لسنا "دولة مؤسسات".. لماذا؟ لأننا بدون ديمقراطية حقيقية.. عندنا "ديمقراطية صورية"، فيها استغلال للدين، والفقر، والجهل.. وهذا "العنقود الأسود" يشكل عرقلة في طريق بناء دولة الحداثة، وبالتالي "دولة المؤسسات"، أي "دولة الحق والعدل" التي ينشدها بلدنا! إن الديمقراطية عندنا ما زالت كما كانت: مجرد تأثيث.. ديكور.. حالة صورية.. مظهرية.. شكلية... ولا يمكن تصنيفها ضمن الديمقراطيات العريقة - ديمقراطية الأنظمة - كما هي في أوربا وغيرها.. - ديمقراطيتنا ليست ديمقراطية، بالمفهوم الحضاري العالمي.. وأحزابنا تنعت حالتنا، منذ عقود من الزمن، واصفة ما نحن فيه بكونه "تجربة ديمقراطية".. وهذا يعني أن أحزابنا لم تنضج، وأننا نحن لم ننضج، وأننا جميعا نتعلم، وأن انتخاباتنا ما زالت في سلسلة تجارب.. ولحد الآن، ومنذ عقود، لم نخرج من "التجربة الديمقراطية".. يجربون فينا.. ونحن مجرد مختبر للتجارب.. - وهم يستغلون جهلنا وفقرنا لتكديس ثروات بلدنا، تحت غطاء "تجاربنا الديمقراطية"! ولم ننتج لا ديمقراطية حقيقية.. ولا مسؤولية تشاركية فعالة.. ولن تكون "تجربتنا" الحالية، مثل السابقات، وبهذا المنطق، إلا سلبية بعد سلبيات، ما دامت جهات أخرى تديرها على هواها، ومن أجل مصالحها هي، لا مصالح الوطن والمواطنين.. والأمر يتعلق بشبكات التهريب، بكل أنواع التهريب، وأباطرة المال، والعقار، والتجارة في الدين، والمختبرات الصحية، والخبز اليومي... ولا نهاية حتى الآن للتواطؤ بين المصالح المالية والسياسية.. تواطؤ حزبي مسترسل مع جهات مالية كبرى.. مصالح تقدم للصناديق كائنات هي نظريا "ديمقراطية"، وعمليا عدوة للديمقراطية الحقيقية التي تعني فصل السلط، أي الفصل بين المؤسسات: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية.. وفي غياب هذا الفصل التام، ما زالت بلادنا تئن تحت هذا التواطؤ لخنق الأغلبية الساحقة من المواطنين، حتى لا ينشغلوا إلا بأجواعهم.. - مع تصفية "الطبقة المتوسطة" التي من المفروض أن تشكل التوازن الاقتصادي والمعرفي المطلوب بين الفقراء والأغنياء.. وهذا الواقع أنتجه "اخطبوط اللاديمقراطية".. وإلى الآن، ما زلنا تحت غطرسة "ديمقراطية مزيفة".. ولا علاقة لهذه بالديمقراطية الحقيقية.. - المزيفة لم تحرر البلد من الفساد.. على العكس، صنعته وتشجعه.. والنتيجة: ما زال الفساد ينتشر بيننا أكثر فأكثر.. وعدالتنا مكبلة، غير مستقلة.. والريع فيروس يبتلع حقوق الوطن، وحقوق المواطن.. - أين دولة المؤسسات؟ أين شفافية السلطات؟ وأين تنظيم وتحديد وتتبع ومراقبة المسؤوليات على أرض الواقع؟ ولماذا ما زال عندنا تداخل بين السلطات؟ وما زال انقضاض من مسؤوليات على أخرى؟ وأيضا، انفلات للحقوق والواجبات؟ لماذا القانون مكبل لدرجة أن القانون عندنا ليس فوق الجميع.. ولماذا ليست العدالة والمساواة أساسا للتعامل الإداري مع المواطنين؟ ولماذا ما زالت شبكات مالية سياسية تتعامل معنا وكأنها هي وحدها تملكها؟ فهل هي دولة أفراد وأحزاب وشبكات مالية؟ هل هي ملكية خاصة؟ أم هي دولتنا جميعا، من الصغير فينا إلى الكبير؟ - وحدها الأنظمة الشمولية تعتبر الدولة ملكيتها الخاصة.. وهذه الأنظمة فاشية فاشلة.. لا يمكن أن تدوم.. هي لا تستمر.. وكم من ديكتاتوريات انهارت، وفي ظروف سيئة، لأنها لم تستوعب قيمة "دولة المؤسسات"، وبتعبير آخر: "دولة الحق والعدل".. ولم تستوعب أن "الأفراد يذهبون، والمؤسسات باقية ثابتة".. هذه الأنظمة الشمولية ظلمت نفسها، وظلمت بلدانها وشعوبها.. وعندنا أحزاب لا تعي خطورة هذا المآل.. ما زالت مبرمجة على تكرار ما فعلت في البلاد من زمان.. ولكن دوام الحال من المحال.. بلادنا واقفة.. كالشجرة واقفة.. والمفسدون آيلون حتما إلى "مطارح النفايات".. وهؤلاء المفسدون بالذات هم يحاربون "دولة المؤسسات".. ووجود "الطبقة المتوسطة".. ويناهضون الحقوق الاجتماعية.. والحقوق الإنسانية.. - أين في بلادنا الطبقة المتوسطة؟ ولماذا الفقر مستشر بكل مناطق البلد؟ أهذه هي الديمقراطية؟ أين ديمقراطية القرار؟ أين التساوي في الحقوق والواجبات؟ أين سيادة العقل؟ وسيادة الكفاءة؟ والنزاهة؟ لصوص يصلون إلى مراكز القرار، على ظهر أحزاب ما هي إلا إمعات.. أحزاب شكلية.. صورية.. وبالاسم فقط.. وفي واقعها هي دكاكين.. بلا قواعد.. ولا تظهر هذه "الأحزاب" إلا في مواسم الانتخابات.. عندها يأتي الأباطرة، ويشترون الأصوات من المستضعفين، ومن جهلة يعتقدون أن منح أصواتهم، لتجار الدين، يقود إلى الجنة، وإلى حور العين... كل الأحزاب عندنا تشتري الأصوات من "أسواق النخاسة" الانتخابية.. وتبيع وتشتري في البشر.. كلها تفعل هذا وأكثر.. وتبيع وتشتري حتى في من يناصرونها.. المهم عندها هو الكرسي.. ومن أجل الكرسي يبيع الانتهازيون حتى أقرب الناس إليهم.. ويبيعون أنفسهم! - أهذه ديمقراطية؟ أهذه العقلية تبني "دولة مؤسسات"؟ أين المؤسسات؟ أين استقلالية المؤسسات؟ من المفروض أن تحمي المؤسسات شموخ الدولة، لا أن تكون هي أيضا صورية تستهلك كعكتها من الميزانية العامة.. وفي الواقع، هي ليست مع المواطن.. هي فقط قابعة، جاثمة، منبطحة، في انتظار إشارات من هنا وهناك.. هذه المؤسسات، بهذه الوجوه، تخدم ماذا؟ وماذا؟ أم تراها تشتغل من أجل مهمة أخرى هي تفكيك أي طموح إلى "دولة مؤسسات"؟ - بلادنا تفتقد الفعالية الإدارية والاقتصادية والسياسية، في غياب مؤسسات حقيقية، فعالة، نزيهة، بعيدة عن أية شبهة.. ما أحوج بلادنا إلى مؤسسات مؤهلة لحماية "دولة المؤسسات" من أي اهتزاز، في زمن تتقاطع به المصالح.. أجل.. نحن أيضا، ومثل ما وقع لغيرنا، معرضون لاهتزازات قد لا تكون مضمونة العواقب.. الفقر عندنا يشكل خطرا على الجميع.. انتهت مقولة انتهازية قديمة: "جوع كلبك، يتبعك!".. هذه المقولة سمعناها كثيرا، في زمن مضى.. واليوم لا نسمعها، ولكنها تطبق على أرض الواقع، أمام "أعين التفقير" المسترسل على قدم وساق.. ولا يمكن أن تستقيم عندنا أية "حالة ديمقراطية" على أساس واقع فيه تفقير وتجويع وتجهيل.. واقع فيه سوء استخدام للصناديق والكراسي.. وفيه تضليل وتحريف للأحلام الوطنية.. ويخطىء من يحسب أن التفقير عواقبه إيجابية.. التفقير كارثة عظمى قد لا تستثني منا أحدا، بعد إشعالها لأضواء حمراء.. ولا يمكن أن تقوم الديمقراطية الحقيقية مع واقع شديد الهشاشة، عقلا وصحة وخبزا.. وهذه الهشاشة، بهذه الحدة، لا معنى لها إلا أن بلدنا ليست فيه "دولة مؤسسات"! [email protected]