لقد تأثر زهير بن أبي سلمى(1)، وعلى غرار شعراء الجاهلية بعوامل عدة، كان لبعضها أثر واضح على سلوكه وشخصيته، ومن ثم على أشعاره . 1. أثر البيئة والطبيعة : ونعني بذلك طبيعة الجزيرة العربية الصحراوية، على نحو ما قلناه عن عنترة. ويظهر التأثير البيئي واضحا في كثير من شعر زهير، ومن خلال حديثه عن هول القحط والجفاف، ومعاناة الترحال والتنقل المستمر أحيانا، والخصب والعطاء أحيانا أخرى، بأسلوب المعاين المعايش لحياة الرحلة. بل لقد مارس زهير الترحال في وقت مبكر من حياته، حتى لقد « أصبح غطفانيا وهو مزني النسب»(2)، وعانى بفعل ذلك من آثار الغربة. ونجد صدى هذه المعاناة في قوله مثلا : فَقَرِّي فِي بِلادِكِ إنّ قوماً متَى يَدَعُوا بِلادَهُمُ يَهُونُوا(3) وقوله: ومَنْ يغتربْ يَحسبْ عدوّاً صَديقَهُ ومنْ لا يُكرِّم نَفسَه أو يُكَرَّمِ (4) وإلى جانب ذلك، كان للتقلبات الطبيعية بخصوبتها وعطائها، وجفائها وشحها، أثر بالغ في نفسية شاعرنا، كما كان لها أبعاد نفسية تعكس ما كان يعانيه من فراق الأحبة، والبعد عن الإلف، والحنين إلى الديار، والتي كانت تربطها بنفس الشاعر ذكريات حلوة أو مرة. « وكان ذكرها يهيج كوامن وجده، ويثير في نفسه فيضا من المشاعر والعواطف وسيلا من التعابير المفعمة» (1). وأفضل مثال على ذلك قوله: أمِن أمّ أو فِي دِمْنَةٌ لمْ تكلَّمِ بحَوْمانَةِ الدُّرَّاجِ فالمُتَثَلَّمِ؟ ودارٌ لهَا بالرّقمَتينِ كَأنّها مراجعُ وشْمٍ في نَواشِر مِعصمِ بها العِينُ والآرامُ يَمشينَ خِلفةً وأطْلاؤُها ينهضْنَ مِن كل مَجثِمِ وقفْتُ بهَا من بَعدِ عِشرين حِجَّةً فَلأْياً عرفْتُ الدّارَ بعْد التَّوهُّمِ(2) وقد خلقت هذه البيئة، وتلك الظروف من زهير،كما يبدو من شعره، « رجلا وقورا متزنا مسالما أمينا، كريما جادا، يكره الحرب والعدوان، ويحب الحق والخير والعدالة»(3). ولعل في ذلك كله رد فعل رافض إزاء ما تميز به عصره من حزازات و تعصب قبلي، وما تميزت به بيئته من قساوة. وهذا يفيد في القول بأن الطبيعة كانت من العوامل المؤثرة في شخصية زهير، كما كانت باعثا من بواعث شعره. 2. أثر الوراثة الشعرية : من طريف الأخبار التي أخذها الدارسون بعين الاعتبار، فيما يخص حياة زهير « أنه لم يجتمع لشاعر في الجاهلية قط من الشعراء، كما اجتمع له»(4)، « فقد كان أبوه ربيعة بن قرط المزني شاعرا، وكان خاله بشامة بن الغدير الغطفاني شاعرا، وكانت أختاه سلمى والخنساء شاعرتين و كان) ابناه كعب وبجير شاعرين[...] وكان زوج أمه أوس بن حجر شاعرا مشهورا، وعلى يده تلميذ زهير»(5). وقد كان لهذا الوضع أثره، ولاشك على نفسيه هذا الشاعر، إذ من شأنه أن يربي فيه منذ نعومة أظافره الرغبة في قول الشعر، والتطلع إلى