أكد د. علي أومليل، سفير المغرب في لبنان الدكتور، أن حركات «الربيع العربي» حققت «تحولات» مهمة لاسيما في المجال الديموقراطي وحرية التعبير، مشيراً إلى ضرورة «التأصيل الثقافي» للوعي الديموقراطي، ومشدداً على دور المجتمع المدني «كي لا يرتدّ الربيع إلى خريف». ورأى المفكّر المغربي أن الإسلاميين العرب ليس بإمكانهم الأخذ بالتجربة التركية «لأن حزب العدالة والتنمية في تركيا وراءه 80 سنة أو أكثر من نظام علماني». } حصد الإسلاميون نتائج الحراك الاحتجاجي في عدد من الدول التي وقعت فيها الاحتجاجات، في حين أن الأحزاب العلمانية لم تحظ بنسبة تمثيل سياسي كما كان متوقعاً. لماذا عجزت الأحزاب العلمانية عن استقطاب الجمهور؟ هناك مفارقة في الذي حصل في الثورات العربية، وهي أن الذين بادروا بالنزول إلى الشوارع والميادين وتصدوا للقمع، كانوا شباباً متعلماً يتقنون استعمال وسائل الاتصال الحديثة في ما بينهم وأيضاً مع العالم، وقد حملوا شعارات الحرية والعدالة والكرامة، وهي شعارات حداثية. ولكن حين جاءت الانتخابات حصدت نتائجها الأحزاب والتيارات الإسلامية، وهي التي التحقت بهذه الثورات في ما بعد. السؤال هنا: لماذا نجد أن الذين حصدوا ثمار الثورات ليسوا هم الذين أطلقوا شرارتها؟ جوابي أن الشعارات التي رفعها الشباب تحتاج إلى قاعدة اجتماعية تحملها، وهذه القاعدة عادة هي الطبقة الوسطى، لكن هذه الطبقة ضُربت في بلداننا العربية، بسبب تفشي اقتصاد الريع واستشراء الفساد ما أدى إلى اتساع قاعدة الفقر على نحو غير مسبوق مقابل تقليص الطبقة الوسطى الحاملة عادة لقيم ومبادئ الديموقراطية والحداثة. وكان الحشد الكبير الذي ملأ صناديق الاقتراع، هم الطبقة المحرومة الواسعة والتي قامت تحت راية الدين بردّة فعل على الفساد القائم. والواقع أن ضرب الطبقة الوسطى حصل أيضاً في الغرب، في أميركا وأوروبا، حتى قبل الأزمة الاقتصادية التي مازالت مستمرة والتي بدأت العام 1988. وكانت نتيجة ضرب الطبقة الوسطى هناك صعود اليمين المتطرف الذي يكره الأجانب ويرفض العوْلمة وينغلق في وطنية شوفينية ضيقة. وهكذا فإن ضمور الطبقة الوسطى أدى عندنا إلى كسب التيارات الاسلامية للانتخابات كما جرى في تونس ومصر والمغرب، كما أدى إلى صعود اليمين المتطرف في بلدان غربية. } إلى أي مدى ساهمت البنية الدينية في تشكيل الأرضية الخصبة للإسلام السياسي وتحديداً ما يتعلق بنتائج الانتخابات؟ حين يسأل الإسلامي الناس السؤال التالي ولو عن حسن نية: هل أنتم مع الإسلام أو ضد الإسلام؟ هذا السؤال خاطئ حين يسأله إسلامي يتعاطى السياسة، لأنه سؤال يخلط العقيدة الدينية بالسياسة. ذلك أن الإسلامي الذي يتعاطى السياسة يريد للاقتصاد والنظام السياسي ونظام التربية والتعليم والاعلام أن تكون جميعها فروعاً للشريعة. ولا مجال هنا للاختلاف في الرأي، ذلك أن الإسلامي يريد لكل شيء أن يساق بالدين، وهو لا يعتبر اختلاف الآخرين عنه اختلافاً في الرأي، بل خروجاً عن الدين. والنتيجة أن الحياة السياسية لا تعود ممكنة، لأن السياسة تعددية، وتنافُس سلمي، وتداوُل على