في سيرورة الكتابة نفسها، و بأريحية فائقة، تتشكل التعبيرية عبر ذلك النسيج الذي يتداخل فيه اللغوي بالبصري عند إدريس الخوري. البصري بالمعنى الذي يتعلق بأدبيات المشاهدة بشكل عام من جهة، و بالمعنى الذي يشمل مختلف الأجناس البصرية من جهة أخرى، و على رأسها فنون التشكيل، كخلفية معرفية، لا تقتصر على الإحاطة بمفهوم الفن في حدّ ذاته، بل تمتد إلى الانشغال الأدبي الذي يظلّ مشدودا إلى فن التصوير La peinture عند الخوري الذي يشيرُ إلى أنه " مثلما توجد مسافةٌ فاصلةٌ، زمنيا و فنيا، بين الرسم الكلاسيكي و التجريدي، من حيث الرؤية و الأدوات و التخطيطات، كذلك الأمر في الأدب"، مؤكدا على أننا " في الرسم الكلاسيكي مثلا، نجد أنفسنا أمام وصف دقيق و شامل للشخوص و الأماكن التي نتواجد بها (...) طبيعة حية و طبيعة ميّتة، محلّه عناصر لونية مختلفة ووحدات تعبيرية، هنا لا مكان و لا زمان "، مؤكدا على أن هذه المقارنة لا يقصد بها تفضيل اتجاه على آخر، و لكنه يريد بها الإشارة إلى أن " كل اتجاه فني أو أدبي، إنما يعبّر عن الواقع الخاص به، و في هذا الواقع تتشكل و تتحدّد رؤى الكاتب و أدواته الفنية و طرائق تعبيرية" (1) *************** إذا كان الخوري، في هذا السياق، يعتمد المدارس الفنيّة لمقاربة تصوُّره حول الكيفية التي يتمثَّل بها أسلوب الكاتب، فإن اللَّوحة عنده تُمسي متناً سردياً في سياقٍ آخر، وهو يتحدث عن معرض لفنانين أمريكيين ( مهرجان الرباط الثاني، متحف الأوداية ): " هذا هو "السَّرد" الأمريكي: ليس هناك سرد حقيقي ? لغوي بالمفهوم الروائي المتعارَف عليه، و لكنه سرد باطني ? بصري ? تعبيري ? حسِّي، يحاول أن يعكس صورا و أفكارا دون الإخلال بالبعد الفني المتميز "، إنه "السرد"، يضيف الخوري، " كما يتبدَّى في الفنون التشكيلية المعاصرة، كبنية حكائية تسرُد الأشياء و الطبيعة، الكائنات و ظلالها، التفاصيل الحياتية و علاقتها بالإنسان في بيئة فُسيفسائية إثنية منصهرة، منذ قرون، في المجتمع الأمريكي " (2). من هنا نلامس عنده مدى التوفيق بين الفن و الأدب، ليس على مستوى بنيتهما الثقافية المشتركة فحسب، بل على مستوى التوظيف البياني الذي يجعل منهما مجاليْن قابلين للتقاطع و التبادل المرِنَيْن. من ثمة، يتأسس التوظيف الإبداعي القائم على البصر و الاستبصار، كهاجسٍ أساسٍ عند الخوري، باعتباره أول من عمل على استضمار التشكيل و الفوتوغرافيا و السينما داخل مَتْنِ النص القصصي، كما يؤكد على ذلك القاص أنيس الرافعي (3). المكان عامة، مجال لترويض العين عند الخوري: العين المتقصِّيَة، اللاقطة، التي تتفحَّص الحارات و الخمارات و المقاهي الشعبية و الأجواء الحميمَة و الدُّونية و المائعة (كما عند محمد شكري و محمد زفزاف). إلى جانب هذا الاشتغال على الفضاء المغلق، المفعم بالسرائر النفسية المنذورة لانفعالات الرغبة و اللذة و الألم في إبداعه القصصي، يولي الخوري اهتماما بالغا للفضاء المفتوح، كي يمنح العين الابتهاج