تنطوي الكتابة الشعرية عند الشاعر المغربي جواد أوحمو على قدر غير قليل من العفوية والبساطة. لكن ليست تلك البساطة المبتدلة. بل تنم عن عمق في الرؤيا الإبداعية.مكتظة بالمشاعرالحية. و المتجدرة في الذات وخبايا الحياة. إن الإبداع الشعري عند جواد أوحمو،لصيق بعناء الذات و مكابدة الشروط القاهرة لحياة الإنسان.إن هذا الأخير كائن زماني، يحن إلى الأبدية على حد تعبير الدكتور فؤاد زكريا(1).لكن تتسع مساحة الفناء/ الموت، فتتجه الذات/ الذوات نحو الإنهيار/ الموت. إلا أن الإنسان يواجه هذا الإنهيار/ الموت بالفن/ الإبداع. فهذا الأخير يخلد الإنسان ويقاوم إندثاره. لكونه ( الإبداع) أصدق من التاريخ في تصوير حياة الإنسان وامتصاص معاناته. قداسة الموت واللاوعي الجمعي: يقول أفلاطون:( مسكين هذا الإنسان ، الوحيد الذي يعي بأنه سيموت)(2). لذا فالإنسان هو أتعس مخلوق على وجه الأرض. لأنه يواري في لا وعيه هذا البعد المأساوي/ الموت الذي يحمله طوال حياته. لكن وإن كان هذا الوعي الجمعي يحمل بعدا مأساويا ، فإنه يقدس في الوقت نفسه ،مصدر مأساته الذي هو الموت. إنه كما تشير الباحثة الوجودية سيمون دو بوفوار يعمل على بناء الحياة من أجل الموت(3). إن أول ما يسجله القاريء في تناوله لديوان ( نوافذ مشرعة على الليل)،ذلك الحضور المكثف لتيمة الموت. فكثير من الشخصيات و الأحداث / الرؤى ، تظل معلقة بخيط من خيوطه بحركتها في مجرى الأحداث. تارة تقترب من الموت إلى حد يجعلها تلتحم به.وتدور في فلكه. و تارة أخرى تبتعد عنه. لكنها تبقى مبتوثة هنا و هناك في جل صفحات الديوان. من الصفحة الأولى ( إن لم نقل غلاف الديوان)، يدفع بنا الشاعر الى قداسه الجنائزي. إن عناوين قصائد الديوان ( على مستوى المعجم ) يرتبط حقل دلالتها / champs sémantique بالموت. أ النص الأول ( الصفحة 7): على هامش الموت. ب النص الثاني ( الصفحة 11): الغريب . فالإغتراب مرتبط بالتواري. أو الإختفاء. وهو وجه من أوجه الفقدان / الموت. ج النص العاشر( الصفحة 39): ليل المسافر . فالموت سفر الى العالم السفلي. أو إنتقال الى العدم ( بالتعبير الوجودي.). د النص الحادي عشر ( الصفحة 43): تراتيل الحزن . ه النص الثاني عشر ( الصفحة 49): صهيل في مقتبل الموت. يبدو أن هذه النصوص الشعرية ، تصدر عن موقف واحد. وتدور في فلكه. فكأنه محورها الذي تدور حوله. وتظل حركتها مرهونة بحركته. دون أن يعتريها ما يجعل منها أبعاضا متشرد مة مشتتة. وقد إنبتقت جل نصوص المجموعة منها. إلا أن هذا البعد الوجودي الذي منحه الشاعر جواد أوحمو لقصائده من خلال تيمة الموت، قد عرفه الشعر العربي على مر العصور وبشكل مكثف ومختلف في الوقت نفسة. خاصة الشعر العربي القديم. فتجربة الشاعر الحياتية، وشروطه قمينة بأن تحدد هذه الرؤيا التي قد تنبتق عن لا وعيه الفردي أو الجماعي. يرى الشاعر زهير بن أبي سلمى ، بأن الإنسان مقيد بحبال الموت.وقد تسلبه الحياة في أية لحظة. يقول : رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ° تمته ومن تخطيء يعمر فيهرم. أما غيره من الشعراء فقد رأى فيها بعدا إيجابيا. فالموت عند جميل بن معمر، وسيلة لتعويض الفراغ في الحياة.و البديل عن المعاناة. يقول جميل بن معمر: يا ليتني ألقى المنية بغثة ° إن كان يوم لقاءكم لم يقدر. إن البعد نفسه يراه الشاعر المعري. فالموت لديه يحمل بعدا إيجابيا. يقول: ضجعة الموت رقدة يستريح ال ° جسم فيها و العيش مثل السهاد . أما في الديوان الذي بين يدينا ( نوافد مشرعة على الليل) فالموت يرتبط بالفقدان ، بالحرمان و الفجيعة في الوقت نفسه. الموت / الفقدان: في أغلب قصائد الديوان ( إن لم نقل جلها)، تشغل الشاعر جواد وحمو قضية الوجود والعدم. ولغز المصير الحزين المحتوم للكائن/ الإنسان الذي ملأ الأرض علما وحضارة. فما حققه الإنسان في مجال التكنولوجيا وفي المجالات الأخرى، كان محاولة للتغلب على إحساسه المر بالفناء. لقد تألم وهو يرى نفسه سائرا بالإكراه إلى الموت.تاركا كل ما بناه و أحبه. عانى من إقفار في عالمه الداخلي. وسعى جاهدا من أجل إثرائه. وبدلا من أن يشعر بالطمأنينة و الدعة . ويتمتع بالرفاهية، بدأ يشعر بالعجز و الخوف .