدهشة التي أصيب بها شاه إيران عندما غنى أستاذ فاتح في حضرته باللغة الفارسية، مما كافأه بسيارة "شوفرليت". لقد نقل والد نُصرت غناء "القوّالي" من ندب الموتى في المزارات حيث تتم جلسات "القوّالي" عادة، إلى ذكر مناقب الأولياء الصالحين في الشارع وحفلات الزواج، وفي أيام الأعياد. نصرت هو الولد الأول للعائلة أي بعد أربع بنات، أعطيَ حرية الحركة والتصرف كما يشاء. وكان ولدا محبوبا من زملائه الذين كان يلعب معهم في شوارع مدينة فيصل آباد، ما جعل العائلة تخشى أن لا يركز على دروسه. وكان كلما يطلب من أبيه أن بعلمه الغناء، ترفض العائلة طلبه بالانخراط في عالم "القوّالي" ناهيك أن الغناء مسألة صعبة. لذا أدخلوه المدرسة على أمل أن يصبح طبيبا أو مهندسا، دون أن تدري هذه العائلة أن ابنها الفالت مع أولاد الحارة سيحمل لواءَ تراثها التي عاشت عليه، "القوالي"، إلى مصاف الغناء العالمي، وهو يتلقى سرا دروسا في الموسيقى الكلاسيكية. السنوات تمر، وإذا بأستاذ فاتح يكتشف قبل وفاته بوقت قصير، أن ثمة موهبة في صوت ابنه وميلا حقيقيا للغناء، فأخذ يعتني به ويعطيه دروسا. وكان موت أبيه صدمة كبيرة. بقي أياما أشبه بالإنسان الضائع، لا يعرف ماذا يفعل. وبما أن المصادفة الموضوعية تتدخل، دوما في اللحظة المناسبة، في حياة البشر مقررة مصيرهم، فها هو الأستاذ فاتح، بعد عشرة أيام من وفاته، يجيء ابنه في الحلم مناديا إياه: "غنّ" فأجاب الابن: "ما أنا بمغنّ". "غنّ" ثم لمس حنجرة ابنه وهو يقول: "سيسمع هذا العالم صوتا جديدا وسيندهش الجميع"! وإذا بنصرت يفز من الحلم مرتعدا، لكنه في حالة غناء. واعتبارا من هذا اليوم، شعر نُصرت وكأنه وليد حلم، وعليه، إذن، أن يغيّر مسيرة حياته وفق متطلبات فن"القوالي"، بل قرر أن تكون أربعينية أبيه أول ظهور عام له كمغنّ. كان عمره ستة عشرة سنة. وبعد مرور سنتين، أخذ يشارك في جلسات عمومية مع عميه مبارك وسلامات، فلاحظ الجميع موهبته وسرعة بديهته. وعندما توفي عمه مبارك سنة 1971، ثبِت نُصرت فاتح علي خان كأعظم "قوّال" حي. والنقد المتبحر في هذا الغناء أكد هذه المكانة. في نظر نصرت، الشكل الكلاسيكي لغناء "القوالي"، المنحصر محليا والذي ألتزمه والده، شكل بارد لا تستجيب إليه شبيبة العصر الحديث، وبالأخص المستمع العالمي. لهذا شرع يجدد فن "القوالي" مطوعا إياه وفق التغييرات وروح العصر الجديدة. واسطواناته التي تجاوزت الخمسين البوما برهان صادق على تفهمه للتغيرات التاريخية والمتطلبات الجديدة للعصر، وبالتالي على ضرورة جعل "القوالي" غناءً يمكن أن يتمتع به حتى هذا الذي لا يفهم اللغة ولا تاريخ هذا الغناء وأصوله. فأخذ يبسطه ويبعث فيه حرارة جديدة مجبولة بالوله الصوفي. وقد ساعده في هذا صوته اللولبي المجبولة أوتاره من العاطفة النقية والحسية، صوت ثري بطبقات وجدانية تشد المستمع مهما كان أصله وجنسه. وقد أستحق عن حق لقب "شاهنشاه القوالي" أي نجمة "القوالي" الساطعة.