السلطة بين الغالبية والأقلية، وهما غير دائمين. والسياسة مجال التغيير، وتعدُّد الاحزاب والاتجاهات والمصالح، وتعاقُد المواطنين على نظامهم الاجتماعي والسياسي، وهو تعاقد مهما طال فهو قابل للتغيير، فيُعدّل الدستور، وتُطور القوانين. } بعد الفوز المهم الذي حققه الإسلاميون طرحت سيناريوات مختلفة بينها أن الإسلام السياسي العربي سيتجه إلى تحديث خطابه لكنه غير قادر على الفصل بين الديني والسياسي على شاكلة الإسلام التركي. هل بإمكان الإسلاميين العرب الأخذ من الإسلام التركي؟ أعتقد ان المقارنة غير صحيحة، لأن حزب العدالة والتنمية في تركيا وراءه ثمانين سنة أو أكثر من نظام علماني، فهناك مكتسبات علمانية لم يكن ممكناً لهذا الحزب أن يشطبها، وبينها مدنية القوانين وتمييز المجال السياسي عن المجال الديني وتدبير الاقتصاد بمنطق الاقتصاد، ووضعية المرأة وحقوقها. لذلك فإن المقارنة هنا غير ممكنة، لأن الأحزاب الإسلامية في العالم العربي ليست وراءها هذه الخلفية، ولذلك فإن الإسلام السياسي العربي في البلدان العربية، إذا تطور، فسيتطور في خضم تجارب المجتمعات العربية، وإذا أفلح حزب إسلامي في أن يحل مشاكل الناس وينخرط في المسار الديموقراطي، فلا مانع من أن يحتفظ بشعاراته وقيمه الإسلامية، على أن يخلط الأنواع، وألا يحشر الدين في الاقتصاد والسياسة والإبداع الأدبي والفني. } تترافق الديموقراطية مع حركة تنوير للجماعات على مستوى الوعي. ما أهم مقومات الوعي الديموقراطي الذي عبّرت عنه حركات الربيع العربي؟ عبّرت حركات الربيع العربي عن وعي ديموقراطي لكنه مجرد تطلع إلى الديموقراطية، وهو في حاجة إلى تأصيل ثقافي حتى يترسخ في العقلية العامة وفي الممارسة، كما يحتاج إلى تراكم بحيث يكون هناك مسار ديموقراطي يتراكم ويتطور. لقد عبّرت حركات الربيع العربي عن حاجة إلى الديموقراطية تمثلت في الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، وفي التطلع إلى الحرية والعدالة. لكن لا مستقبل للديموقراطية إلا بتعميم الثقافة الديموقراطية، أي ان تنتقل الديموقراطية من شعار وتطلع، إلى تكييف عقلية وسلوك المواطنين، بمعنى ان لا ديموقراطية من غير ديموقراطيين. لكن يمكن للديموقراطية أن تنتج بنفس آليتها نظاماً ينقلب عليها، أي حين تُخرج صناديق الاقتراع غالبية غير متشبعة بالقيم الديموقراطية. أو حين تكون قيم الديموقراطية مثل حق تقرير المصير والحق في الاختلاف وسيلة لصعود الانقسامات الطائفية والمذهبية والقبلية والعرقية بحيث تنغلق على نفسها باسم الحق في تقرير المصير والحق في الاختلاف. لذلك فلا ديموقراطية حقيقية ما لم تسندها ثقافة ديموقراطية ومواطنون ديموقراطيون. } من النتائج التي أفرزها »الربيع العربي« الصعود اللافت للحركات السلفية التي تشن حرباً على كل ما له علاقة بمظاهر الحداثة كما هو الحال في تونس ومصر. إلى أين يمكن أن يصل السلفيون؟ أتخيل المشهد الآتي: أن الأحزاب الإسلامية ستواجها تحديات كبرى لن تستطيع التغلب عليها، وستخسر الانتخابات المقبلة هي التي صعدت بالانتخابات. لكن المقابل لن يكون فقط أن الأحزاب غير الدينية هي التي ستستفيد من خسارة هذه الاحزاب الإسلامية، بل ستنبري لمواجتها أحزاب وتيارات إسلامية أكثر تشدداً. ونحن شاهدون الآن في مصر وتونس على صعود تيارات سلفية أكثر تشدداً من الإخوان المسلمين ومن حزب النهضة. هناك تحديات تواجهها الأحزاب الإسلامية التي صعدت إلى الحكم وشكلت أو ستشكل حكومات: التحدي الاقتصادي بتوفير العمل للعاطلين، والتنمية الاقتصادية وجلب الاستثمار والسياحة التي هي مورد هام للخزينة ومجال واسع لفرص العمل. والتحدي الثاني هو مدى ضمان الإسلاميين للحريات العامة والشخصية وحرية الصحافة والإبداع الأدبي والفني. والتحدي الثالث هو وضعية المرأة من حيث حقوقها ومشاركتها الكاملة في الحقوق المدنية والسياسية ورفع الحصار عنها. والتحدي الرابع يتعلق بالأقليات الدينية والمذهبية، وهل ستكون لها المساواة في المواطنة في ظل نظام الإسلاميين. هذه هي التحديات التي سيواجهها أي نظام حكم إسلامي، والباقي، كالحجاب وماذا يأكل الناس وماذا يشربون، فهو تفاصيل. ولذلك المبارزة المقبلة ستكون بين دعاة الدولة المدنية وبين دعاة دولة الشريعة. } تتخوف الأقليات في العالم العربي من خطاب الإسلاميين. كيف تقرأ تعاطي الإسلاميين مع الأقلية الدينية؟ حين يكسب الإسلاميون الانتخابات ويكونون غالبية في البرلمان والحكومات لا ينبغي لأي ديموقراطي إلاّ أن يقبل بالنتيجة ولو خالفهم. الإسلاميون الآن أمام تحدٍ كبير، فهم اليوم يتحدثون عن الدولة المدنية، وهذا يدفعنا إلى التساؤل ما نوع الدولة المدنية التي يتحدثون عنها؟ ويدفعنا أيضاً إلى التساؤل عن مدى التزامهم بوعودهم السابقة. الديموقراطية تتوقف على المحتوى الثقافي للناس، وهي التي تنتج الغالبية العددية، وإذا كانت هذه الغالبية مستوى وعيها متخلفا، فلا يمكن أن يخرج عن صناديق الاقتراع إلاّ التخلف. الديموقراطية ليست شيئاً معلقاً في الهواء، هي ثقافة تُكتسب. لا يمكن أن نحل مشكلة الأقليات إلاّ في دولة مدنية، وقضية الأقليات هي قضيتنا نحن وليست قضية الخارج، وموضوع الاقليات من الصعب ان يحل بالديموقراطية العددية لأن هذه تؤدي إلى إنتاج غالبية دائمة وأقلية دائمة. إذاً الديموقراطية العددية لا تصلح للمجتمع المتعدد، إلاّ إذا كان هذا المجتمع المتعدد قد وصل بالفعل إلى تأسيس دولة مدنية، وأن يكون الأساس هو الفرد المواطن وليس الفرد السني أو الشيعي أو المسيحي. وإلى أن نصل إلى ذلك فإن الديموقراطية العددية ستُفرز أقلية دائمة وغالبية دائمة. أما ما يسمى بالديموقراطية التوافقية فليست هي الحل، إذ تؤدي إلى تعطيل الدولة لأن لكل طائفة حق النقض على أي قرار. ولن تكون هناك إدارة سليمة لأن التوظيف والترقية والمناصب تتم بناء على ما يسمى بالمحاصصة، وليس على الكفاءة والاقدمية. ولن تكون هناك سياسة خارجية للدولة ككل، ما دام وزير الخارجية يعيَّن بمعيار طائفي وسيتبع تالياً تحالفات طائفته الخارجية. ولن يكون هناك جيش وطني بالمعنى الصحيح للكلمة، إذ ان الجيش سيكون مركباً من طوائف، وهكذا لا حل لقضية الأقليات إلا في دولة مدنية.