منافسة أهله في النظم. وقد تحققت له هذه الرغبة، وصنفه النقاد ضمن طبقة متقدمة من فطاحل شعراء الجاهلية، بل قال بعضهم: « إنه أشعر الناس» (1). كما أتاح له هذا النبوغ الموروث، مكانة مرموقة في بيته، وقبيلته لا يضاهيها إلا مكانة الفارس المحارب. وهذا يعني أن طبيعة البيئة الشعرية التي عاش فيها زهير، قد أكسبته مكانة لائقة داخل القبيلة، فنال بذلك سداد الرأي، وعلو الأنات، والوقار، والاحترام، والتقدير، مما مكنه من الوصول إلى منزلة الكمال الفني في النظم بين شعراء عصره، ومنزلة سامية ورفيعة بين أفراد مجتمعه. كما يعني هذا أن الوراثة الشعرية كانت من الوجوه الأخرى العامة، التي أثرت في شخصية زهير، الإنسان والشاعر، ومن البواعث التي ساهمت في تكوين شعره. 3. أثر العقيدة والدين : امتاز زهير عن باقي أفراد عشيرته بثروة فكرية، أهلته ليقف موقف الحكيم الذي يؤخذ برأيه، ويهتدى بمشورته. « كما زودته الحياة المديدة التي عاشها خبرة عميقة بشؤون الحياة، وأخلاق الناس، فصب خلاصة تجاربه في قالب حكم ينتفع بها الناس، ويهتدوا بها»(2) . ولعل تحليه بهذه الصفات، كان من البواعث التي حملت بعض الرواة على أن يصنفوه في عداد المتألهين. فقد قال ابن قتيبة: « وكان زهير يتألّه ويتعفف في شعره[...]»(3). وذلك ما نجده بالفعل مثبوتا في تضاعيف قصائده، التي تناول فيها إيمانه بالبعث والحساب والربوبية. ومن ذلك قوله: فلا تكتُمنَّ اللهَ ما فِي نفُوسِكُم لِيخْفى ومهما يُكْتَمِ اللهُ يعلَمِ يُؤَخَّرْ فيُوضعْ في كتابٍ فيدَّخر ليومِ الحسابِ أو يُعجَّلْ فيُنقَمِ(4) وقوله: بَداليَ أنّ الله حقٌّ فزَادني إلى الحقِّ تَقْوى الله ما كان بَادِيا ألاَ لاَ أرى على الحوادِثِ باقِيا ولاَ خالِداً إلا الجبالَ الرَّواسياَ وإلا السَّماءَ والبلادَ وربَّنا وأيَّامنَا معْدودةً واللَّياليَا(5)
كما كان يرى أن الموت قدر محتوم لا مفر منه، وأن كل شيء معرض للفناء والانتهاء، مثل قوله: ومن هابَ أسْبابَ المَنِية يلْقَهَا ولوْ رامَ أسْبابَ السَّماءِ بِسُلَّمِ(1) وفي قوله : رأيْتُ المنايَا خَبْطَ عَشْواءَ مَنْ تُصِبْ تُمِتْهُ ومنْ تُخْطئْ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ(2)
وفي قوله: والمَالُ مَا خَوّلَ الإلهُ فلا بُدَّ لَه أن يَحوزَهُ قَدَرُ(3) فالإنسان في نظره، رهين بتقلبات الدهر وصروف القدر، وأن المرء لا حول له في استكناه الغيب، كما في قوله: وأَعلمُ عِلمَ ما فِي اليَومِ والأمسِ قبْلهُ ولكِنّي عنْ علمِ ما في غدٍ عِمي (4) وبفعل هذه المعتقدات صنفه بعضهم « في عداد النصارى»(5) . وقد استندوا في ذلك إلى ما ظهر من ملامح التقوى والورع في أشعاره، « وقُرب قبيلة غطفان من بلاد الغساسنة، حيث