، فانهالت عليه الجوائز من كل الفئات والأذواق. ويقال إن الممثل الهندي الشهير راجي كابور كان معجبا به حد أنه طلب منه عام 1979 أن يغني في حفل عرس ابنته "ريشي" أمام معظم نجوم السينما الهندية وصناعها. وسرعان ما رسخ نصرت شهرته عالميا خصوصا عندما غنى أمام جمهور أوروبي في المهرجان الذي نظمته، سنة 1985 في لندن، مؤسسة WOMAD ذات البرامج التربوية. وفي الحفل الذي أقيم في نفس السنة في ستوديو "راديو فرانس" حيث لاقت أغنيته "رثاء الحسين" إعجابا هائلا وتصفيقا حادا استمر دقائق. شارك نُصرت فاتح علي خان في وضع موسيقى تصويرية لعدد من الأفلام الهندية. وقد استخدم مغني الروك المعروف بيتر غابرييل، في فيلم مارتن سكورسيزس "إغواء المسيح الأخير" مقطعا من أغنية نصرت الشهيرة "شمس الضحى بدر الدجى" في مشهد صلب المسيح. كما استخدم الموسيقار السينمائي الكبير جيري غولدسميث صوته في فيلم "الشبح والعتمة" من بطولة مايكل دوغلاس وفال كيلمر لإضفاء مسحة صوفية للأسد المتوجس في الظلام متربصا للافتراس. غير أن شهرته أخذت تتسع حقا عندما شارك في وضع الموسيقى التصويرية لفيلم "Dead Man walking" من اخراج تيم روبنز. وهناك اسطوانتان تحملان اسم هذا الفيلم. الأولى تضم 12 أغنية لعدة مغنين من بيتهم جوني كاش، توم ويتز، بروس سبرنغفيلد الذي نسمعه في نهاية الفيلم يغني الأغنية التي تحمل عنوان الفيلم، وكان نصرت فاتح علي خان يتناوب مع المغني الأميركي ايدي فيدر، أغنية "وجه الحب" (ثيمة الفيلم الرئيسة) و"الطريق الطويلة". وخصص قسم من ريع هذه الاسطوانة تبرعا الى الجمعية الأميركية المطالبة بإلغاء حكم الإعدام، وهي جمعية عوائل ضحايا القتل، المؤمنة بأن المحبة التي زرعها المسيح على هذه الأرض هي الخلاص الوحيد من كل الشرور، وهذه هي رسالة الفيلم. أما الاسطوانة الثانية فتضم موسيقى الفيلم الفعلية التي كانت مرشحة لجائزة الأوسكار لعام 1996، والأغنيتان المذكورتان أعلاه كاملتان، ولنصرت فاتح علي خان حصة كبيرة في الموسيقى التصويرية بالاشتراك مع الموسيقاردافيد روبنز، شقيق المخرج. فقد استرد، بكل نقاء، أحد أصول "القوالين" ندب الموتى للتعبير مثلا عن لحظة تنفيذ الاعدام بآهات متقطعة النفس تصعد وتنزل أنينا تحايثه موسيقى دافيد روبنز الخافتة دون ان تنتهك حرمة "القوالي" الصميمية. لكن هناك من لا يزال سجين التقليد، فلا يرى في تجديدات نصرت إلا الخيانة لتقاليد باكستان الموسيقية والحط من "قدسيتها"، خصوصا في الاسطوانتين الأخيرتين اللتين انتجهما مع الموسيقار الكندي مايكل بروك " mustt mustt و Night Song وصدرا عن دار "ريل وورلد" أفضل سلسلة عالمية تهتم لموسيقى الشعوب يشرف عليها بيتر غابرييل. وفي هاتين الاسطوانتين الأخيرتين، يصل نُصرت فاتح علي خان قمّة التحرر من الرتابة الإيقاعية المسجون فيها فن "القوالي"، مُطْلقا هذا الفن في فضاء الآلات الالكترونية الغربية، وكأن التزاوج الموسيقي هذا، خصوصا في أسطوانة "أغنية ليلية" بين آلات الشرق وصوته وبين آخر ما وصل إليه الغرب من تطور في الآلات الالكترونية ، يكاد يكون عربة زمن تعود مخترقة التواريخ والقارات لانتشال "أفراح