عصرُنا لا يختلفُ عن العصرِ الجاهلي، إلاّ في التكنولوجيا المتطوّرة التي صنَٓعها غيرُنا، وقُمنا نحنُ باستيرادها.. وما عدا التكنولوجيا، في واقعنا اليومي، ما زلنا نُسخةً طبق الأصل - تقريبًا - من العصر الجاهلي.. وحتى الجاهلي تفوّقَ علينا في الشّعْر.. ونحنُ تَخلّفنا.. وهبَطنا بالأخلاقياتِ المواكِبة للشعر.. أخلاقياتٌ منها الأمانة، والشهامة، والكرم، وغيرُ هذه من «عزّة النفس» التي كانت سائدةً في عصر «المعلّقات»، بشبه الجزيرة العربية.. واليوم، لا اختلاف بيننا، نحن المغربُ والمشرق، من حيث التدنّي السلوكي.. هناك، مثلما هي حياتُنا هُنا، نحنُ على نمط اجتماعي واحد: الباديةُ خاضعة لتقاليد يقودُها زعماءُ القبائل، وطبعا ظلمٌ اجتماعي مُمتدٌّ من العصر الجاهلي إلى الآن، ونظرةٌ دونية إلى فئاتٍ اجتماعية منها المرأةُ والطفلُ والمستضعَفُون.. حتى المجتمع، كما هو عندنا، مُقسّمٌ إلى فئات ثلاث، متفاوتةٍ متباعِدة، لا مجالَ للمقارنة بينها: 1- الاغنياء: وهم الهرمُ الاجتماعي، يتحكمُون في السلطة والثروة والقوانين والعدل، وكلِّ مؤسسات الدولة.. وهؤلاء هم فوقَ القانون.. 2- الطبقةُ المتوسطة: وتضمُّ الأُجَراءَ والمستخدَمين.. 3- قاعدةُ الهرم الاجتماعي، وتضم الطبقةَ المسحوقة التي كانت تسمَّى في العصر الجاهلي: الفقراء، والخدَم، والمشردين... ماذا تغيّر عندنا منذ العصر الجاهلي، ونحنُ الآن في التكنولوجي؟ لا جديد.. التفقيرُ هو التفقير.. السادةُ هم السادة.. عقليةُ «الأشراف» هي هي.. الإقطاعيةُ هي هي.. وفئةُ المعذبين، من خدَم وجَوَارٍ، ما زالوا جزءًا، لاشُعوريا وعمليا، من «مُمتلكات» الأغنياء.. نفسُ عقلية الجاهليةِ القديمة ما زال معمولاً بها بين جُدران بناياتٍ فخمة، على أيدي «سادةِ القوم».. الاستغلالُ هو الاستغلال.. والاستغلاليون فوق القانون.. وفي مُعاملاتهم يتكرس البؤسُ والاضطهادُ والجهلُ والتجاهلُ والمرض.. وهذه هي نفسُ السلوكات الاجتماعية التي كانت سائدةً في العصر الجاهلي.. وكل ما يملكه الفقراءُ يعتبره الأغنياءُ من حقوقهم.. و يتواطأ مسؤولون في الدولة مع هذه النخبة الثرية، للاستيلاء على أراضي الفقراء، إما عن طريق الترامي المباشر، أو بطريقة قانونية، من نمطِ «تصميمِ التهيئة».. ويصبح كل الفقراء، وما يملكونه، جزءا من ثروات الأغنياء.. وهذا التوريثُ ما زال جاثما في عقلية الجاهلية العصرية، لدى أثرياءِ البوادي والحواضر الذين يتحكمون في حياة الناس، ويقومون بتضخيم ثرواتِهم الرّيعية، وتوسيع دائرةِ نُفوذهم مع كبار المسؤولين في السلطات التنفيذية والتشريعية وغيرهِما ممن أصبحوا يُفْقِرون من يشاؤون، ويُغنون من يشاؤون.. ولم يعُد في بلادنا فرقٌ من حيث العقليةُ والسلوكُ بين العصر الجاهلي والعصر التكنولوجي، ما دام السلوكُ القديمُ هو نفسُه السلوكُ الحديث.. ويحدث هذا الامتدادُ السلبي بين الماضي والحاضر، حتى بوجود رسالةٍ سماويةٍ إلى بني البشر.. أما آن الأوانُ للبحث سويّةً عن حل جذري لعُمق المشكل الاجتماعي المستشري في منطقتنا، منذ العصر الجاهلي إلى الآن؟ إن المنطقة قد تعاقبت عليها أديان.. والأديانُ من إله واحد.. وذاتُ خطابٍ إنساني واحد.. إلى بَشرٍ واحد.. على أرضٍ واحدة.. هل عجَزت الأديانُ عن التقريب بين حقوق الإنسان؟ هل عجزت عن إقرارِ حقوقٍ وواجبات؟ ألم يستطع الإنسانُ أن يستمدَّ من خطاباتِ السماء، ومن تَجاربِ الأرض، حُلولاً جذرية لظُلم الإنسانِ لأخيه الإنسان؟ وتنافُس أديانٍ مع بعضِها، حتى وجميعُها من مَصْدرٍ واحد؟ نستطيع، إذا نحنُ فكّرنا جدّيا في أن مخاطرَ تُهددنا جميعا، وألا خيارَ أمامنا إلا التعايش، بأمنٍ وأمان، واحترامٍ والتزامٍ بالمسؤولية.. وأولُ الطريق أن نعود إلى أدبياتِ «الأممالمتحدة»، ونَبني عليها ما يلي: - كلُّ الناس إخوة.. - كلُّ الأديان دينٌ واحد.. كلُّها تدعو إلى السلمِ والسلام.. - وجميعُها من إلهٍ واحد... وعندها، نكتشفُ أن الفرقَ بيننا موجودٌ فقط في طُرق العبادة، وليس في جوهر الأديان.. الجوهرُ واحد.. الحقيقة واحدة.. النَّاسُ لا يختلفون إلاَّ في الشكليات.. لا في الجوهر الديني وهو: الاحترام، السلام، التعاون، التآزر... وسيكونُ هذا مَسْلكًا يقودُ فعلا إلى تفاهُم حول ما يجمعُنا، وتجنُّبِ ما يُفرقُنا.. وأنّ مصلحتَنا المشتركة تتمثلُ في عيشٍ مشترك، وقانونٍ إنساني، وسلامٍ عالمي.. وهكذا نعيشُ سويّة، باحترامٍ وأمان، وإلاّ كان مآلُنا: الإنهاءُ المتبادَل.. وقيادةُ أنفُسِنا بأنفُسِنا، وبغباء، إلى طُوفانٍ يُشبه ما رمَزت إليه «سفينةُ نوح»! فما العمل؟ هل نُعْمِلُ العقلَ والنّباهةَ والحكمة؟ أم ننتظرُ تدخُّلاً حاسِمًا من السَّمَاء؟ [email protected]