بكل فخر و اعتزاز تقدم الشرق الآن لقرائها الأوفياء " بورتريه " لأعظم شاعر عربي ضمن سلسلة [ستشمل شعراء العرب انظلاقا من رؤية لا تهدف إلى انتزاعنا من حاضرنا و إنما تزيدنا ادراكا لواقعنا و قضايانا الملحة و قراءة ممتعة و هادفة - 1 - *يستدعي السؤالُ عن عنترة إلى الذاكرة، صوراً متعددة مؤلمة وجميلة في آن واحد، من الشعر والفروسية والحب المقموع, والكفاح الضاري النبيل ضد الإقصاء والحرمان والتمييز العنصري. - 2 - في نجد، في وقت غير معروف لنا من القرن السادس للميلاد، ولد عنترة لأب من وجوهِ قبيلة عبس هو "شدَّاد بن قُراد"، ولأُم "حبشية" كانت أَمَةً لِشدَّاد، اسمها "سُمَيَّة"، وبسبب من العنجهية القَبَليَّة ونظامها المراتبي، أُطلق عليها –على سبيل الإستصغار والتحقير- لقب "زبيبة". وكان على الطفل عنترة، الذي ورث السَّواد عن أُمُه، أن يدفع ثمن هذا الخلل في النظام الاجتماعي، بإنكار أبيه له وعدم اعترافه بحقه الإنساني الطبيعي في الحرية والمساواة, بل معاملته كعَبد! - 3 - شبَّ عنترة, ذو النفس الأبية المرهفة، ناقماً على هذه المعاملة. وتفاقمت نقمته بعدما أحب ابنة عمه "عبلة بنت مالك"، فتعرض للإضطهاد جرّاء إجترائه على التطاول على الأسياد. فلم يزده الإضطهاد إلا تعلقاً بها، وإصراراً على حقه في نيل اعتراف أبيه وقبيلته به، كإبن لهما. لكن هيهات! فأزمة النظام القبلي العربي الجاهلي، كانت أزمة عامة شاملة, وما كان ممكناً إيجاد حلٍ لها إلا في حالات فردية استثنائية. - 4 - جاء الاستثناء حينما اندلع النزاع بين أبناء العمومة: عبس وذبيان، وتطور إلى حرب تعددت وقائعها وأيامها، وعرفت في التاريخ باسم "داحِس والغبراء". فاحتاجت القبيلة إلى طاقات أبنائها، وخصوصاً الأشداء منهم كعنترة. لكنه كان عبداً, والعبدُ –كما قال لهم حينما دَعُوه: "يُحسِنُ الحِلاَبَ والصَّرْ، ولا يُحسِنُ الكَرَّ والفَرْ !". فقالوا له: "يا عنترة.. كُر وأنت حُرْ !" وهكذا كان! إلى هذا التَّقلُّب النفعي في موقفهم، يشير عنترة ببيتٍ ينْضحُ بالمرارة: يُنادونني في السلم: يا ابْن زبيبةٍ وعند صِدامِ الخيل: يا ابْنِ الأطايبِ! - 5 - وإذا كانت قوة عنترة قد أهَّلته لنيل الحرية والاعتراف، فإن مناقبه الأخلاقية قد رفعته إلى مراتب البطولة. فنال التقدير والإعجاب والثناء. أما شاعريته الفياضة بقصائد الفروسية والبطولة والحب، فقد كرَّستهُ واحداً من شعراء العرب الكبار وصُنِّفت قصيدته الشهيرة "الميمية" ذات المزاج الغنائي القصصي، كواحدة من المعلَّقات السبع وأُسْمِيت ب"المُذَهَّبة". واستوقف مطلعُها المتسائلُ الدارسين العرب والأجانب للشعر الجاهلي, لما يشير إليه من ميراث شعري راسخ سابق لعنترة: هل غادر الشعراءُ من مُتَردَّمِ؟ أم هل عَرَفت الدار بعد توهُّمِ؟ - 6 - مات عنترة بن شداد، على اختلاف في كيفية موته، نحو سنة (22) قبل الهجرة (600 للميلاد), لكن سيرته وشعره بقيا حَيَّين تتناقلهما الأجيال. يُروى عن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: "ما وُصِفَ لي أعرابي قط، فأحببتُ أن أراه، إلا عنترة". وكما هو الشأن مع الشخصيات التي يُحبها الشعب ويتعلق بها، فقد نسج الرواة والمؤلفون من خيالهم أشعاراً، وأخباراً، ووقائع، ومواقف، نسبوها لعنترة. وجرى تمجيده كبطل من الأبطال الشعبيين في السيرة المعروفة باسمه:" سيرة عنترة بن شداد"، الى جانب سِيَر: "سيف بن ذي يزن" و "الزير سالم" و "أبي زيد الهلالي" و "الملك الظاهر" و "الأميرة ذات