النصرانية هناك»(6) . وفي هذا الصدد كتب بروكلمان: « وقد برز عنصر التهذيب والتعليم بقوة في شعر زهير، ولا سيما في معاني العتاب والزهد، حتى ظن بعض العلماء أنه خاضع لتأثير النصرانية، نعم، كان تأثير النصرانية واسع الانتشار قديما في جزيرة العرب، بيد أنه لا يجوز من أجل ذلك عده نصرانيا»(7) . وفي نفس السياق لم يطمئن إحسان النص إلى أن زهير دان بما يخالف عقيدة قومه الوثنية، معتبرا أن وثنيته لم تكن تنفي إيمانه بإله واحد، فيقول: « فليس ثمة ما يحملنا على الاعتقاد بأن زهيرا كانت له عقيدة غير عقيدة قومه الوثنية، فنجد أنه كان يقسم في شعره بالبيت الحرام الذي كان الوثنيون يعظمونه: فأقْسَمتُ بالبَيْتِ الذي طَافَ حولَهُ رِجالٌ بنَوْهُ منْ قريشٍ وجُرْهُمِ (1) ونجده كذلك، يقسم بالله تعالى في بعض شعره: تَالله قد علمَتْ سَراتُ بني ذُبْيانَ عَامَ الحَبْسِ والأصْرِ (2) وهذا الدليل لا يكفي للتأكيد عل وثنيته، إذ كان كثير من الجاهليين يذهبون هذا المذهب، و ورد لفظ "الله" كثيرا في أشعار شعرائهم. وعلل بعض المستشرقين ورود هذا اللفظ في الشعر الجاهلي بكونه إسما عاما، لا يخص صنما معينا، والشعراء الجاهليون استعاضوا عن ذكر أصنامهم الخاصة بذكر هذا اللفظ لاشتراك القبائل جميعا فيه، ومن الباحثين من ذهب إلى أن اللفظ إنما هو تحريف لكلمة "اللاّت" قام به رواة الشعر ليزيلوا آثار الوثنية منه(3) . على أن ما يهمنا نحن، سواء أكان زهير نصرانيا أو وثنيا، هو أن الاختلاف لا ينفي ما تميز به الشاعر من تعفف وتأله، وما يرتبط بذلك من عقلية مؤمنة، ظهرت على سلوكه الشخصي من الناحية الخلقية. ويهمنا أيضا أن عامل العقيدة و الدين كان من العوامل المؤثرة والمحددة لشخصية زهير، وباعثا هاما من بواعث شعره. 4. عامل الحرب : اصطلى الجميع في العصر الجاهلي بنار الحرب، الكاره مثل الراغب، بل تراموا فيها ترامي الذباب على الأقذار، إذ هي أمنيتهم ومبتغاهم، على نحو قول زهير : إذا فَزِعُوا طَارُوا إلى مُستَغِيثِهِمْ طِوالَ الرِّمَاحِ لا ضِعافٌ ولا عُزْلُ وإنْ يُقْتَلُوا فيُشْتَفَى بدِمَائِهمْ وكَانُوا قَديماً مِنْ مَنَايَاهُمُ القَتْلُ وإنْ يُقْتَلُوا فيُشْتَفَى بدِمَائِهمْ وكَانُوا قَديماً مِنْ مَنَايَاهُمُ القَتْلُ(4) أجل، كان هذا العصر عصر حرب، وغزو، ونهب، « وكانت العشيرة من العشائر لا تنفك تغزو حينا وتغزى حينا آخر، حتى سئمت الأرض من كثرة ما علّت من دماء، وضمّت من أشلاء،[...] وكلّت السواعد من طول ما جشّها تأويب النهار، ولا إسآد الليل[...] وجاشت القلوب بضغائنها، وضاقت النفوس بأحقادها و ودّت العقول النيرة، والبصائر الصادقة، لو نفّس عن الأمة هذا الكرب إلى نور يهدي الأعين ويضيء القلوب».