الموصول بالمسافة المسترسلة، بالرؤية الفسيحة التي تكتسح سيرورة العبور المُتجلَّي في كتابه " فضاءات-انطباعات في المكان "(4) الذي ينحدر إلى عشرين سنة مضت. فبقدر ما يصف فيه تفاصيل سفره الفيزيقي في الزمان و المكان الموزع بين عدة مدن و أقاليم مغربية و عربية و غربية، بقدر ما يشركنا و إياه ? كقرّاء ? في متعة الإبصار و تلمُّس الأجواء و الأحاسيس و المؤثرات الجغرافية. مراكش مثلا، يراها " فضاء مفتوحا، بصريا، ذاكرة ملفوفة بالواقع، و هذا المجال الطبيعي يحتاج إلى عين لتراه جيدا و تستنطق مكنوناته" (5)، و مغادرة المركز نحو المحيط ? أثناء الرحلة - يربطها بالبحث عن متعة نفسيةٍ بصرية تعيد إليه التوازن المفقود (6)، كل الأمكنة عنده مرهونة بسياحة العين. و في حديثه عن ورزازات، " فضاء التراب المدكوك "، يقول: أعود، و هذه المرة بصفتي "مهندسا" معماريا مولوعا بقصبات الجنوب. في المرات السابقة، كان الانبهار سيد اللحظة و المكان و كانت العين لا تكف عن الانشداه المخطوف أمام مجال ترابي متنوع و غني بدلالاته "(7)، هذا الانسياب الذاتي و الموزون في الأمكنة، هو سفر تأملي لكشف الأوجه المحجوبة في المكان الحيوي بوصفه حقلا عمرانيا بكل ما يحمله من أبعاد بشرية و مدَنية. من داخل هذه الأبعاد ذاتها، لا يني الخوري يكشف عن عشقه للهندسة المعمارية التي تناولها في كتاباته، كما هو الشأن في مقالته حول "التصوير و المعمار" ضمن كتابه "كأس حياتي" الذي جمع بين دفتيه جلّ ما كتبه حول الفنون التشكيلية التي يشكِّل الفن المعماري أحد روافدها. في "كأس حياتي"(8)، يقدم لنا إدريس الخوري تجربته القيِّمة فيما يخصُّ كتاباته حول التصوير La peinture بالدرجة الأولى و النحت و الفوتوغرافيا. و تأتي أهمية هذا العمل من كونه يقوم على ثلاثة تميُّزات بحسب تقديري: أولا: النظرة البانورامية، التي تغطي النشاط التشكيلي منذ بداياته، إبَّان العقد السادس من القرن الماضي، مباشرة بعد استقلال البلاد، حيث بداية تشكُّل تاريخ الفن المغربي المعاصر، مرورا بسنوات السبعينيات التي عرفت دينامية فنية ملحوظة و فعَّالة. ثانيا: تزدوج هذه النظرة الشمولية بالنظرة الدقيقة فيما يتعلق بالمعلومات و الأحداث الفنية التي عايشها و سياقاتها التاريخية، و كذا علاقتها بكل مكونات الإبداع التشكيلي، إذ يقدم لنا الخوري صورة الوضع التشكيلي داخل خلفية المناخ السياسي و الثقافي العام، و في ارتباط وثيق بحالة بنياته و بشروط انتشاره و تقدمه: قاعات العرض، إدارة الأروقة، دَوْر مدرسة الفنون الجميلة، دَوْر المجلات الثقافية و الفنية، النقد الفني، الوعي النظري، علاقة الفن بالأدب، علاقة الفنان بالأديب، علاقة الفنان بالمعماري... و تناول كل ذلك بالمناقشة و النقد، مع الوقوف عند أهم المحطات و المنعطفات التي بَصمَت تطور المسار التشكيلي، مع ذكر الأسماء و التواريخ المهمة. من ثمة يتخذ الكتاب صفة المرجعية. ثالثا: البساطة كخاصية أسلوبية رئيسَة في الكتابة التي تقوم على