التّرقيع.. ثم التّرقيع.. ولا يُتقنون إلا سياسةَ التّرقيع.. أما حلُ المشاكل من الأساس، فهذا ليس في قامُوسِهم.. لا وجودَ في قامُوسِهم لتجريم التفقير والتجهيلِ والتهميش.. وإذا لم يكُن تفقيرُ المواطنين جريمة، فما معنى قوانين "حقوق الإنسان"؟ وما معنى أن تُشْرف الحكومةُ نفسُها على تفقير الفُقراء، وإغناءِ الأغنياء؟ وما مفهومُ دولة المؤسسات؟ وفصلِ السُّلط؟ ويا عجبًا! حتى عندما يكونُ كلامٌ عن الوطن، يحسبُون أن الكلام عنهم، هم وحدهم.. فهُم يعتقدون أنهم هم يحتكرون الوطن.. ويحتكرون الوطنية.. كما يحتكرُون تاريخَ الوطن، والوطنية، ومُستقبلَ الوطن والوطنية.. ويظنون أنهم ورثوا كلَّ شيء، حتى المواطن.. إنها "عقلية" اللاشعور، المتجذّرة في نفسية الكراسي الحاكمة.. وهذه الكراسي، في المركز والجهات، هي عُقدةُ كلّ المساوئ التّدبيرية عندنا والتّسييرية.. ومنظومتُنا السياسية هي السبب.. هي عُقدةُ العُقَد.. هي مُشكلتُنا الكبرى.. هي ما يجبُ أن يعاد فيه النظر، جملةً وتفصيلاً، وإلاّ فلْنَنْتظر أنْ يقعَ ما نتوقّع، وما لا نتوقّع.. - وفقرُنا ليس فقرًا طبيعيًّا.. ولو كان طبيعيًّا، لقَبِلْناه، ولاعْتبَرناه كما اعتبرَه آباؤُنا وأجدادُنا، ناتجًا عن خُمولِنا، لا غير.. ولتَأكَّدْنا أنّ ما علينا إلا أن نُشمّر عن سَواعدِنا، لكي نتطوّر، ونُنمّي أنفُسَنا وبلدَنا، فنكُونَ في المستوى المطلوب.. لكنَّ فقرَنا مصْنُوع، مُفَبرَك، وليس نُسخةً ممّا كان عليه أسلافُنا.. فقرُنا نتاجُ منهجيةٍ سياسية، شاركت فيها جُلُّ عناصرِ المنظومة السياسية ببلادنا، بما فيها شبكاتٌ منسوبةٌ إلى الثقافة، وهذه تناوبَت على كراسي القرار، واستَلَبَت من جُلّ المواطنين الخدماتِ السياسية.. وأنشأتْنا على مفهومٍ غريب، هو التأقلُم مع الفساد، والتطبيع مع سلوك سياسي قائم على اعتبار السياسةِ العمومية طلاقًا أبديًّا مع المصلحة العامة.. وألِفْنا أن السياسة ليست خدماتٍ للبلد، ولا للمجتمع، بل هي تهديدٌ ووعيدٌ وترعيبٌ ونهبٌ لحقوق الناس.. واعتَبَرْنا أنّ إقدامَ السلُطاتِ على نهبِ ثرواتِ بلدِنا، مسألةٌ من حقوقِها.. وأنها ما دامت هي تحكُم، لها كلُّ الصلاحيات، حتى خرق القوانين التي هي نفسُها قامت بإعدادِها وصياغتِها.. وعلّمَت الانتهازيين واللصوصَ أنّ تسلُّقَهم إلى مؤسسات الدولة، يُخوّلُهم حقَّ الطّغيان والاستبدادِ ونهبِ كل الثروات، بما فيها ثرواتُ البلد، وصناديقُ الدولة.. وحسِبَ كثيرٌ من مسؤولينا أن الكراسي تعني التحكّمَ في كلّ شيء، وأن من حقّها أن تُورّثَ أبناءَها حتى البشر.. - وهذا منطقُ الإقطاع! والإقطاعيون الجُدُد يصُولون في البلاد ويجُولون، بالطّولِ والعرض.. ولا حسيبَ لهم ولا رقيب.. ومن هُنا جاء ما ليس فقرًا طبيعيًّا، بل هو تفقير.. الإقطاعيون الجدُد يفعلون في البلاد ما يريدون، كما يريدون، وكأنهم فوق القانون الوطني، وحتى المواثيقِ الدولية! والحكومةُ تكْذب عليناُ بالليل والنهار.. وحُثالةٌ هنا وهناك، ليس لها أدنى جزُءٍ من ضمير.. وبدلَ التّهدئة، يُصعّدُون، وكأن الحلّ الاجتماعي هو التّصعيد، والتخويف، والترعيب.. ولا يُدركون أن وقت الخوفِ قد ولّى إلى غيرِ رجعة.. وأنّ الحلّ هو إعطاءُ كلِّ ذي حقّ حقَّه.. ولا حلَّ إلا الحقُّ والواجب.. ولم يعُد مقبُولاً أن يتملّص كبارُ الأباطرة من الضرائب، ولا أن تشرئبَّ أعناقُ من في القبُور، لحماية من يحملون ألقابَها.. ولا يهمّنا لا أبوك ولا جدُّك ولا قبيلتُك.. يهمّنا سلوكُك.. وما أنتَ فاعل.. من فعلِك نستطلعُ من أنت.. هل من معدن ثمين؟ وتهمُّنا الحقوقُ والواجبات.. الحقوقُ حقوق.. والواجباتُ واجبات.. ولا مجالَ للعبث بحقوق الناس.. وبالوطن والمواطنين والوطنية.. ومن يَكذبون، لا يَكذبون إلا عن أنفُسِهم.. هم يكذبون على أنفُسِهم، ويُصدّقون أنفُسَهم.. ثم ينسون أنفُسَهم، ويُردّدون كذباتٍ سمعناها من سابقيهم، منذ عقود من الزمن.. وهم يسرقُون حتى أكاذيبَ السابقين.. وينسبونها لأنفُسهم.. حتى الأكاذيب ينسبونها لأنفُسِهم.. ويُورّثون أبناءَهم وبناتِهم أن التحايُلَ على المواطنين هو ذكاء، وأنهم هم أذكياء، وأنّ غيرَهم أغبياء.. وما زالوا يحسبُوننا أغبياءَ مؤهَّلين لتقبُّلِ مزيدٍ من التفقير والتجهيل، وبالتالي مزيدٍ من الاستبداد.. لم تصلْهُم أخبارُ التطوُّر التّوعوي التواصُلي.. يحسبُون أنهم وحدَهم يفهمُون.. ووحدَهم لهم ذاكرة.. ووحدَهم أصحابُ حقّ في ما على الأرض، وتحتَ وفوقَ الأرض.. أثرياءُ جاثمون على ظهر الفُقراء.. جراثيمُ لا تُصدّقُ أنّ الهاتف المحمول هو يقودُ ثورةً عالميةً في كل الحقول.. جراثيمُ محدودةُ الإدراك.. لا تُصدّق إلا ما تمارسُه من سرقات، وتدليس، وتهريب، وتواطؤ مع كثير من الكراسي.. ولا تستوعبُ أن الوقت يدور.. وأن الأرضَ تدُور.. والسماء تدُور.. والأحوالَ لا تكُفّ عن الدّوران.. وأنّ يومًا لك، ويومٍا عليك.. - وأن غدًا لناظرِه قريب! [email protected]