(1) وخلاصة ما قيل عن الحرب ، إنها كانت نتاجا طبيعيا لعدة أسباب: منها ما ارتبط بالحياة المعيشية عند العرب وظروفها القاسية التي فرضت عليهم التنافس من أجل ضمان البقاء، ومنها ما كان بسبب الذود على الرياسة أو بسبب التعصب للقبيلة أو دفاعا عن الشرف...(2) . ومما لا شك فيه أيضا، أن للحرب أثرا بالغا في إذكاء القرائح، ونبوغ الشعراء وإبداعهم للقول الموزون في الدعوة إلى إذكاء نار الحرب والحمية والعصبية، أو الدعوة إلى إيثار الصلح والتسامح وحب السلام.« وقد كان زعيم هؤلاء القادة، وحامل لوائهم إلى السلم، زهير بن أبي سُلمى»(3) . فقد شهد، ولا غرو، الكثير من الحوادث والحروب والأيام، وخاصة حرب "داحس والغبراء"، وعاين ما خلفته هذه الحرب من مآس دامية، وآثار سيئة في حياة "عبس وذبيان"، مما أثر على سلوكه الشخصي وشعوره، فسخر كثيرا من شعره للدعوة إلى نبذ الحرب، والإشادة بأنصار السلم وبخصال الداعين إليه. ولنا مثل على ذلك في إشادته بهرم بن سنان والحارث بن عوف لموقفهما النبيل في حمل ديات القتلى، ودورهما في عقد الصلح بين القبيلتين المتحاربتين، حيث قال: سَعى سَاعِيا غيْظِ بنِ مُرَّةَ بعْدمَا تَبَزَّلَ مَا بَينَ العَشِيرَةِ بالدَّمِ فأقْسمتُ بالبيتِ الذي طَاف حولهُ رجَالٌ بَنَوهُ مِن قُريشٍ و جُرْهُمِ يَمِيناً لنِعْمَ السّيدَان وُجِدْتُمَا عَلى كلّ حَالٍ من سَحِيلٍ ومُبْرَمِ تَداركْتُما عَبساً وذُبيانَ بعْدما تَفانَوْا ودَقّوا بَيْنهُم عِطْرَ مَنْشِمِ وقَد قلتُما: إنْ نُدْركِ السّلمَ واسعاً بمالٍ ومَعْروفٍ منَ الأمرِ نَسْلَم(4) وفضلا عن ذلك، حرص زهير في كثير من قصائده على ذكر الآثار السلبية التي تخلفها الحرب، كما في قوله: ومَا الحَربُ إلاّ مَا علمتُمْ وذُقْتُمُ وما هو عَنهَا بالحَديثِ المُرَجَّمِ متَى تَبعثُوهَا تبعَثُوهَا ذمِيمة وتَضْرَ إذا ضَرّيْتُمُوهَا فتَضْرَمِ فتَعْرُكْكُمْ عَرْك الرَّحى بثِفالهَا وتَلقحْ كِشافاً، ثمّ تَحملْ فَتُتْئِمِ فتُنتَجْ لكُم غِلمانَ أشْأمَ كُلُّهمْ كأحْمَرِ عَادٍ ثُم تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ فتُغْلَلْ لكمْ ما لا تُغِلُّ لأهلِهَا قُرًى بالعِراق منْ قَفِيزٍ ودِرهَمِ(1)
وهذا كله يفسر نفور زهير من الحرب، وحبه للسلام، مما جعله يكسب محبة العشائر، وينال منزلة رفيعة، وسمي بالتالي من طرف الرواة " برجل السلام". ولا شك أن التجاوب الذي لقيته دعوة ابن أبي سلمى، كان له بدوره تأثير كبير في نفسه، وعلى شخصيته، و أن هذا التأثير كان، ولا ريب، إيجابيا. 