الهمة". وهي السيرة التي ظل يرددها "الحكواتي" ليؤنس بها السُّمَّار، إلى عهد قريب, واستندت إليها السينما والمسرح في تقديم أعمال عديدة. - 7 - مات عنترة, لكن قضيته لم تمُت: أعني قضية التمييز العنصري البغيض بكل أشكاله. وقد شهد عصرنا نضالاً مريراً لتصفية العنصرية خصوصاً بعد هزيمة النازية التي قدمت نظاماً لتقسيم البشر والتمييز بينهم على أساس عرقي وثقافي. وفي الخمسينيات من القرن الماضي ثار السود في الولاياتالمتحدة الأميركية، في الحركة المعروفة باسم "حركة الحقوق المدنية". وربما يذكر القرّاء والقارئات أسماء المناضلين السود الكبار ضد التمييز: الدكتور مارتن لوثر كنغ، المناضلة أنجيلا ديفس، بطل العالم في الملاكمة "محمد علي كلاي", و "مالكولم إكس" الذي أشهر إسلامه وزار البلاد العربية. ويذكرون المثقف الثوري الكبير "فرانز فانون" صاحب الكتاب المعروف: "المستضعفون في الأرض" الذي إنضم إلى الثورة الجزائرية، ونادى بوحدة مقاومة المُلَوَّنين المستضعفين وحقهم في ممارسة العنف ضد العنصريين الاستعماريين البيض. وإذا كان نظام الفصل العنصري الأبيض في جنوب افريقيا قد استثار مقاومة شعبية قادها "المؤتمر الوطني الافريقي" وآزرها الشرفاء في العالم حتى تم اسقاطه ، فإن الكيان الصهيوني المحتل لبلادنا، والذي تتمثل فيه عقيدة ونظاماً وقوانين وثقافة وسياسة وممارسات أسوأ أنواع الاستعمار الاغتصابي الإجلائي، وأسوأ انواع العنصرية التي دفعت حتى بفئة من اليهود ذوي الأصول العربية للنضال ضده في الحركة المعروفة باسم "الفهود السود" في القرن الماضي, ودفعت الكاتبة اليهودية من أصل عراقي والمقيمة في نيويورك "إيللا شوحط " إلى فضحه كاستعمار اشكنازي صهيوني, كما ادانته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1975 بقرار وصف الصهيونية بأنها شكل من أشكال العنصرية (أسقطته الولاياتالمتحدة فيما بعد). اقول: ان هذا الكيان ينتظر إسقاطه أيضاً، وإنقاذ البشرية من مظالمه وجرائمه الإرهابية التي ضج منها حتى الرأي العام الأوروبي رغم التضليل الإعلامي الذي يتعرض له وأعلنت أغلبية في استفتاء نُشر قبل سنوات ان "إسرائيل" هي أكبر خطر يتهدد العالم. قبل الخاتمة لئن كان من السهل علينا عادة، انتقاد الماضين، والآخرين, فإن الإنصاف يتطلب منا البدء بانتقاد أنفسنا وحاضرنا. لقد أعلن الإسلام المساواة بين البشر، وحضَّ بكل السبل على تحرير العبيد وعتقهم ومعاملتهم بدون تمييز, لكن الممارسات لم تتقيد دائماً بهذه المبادئ والتوجيهات. وإذا كان التاريخ يذكر ثورة العبيد في العهد الروماني بقيادة "سبارتاكوس"، فإنه يذكر ثورة "الزنج" في العهد العباسي. ولا يليق بنا، نحن الذين خرج أجدادهم من قبل ليعلنوا للعالم إنهاء عبودية الإنسان للإنسان، أن تظل بعض معالم وممارسات التمييز العنصري، الظاهرة منها أو الكامنة، قائمة في بلادنا ومجتمعاتنا. حتى وإن كانت لا ترقى إلى مستوى العقيدة والنظام كما هي الحال عند الصهاينة. هذه المعالم والممارسات ينبغي النضال ضدها وتصفيتها، لنكون جديرين حقاً بدعوانا. *** أخيراً, يُقدمُ مثالُ عنترة في الكفاح لنيل الحرية والاعتراف، درساً ينبغي استيعابه: فالذين لا يناضلون للظفر بحقوقهم –أيَّاً كانت- يعاملهم الآخرون معاملة العبيد وإنْ اختلفت المُسمَّيات! وهذا يَصدُقُ على عصرنا مثلما يَصْدُقُ على العصر الجاهلي. وربما كان عصرنا عصر عولمة حقوق الإنسان على الطريقة الأميركية الإسرائيلية أشد ظلماً وجُورا. ***