يقول في الصفحة 8 : ( سنمضي.... لا إلى تكوينك البدئي يا جسدي... ولكن ربما نمضي الى قبر...). هكذا يفجر الشاعر جواد وحمو السؤال الأزلي الذي لا إجابة عليه. من خلال مجموعة من الصيغ التي تقوم أحيانا على الجدل. غالبا ما يكون ذاتي/ تأملي ( حوار ذاتي أو مونولوغ).يقول الشاعر في الصفحة 9:( لأن الطقس يبرد بين قافية و قافية ونحن نسير في الليل المحنط لا ندرك أننا من دون مقبرة على الأرض...). إلا أن شواغل الشاعر التأملية و الوجدانية، المتجلية في مأساة الموت، ليست تأملات ذاتية. لأن الذات (في هذا الإطار) جمع بصيغة المفرد.مزيج من الأنا ، النحن و الأنتم، إلخ...يقول الشاعر( الصفحة 9، 10) أنا أنت الذي تأتي غدا وأنا الضمائر كلها ماض يفوت... وحاضر يأتي فلا تتعجل السفر البعيد إلى السماوات فلا أحد هناك....). يهيمن هذا الفقدان ( أو يكاد) على أغلب نصوص هذا الديوان. يرتبط هذا الفقدان / الغياب في بعض الأحيان بشكل مباشر بالإغتراب . في نص( الغريب). يتتجلى هذا الإغتراب : (غريب ساهر في ظلمة الليل القصي (....) مستاء من الموت المخيم في الحقيبة... يحتسي أيامه فوق الخريطة...) الصفحة : 12 ، 13. كما إرتبط هذا الفقدان بأشكال أخرى . كالرحيل مثلا في نص ( سديم التجربة ).يقول في الصفحة 17:( ها إنهم يرحلون عن البيت في حزنهم يدرعون المسافات في سفر هالك...). يتكرر هذا الرحيل كذلك في نص ( الجنود)، الصفحة( 32): وينطلقون مع الفجر، يغنون أغنية للرحيل البعيد، لنبكي مع الراحلين، ألخ... إن الرحيل هنا لا يعني التغيير و التجدد ( كما نجد في نصوص الاخرين)، لكنه يرتبط بالفقدان و الموت. يقول الشاعر في الصفحة 32: يغنون أغنية للرحيل البعيد لكي يتقنوا موتهم دائما في الغياب ولكنهم يفشلون فلا يتركون لنا غير أجسادهم في التراب...). إن هذا البعد التأملي،هو الذي يبين أهمية الشعر ( الإبداع عامة) لقد برزت هذه الأهمية على سبيل المثال لا الحصر في الشعر الجاهلي. فمن يقرأ هذا الشعر قراءة حسنة ( على حد تعبير الدكتور طه حسين) يكتشف هذه الأهمية.و أن هذا الشعر ساعد الإنسان العربي عصرئذ على إدرك العالم و الحياة. يبدو أن الشعر و إن إختلف من مرحلة لأخرى ومن شاعرلاخر، فإنه يلتلقي في أبعاده ورِؤاه أتجاه الإنسان و الكون. إرتبط هذا الغياب عند الشاعر جواد اوحمو من جهة أخرى، بعنصر زمني يتجلى في الليل. إذ يبرز بشكل جلي في أغلب نصوص الديوان. فعنوان الديوان نفسه نوافذ مشرعة على الليل يحمل هذا البعد الزمني( الليل). إن أبعاد الليل و دلالاته مبتوثة في أغلب النصوص. في نص ( ليل) الصفحة: 20. وحدك... تعبر في صمت طرقات الليل إلى البيت تخاف من القادم ليلا يطرق بابك... وفي نص ( ربابنة الليل) الصفحة: 36. الجنازات تعبر خلف نافدتي دائما ثمة الداهبون إلى غربة في التراب. والشيء نفسه في نص ( ليل المسافر) الصفحة:39. كنت أنسج أحلام قيلولتي... خائفا عند مقبرة اليأس حين هربت من النوم... (...) فلففت رحيلي بليل لئلا يصادفني أحد في الظريق... هكذا يحاول الشاعر جواد وحمو الإمساك بالإلتباس و التعقد الذي يطال الشرط الإنساني. مما يجعل رائحة الحزن والاسى تفوح من جل نصوص هذا الديوان.لكن على الرغم من ذلك، فالشاعر لا يطيل المكث أمام الإحساس الشخصي بالفجيعة و المرارة التي يخلفها هذا الشرط الإنساني.ولا ينكفىء على ذاته يجتر حزنه و فجيعته. بل يقاوم بالتحدي و المواجهة بواسطة الشعر( الإبداع عامة) الذي يخلد الإنسان.إن الشاعر هنا، يحول الموت إلى حياة . يقول في نص( صهيل في مقتبل الموت)الصفحة، 58: فيا أرض إن كان موتي نشيدا فغنيه قربي فلحن الغناء يغير شكلي ويقتلني في الممات لكي أصبح الان حيا...) تكشف النصوص الشعرية لجواد وحمو، عن رؤيا فنية عميقة. تحمل هذه الأخيرة ، بعدا كونيا.لا يرتبط بالشاعر فقط . بل بالإنسان عامة أينما و حيتما وجد. هذا البعد الإنساني هو الذي يخلد الإبداع. باعتباره المعيار الأساسي الذي يبني النماذج الشامخة فيه على حد تعبير الامدي. لكن هذا البعد الإنساني لا يأتي مبتدلا. لأن المعاني مطروحة على الطريق إذا إستعرنا العبارة من الجاحظ . بل يقدمه الشاعر في نسيج فني و جمالي متكامل. إن ديوان ( نوفذ مشرعة على الليل )للشاعر جواد وحمو، عمل شعري متميز. يقدم رؤيا فنية ذات بعد إنساني. أودعها الشاعر منظومة متكاملة من الأدوات الفنية و التشكيلات اللغوية.