5. عامل الثروة والترف حدثنا التاريخ، أن زهيرا نشأ نشأة كريمة في حجر خاله بشامة بن الغدير الغطفاني، وأنه لما مات هذا الأخير ورثه زهير، فأصبح من ذوي الثروة(2). ومن جهة أخرى سخر زهير نصيبا مهما من أشعاره في المديح، على عكس كثير من الشعراء الذين اهتموا بالقول في التعصب القبلي، مما جاد عليه بأموال طائلة انضافت إلى ما ورثه من خاله، والملاحظ ان زهيرا لم يَجُد في ارتزاقه بمدحه على « كل من جاد إليه بالعطاء، كما فعل الأعشى، والحطيئة مثلا، وإنما وقف مديحه على سادة غطفان الذين يمت إليهم بواشجة القربى، والذين كانت لهم مآثر مذكورة في قومه، [...] كسنان بن أبي حارثة، وابنه هرم بن سنان، والحارث بن عوف، وحصن بن حذيفة الفزازي الذبياني، والحارث بن ورقاء الصيداوي الأسدي»(1). وقد جاد عليه هؤلاء بعطايا وافرة، نجد أخبارها واضحة عند الرواة بل لقد حملت كثرة ما ناله زهير من عطاء: « عمر بن الخطاب على أن يسأل أحد ولده، ما فعلت الحلل التي كساها هرم أباك؟، قال: أبلاها الدهر، قال: لكن الحلل التي كساها أبوك هرما، لم يبلها الدهر»(2). وأشهر ما روي عنه، قوله في مدح هرم بن سنان : قدْ جعلَ المُبتغونَ الخَيرَ في هَرِمٍ والسّائلونَ إلى أبْوابهِ طُرُقاَ يَطلبُ شَأْوَ امرأيْنِ قدَّمَا حَسَناً نَالاَ المُلوكَ وبَذَّا هذه السُّوقاَ هو الجَوادُ فإنْ يَلحقْ بشَأْوهِماَ علَى تكَاليفهِ فمثلُهُ لحِقاَ أو يَسبِقاهُ على ما كَانَ من مَهَلٍ فمِثلُ ما قدَّمَا منْ مَصالِحٍ سَبَقاَ(3)
وقد جاد عليه هرم بن سنان بعطايا وافرة، نجد أخبارها واضحة عند الرواة، بل لقد حملت كثرة ما ناله زهير من عطاء: « عمر بن الخطاب على أن يسأل أحد ولده، ما فعلت الحلل التي كساها هرم أباك؟ قال: أبلاها الدهر، قال: لكن الحلل التي كساها أبوك هرما لم يبلها الدهر»(4) . وهكذا كان زهير كثير المال، وصاحب سمو وجاه، حتى لقد عده أحد النقاد « ممن فقأ عين بعير في الجاهلية، وكان الرجل إذا ملك ألف بعير فقأ عين فحلها»(5) . ويهمنا من هذه الحيثيات المادية، ما خلفته من أثر بالغ في نفسيته ومشاعره، حددت هي الأخرى معالم شخصيته وسلوكه، ومركزه. وعلاوة على ذلك، كانت هناك مؤثرات أخرى، تتميز بكونها ظرفية، لكن لها أثرها في حياة زهير. ونخص بالذكر منها، علاقاته المتوثرة ببعض زوجاته والتي سببت له أحيانا بعض المعاناة من الناحية العاطفية. فقد ذكرابن الأعرابي : أن زهيرا تزوج امرأة تدعة "أم أوفي"، ورزق منها أولادا، اختطفتهم يد المنية مبكرا، فتشاءم منها وكرهها، ثم تزوج عليها امرأة اخرى تدعى: كبشة بنت عمار بن سحيم أحد بني عبد الله بن غطفان. وإذ أسعفه الحظ مرة أخرى، ورزق منها أولادا هم : كعب وبجير وسالم (1) ، فإن سوء سيرة كبشة، وسوء معاملتها له جعله يهجرها، حتى لقد ندم على تطليقه "لأم أوفى". ولما حاول أن يرجع إلى هذه الأخيرة خيبت آماله، ورفضت صلحه، فعاد مكسور