الإيجاز و الوضوح، حيث الاهتمام التام بالترقيم، و اختيار المصطلحات و المفردات و التراكيب المناسبة، مما يجعل قراءاته للإبداعات التشكيلية موجهة لعموم القراء، و هي القراءات التي تشمل إبداعات مختلف الأجيال و الميولات و الحساسيات الفنية (9). إضافة إلى ذلك، يعتمد الخوري التشبيهات المتوافقة مع توصيف اللوحة لمنحها مقاربة لغوية مطابقة، كأن يقول: " لا يرسم عزيز السيد فحسب، و لكنه يرسم ليعطينا تراكيب فيزيقية أشبه بأشجار سائرة " (10)، و الحقيقة أن أجساد السيد المتحللة و المتفجرة على مستوى الرأس و الوسط أشبه بأشجار متحركة بالفعل، أو كأن يقول عن تنقيطية مصطفى بوجمعاوي: " أعمدة الجريدة العمودية منقَّطة مثل نمل يزحف فوق الحروف " (11)، و عن عمل فؤاد بلامين: " اللوحة هنا أشبه بشاشة بيضاء، ما أن تقترب منها حتى تدخل فيها "(12). بهكذا تشابيه، يختزل الصورة و يجعلها مقروءة و مستساغة لغويا. و بذلك تمثل الكتابة هذه، نموذج النصوص التي تساهم في نشر الثقافة التشكيلية و التذوق الفني، و تعمل على تقريب العمل الفني من المتلقي، و علاوة على حمولتها المعرفية التي تنتمي إلى أدبيات النقد الفني، فإنها تمثل، أيضا، نوع الكتابة المتعلقة بالصحافة الفنية المتخصصة التي مازلنا نفتقد إليها. إن المقالة عند الخوري هنا، تبني نسيجها اللغوي كفعل ديداكتيكي يتغيى التواصل السلس، المثمر و الممتع في آن، " أستمد كتاباتي الصحافية من خلال قراءاتي لكتاب أو رواية أو مجموعة صحافية أو ما جرى في ندوة ثقافية، و أبحث عن كل ما يخالج الواقع من أحداث أدبية و فنية. كل هذه الأجناس الثقافية، كنت أطرحها للنقاش حول وظائفها في وجدان القارئ المغربي، و أجيب عنها بتصوراتي الخاصة حول وظيفتها الجمالية و الفنية "(13). و لعل هذه الحِرفية الصحفية لديه، تشكل إحدى الدعامات الفاعلة في الكتابة البصرية، بما فيها تقديم البروفايل و البورتريه (كأسلوب صحفي) الذي جعل منه ذلك البورتريتيست المتمرس الذي يتحسّس معيار المسافة ليختار زوايا النظر بحسبان، و يمتلك خبرة التعامل مع الموديل لالتقاط نقط الإشعاع فيه، مما يجعل لغة الخوري منشدة باستمرار لواقعية التصوير: رسم شخوصه و تصوير فضاءاته وتشخيص مدائنه الخاصة. "كأس حياتي"، يندرج في إطار تأصيل مشروع ثقافة فنية وطنية معاصرة، وهو ثمرة حنكة الصحفي و القاص الذي يجمع بين الحسّيْن النقدي و الإبداعي و بين الثقافَتَيْن الأدبية و الفنية، و بوَساطَتهما يتحول تقليد المشاهدة و المتابعة و الحضور المستديم، إلى نظام تأويلي تمسي فيه اللغة السردية مطواعة لترجمة اللغة المرئية المنبنية على الذاكرة اليقظة و الحواس الحية و المخيلة الخلاقة، حيث القراءة البصرية احتفاء بالعين، و استجابة للاندهاش و الإعجاب الجمالي بسحر الفنون البصرية و الفرجوية، بما فيها المسرح و السينما و الكوريغرافيا. في الختم أستعير ما جادت به قريحة الشاعر أحمد المسيح: " أبا دريس كتابتو مرايتو، لمساوية فيها كاينة، ما طايح فيها ميزان، ما باردة ما سخونة، هي مواتياه و هو مواتيها " (14). هوامش: (*) نص المداخلة التي ساهمت بها في تكريم القاص و المبدع إدريس الخوري، ملتقى مشرع بلقصيري الوطني السادس للقصة القصيرة ? دورة إدريس الخوري، جمعية النجم الأحمر للتربية و الثقافة و التنمية الاجتماعية، 8 ? 