الشرق" الضائعة تلك والإتيان بها إلينا مشربة بروح العصر دون أن تفقد هويتها. فها نحن أمام إيقاعات راقصة يهتز لها الكبير والصغير. وتجدر الإشارة هنا إلى أننا نرى أطفالا،(في فيلم وثائقي فرنسي عن نصرت فاتح علي خان كمغن لا يخلب لب المشاهدين بأغانيه فحسب، بل أيضا بتواضعه ونقائه)، وهم يتابعون "فيديو" لنصرت، يرقصون فرحين على إيقاعات "موست موست"، من دون أي شعور ديني. ترى، هل من طريقة أخرى أجمل وأجدر من هذه، في نشر الجانب المضيء من فكر أو معتقد ما؟ إن إيصال رسالة "الأولياء الصالحين"، المحجوبة بحُجُب المذهب والانتماء، والسير على خطاهم لا تتم في نظر نصرت إلا عبر موسيقى قادرة على فهم روح اليوم ومتطلبات الأذن المعاصرة وهز نياط القلب المؤمن حتى يكون على دراية بتطورات الروح وببيئتها الجديدة التي تدعوه إلى أن يتوضأ بماء زمزم جديد: التداخل الثقافي. ولعلّ سائلا يسأل: "لكن، كيف يشعر نصرت حول ناس لهم معتقدات أخرى؟" سيجيب نُصرت، بكل بساطة: "إن لكل نفس حقّ العيش وعبادة خالقها. الصوفية رسالة مودّة وهدوء لتوحيد الشعوب المختلفة. شعب الله يفهم هذه الرسالة. إنها مهمّتي لمشاركة هذه الرسالة جميع الناس". جمالية نصرت الغنائيةمذهلة، لأنها تكمن في قدرته على مزجمادتي الشعر الصوفي الأساسيتين: "الخمرة" و"العشق الإلهي"، بطريقةيُرفع معها الحاجب بين "التحبب إلى الله" و"الحب الدنيوي". فمثلا، يستطيع المتدين أن يتوسل عزاءه الروحي في أغاني نصرت، وفي الوقت ذاته يمكن لعشيقين دنيويين أن يتجاسدا داخل هذه الفضائية التي يسوقها نصرت شاقا بحر الكون صوب آخر مرفأ من مرافئ الوجد ولذة الحواس. مِن ثم، نفهم لماذا كان نصرت فاتح علي خان يقبل باقتراحات مايكل بروك أن تُختزل كلمات بعض الأغاني الى مجرد ألفاظ لا تؤدي معنى. "فالموسيقى لغة عالمية بجوهرها" كما وضح نصرت، مشيرا الى أن المرء لا يحتاج الى فهم الكلمات لتقدير موسيقاه. ثم يضيف موضحا "أنا لست صوفيا وإنما أتابع الصوفية. هاكم قصة توضح ما أعنيه: ذات يوم جاء رجل الى أبي وطلب منه أن يغني له، لكن ليس لديه سوى روبية واحدة. قال له أبي "حسنا سأغني لك مقابل روبية واحدة. وأخذه إلى ساحة مكشوفة، جلسا وسطها وطفقا يغنيان. وإذا بالساحة تمتلئ بالبشر. لم يعرفا من أين جاء هذا الحشد من الناس. هذه هي الصوفية. لم يكن الأمر حب أبي للمال وإنما للموسيقى التي كانت تغمر كل كيانه". والموسيقى القادرة على فعل التوحيد هذا، نجدها في اسطوانته "أغنية ليلية" تصل ذروة الإيقاع الشفاف ففي هذه الاسطوانة، ليس فقط تتعاشق الآلات الغربية في اقصى تجريباتها مع الشرقية، بل كذلكنشعر وكأننا في "ديسكو" رواده متصوفة وعشاق، تسوده ثمالة روحية ليست وليدة جرعات الكحول، بل هي مسيل هذا الشعور الذي يجتاح المرء في لحظة حب جسدي وعيناه ثملتان بوجه المحبوب حيث تشرد الحواس. إذن، في حضرة هذا القوّال الكبير، نحن لسنا بصدد قنينة ويسكي تطيح بشعراء في أرض أوهام لذة صغيرة، بل بصدد نشوة كونية غالبا ما تتألق شرارتها في أعماله حتى كأنها هي المسألة الوحيدة.