الخاطر، يستشعر الندم، واكتفى بذكر اسمها في أشعاره طيلة حياته، كما في قوله بعد أن بلغ من الكبر عتيا: لعَمْركَ والخُطوبُ مغيِّراتٌ وفِي طُول المُعاشرةِ التَّقَالي لقد باليتُ مَظْعنَ أمِّ أوْفَى ولكنْ أمُّ أوفَى لا تُبالِي فأمّا إذ ظَعَنتِ فلا تقُولي لذِي صِهرٍ أُذِلتِ ولم تُذَالي أصبْتُ بنِيَّ منْكَ ونِلتِ منّي من اللَّذات والحُلل الغَوالِي(2)
وفي المقابل صور زهير في شعره بعض ما كان يقع بينه وبين امرأته كبشة من لوم وعتاب، وما كانت تتهمه به من بخل، رغم ما جاد به عليها، إلى جانب نظرتها المتعالية إزاء رجل طاعن في السن، فيقول: فيمَ لحَتْ؟ إنّ لومَها ذُعْرُ أحمَيتِ لوماً كأنّه الإبَرُ منْ غيرِ ما يُلصِق المَلامَةَ إل لاسُخفَ رأيٍ وسَاءها عُصُرُ حتّى إذا أدْخلَتْ مَلامَتهَا منْ تحتِ جِلدِي ولا يُرى أَثَرُ قلتُ لهَا: يا ارْبَعِيْ أقلْ لكِ في أشياءَ عندِي من عِلمِها خَبرُ والمَال ما خَوَّلَ الإله، فَلا بُدَّ لهُ أنْ يَحُوزَه قَدرُ(3) ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل لقد هجرته هذه الزوجة، ورفضت قربه كما في قوله: وقالتْ أمُّ كعبٍ: لا تَزِرني فلا واللهِ مَالكَ من مَزارِ رأيتُكَ عِبتَنِي وصدَدْتَ عنّي وكيفَ عليكَ صبْري واصطِباري؟ فلم أُفسدْ بنِيكَ ولمْ أُقَرِّبْ إليكَ من المُلِمَّات الكِبارِ(1) وإلى جانب جفاء الزوجة، كان لوفاة "سالم"، الإبن المحبوب من لدن زهير، أثر كبير على نفسية هذا الأخير. وفي هذا الصدد روى ابن الأعرابي : « كان لزهير ابن يقال له سالم جميلُ الوجه، حسن الشعر، فأهدى رجل إلى زهير بُردين(2) ، فلبسهما وركب فرسا له ( خيارا)، فمرّ بامرأة من العرب بماء يقال له النُّتاءة، فقالت: ما رأيت كاليوم قَطّ رجلا ولا بردين ولا فرسا أحسن. فما مضى قليلا حتى عثر به الفرس، فاندقت عنقه، وانشق البردان واندقت عنق الفرس، فمات»(3) فقال زهير يرثيه: رأتْ رجلاً لاقى منَ العيشِ غِبطةً وأخطأَه فيها الأُمورُ العظائمُ وشبَّ لهُ فيها بنُونَ وتُوبعتْ سَلامةُ أعوامٍ له وغَنائمُ فأصْبحَ محبوراً يُنظِّرُ حولهُ بمَغبِطَةٍ لو أنّ ذلك دائِمُ وعندِي من الأيّام ما ليس عندَه فقُلتُ: تعلَّمْ إنّما أنت حالمُ لعلّكِ يوماً أنْ تُراعِي بفاجِعٍ كمَا راعَني يوم النُّتاءَةِ سَالمُ يُدِيرونَني عن سالمٍ وأُديرهُمْ وجِلْدَة بيْن العَينِ والأَنْفِ سَالمَ (4) وهكذا، نستطيع القول في النهاية، إن الظروف الطبيعية والنشأة في بيئة شعر، والعيش في دار حرب، والسكن في منزل جود وكرم، وما ارتبط بهذا وذاك من معاناة وأحزان عاطفية، كان لها الدور الأساسي في تحديد الملامح الأساسية لشخصية زهير، ولشعره، ولعلها كانت وراء خصوصية الإبداع التي تداولها في أشعاره.