9 ? 10 ماي 2009 (1) إدريس الخوري، "مسافة الرؤية"، مجلة (نشرة) القناة المغربية الثانية M2 ، ماي2001، ص 4 (2) إدريس الخوري، كأس حياتي، منشورات إتحاد كتاب المغرب، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 2000، ص 132 - 135 (3) أنيس الرافعي، بمناسبة تكريم إدريس الخوري، نظمه إتحاد كتاب المغرب فرع المحمدية ما بين 16 و 18 يونيو 2006، الصحراء المغربية، 25 يونيو 2006 (4) إدريس الخوري، فضاءات ? انطباعات في المكان، الكلام، 1989 - يشير الناشر إلى أن هذه "الفضاءات" لا تنتمي كما يوحي عنوانها إلى أدب الرحلات بالمفهوم الحرفي للكلمة، و يتعلق الأمر برحلتين أساسيتين تشكلان العمود الفقري للكاتب: الرحلة الملكية لشريط وارزازات ? الريصاني، ثم رحلة "قافلة التنمية" التي نظمتها الإذاعة المغربية، و ذلك في 1986. (5) Ibid، ص 9 (6) Ibid، ص 11 (7) Ibid، ص 27 (8) إدريس الخوري، كأس حياتي ? كتابات في التشكيل، منشورات اتحاد كتاب المغرب، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 2000 - يذكرنا عنوان الكتاب بعمل الفنان مصطفى بوجمعاوي حول "كأس حياتي"، بداية بتوظيف هذا الكأس المشترك كمادة زجاجية، لمضاعفة خاصية الشفافية التي تعد إحدى ركائز الفنان في بناء العمل التشكيلي، إضافة إلى عنصريْ العلامة و التكرار (كؤوس حياتي، رواق باب الكبير، الرباط 1992)، إلى أن تم ربط كأس الحياة بسياقه الاجتماعي المتعلق بالشاي كمادة نباتية و كمشروب ذي مكانة خاصة في ثقافتنا الشعبية (أتاي، متحف الفن المعاصر، مراكش، 2003). يبقى كأس حياتي إذن، عند الخوري كما عند بوجمعاوي، ذلك الكأس الجماهيري، الرفيق، الذي يمثل عنوان الضيافة و التمدن. الكأسة الشفيفة التي تبعث على نشوة التذوق و متعة التأمل و الرؤية. (9) جيلالي غرباوي، أحمد الشرقاوي، محمد بن علال، فؤاد بلامين، مصطفى بوجمعاوي، حسن السلاوي، عزيز السيد، عبد الغني أوبلحاج، عباس صلادي، عبد الرحمان الملياني، أحمد لمرابط، محمد أبو الوقار، عبد الحي الديوري، بوشعيب الهبولي، إبراهيم حنين، إكرام القباج، الطيب الصديقي، الركراكية، عبد الرزاق بنشعبان، خالد الأشعري، محمد جنات. - نشير إلى وجود كتابات أخرى حول التشكيل، أنجزها الخوري بعد تاريخ صدور "كأس حياتي". أنظر نصه التقديمي: " إزدواجية النحت و الرسم " حول أعمال الفنان عبد الرحمان رحول، كاتالوغ المعرض( باب الرواح، الرباط، أبريل 2007 )، منشور في الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، 14 ? 15 أبريل 2007 (10) إدريس الخوري، كأس حياتي، Op-Cit، ص 102 (11) Ibid، ص 130 (12) Ibid، ص 127 (13) "إدريس الخوري بصمة