يتعرض حزب العدالة لقصف غير مسبوق في وسائل الإعلام، وهو ذو طبيعة مزدوجة ومنظم، فمن جهة تتعرض الحكومة التي يرأسها لما يدعى الزلزال، وتتبارى الصحف والمواقع على تسفيهها واعتبارها قدرا انتخابيا يجثم على كاهل الدولة بضعف الكفاءة وسوء التدبير، ويوصف وزراء العدالة بأنهم ملاهيط حريصون على الكراسي. الوجه الآخر للقصف يستهدف رمزية الأمين العام بتصويره كزعيم يمانع سنة التحول، وبأنه يكولس للخلود على رأس الحزب. في كلتا الحالتين، العنصر البشري للحزب متهم في ذمته السياسية وليس بينه وبين باقي الكائنات السياسية فرق! هذا ما تحاول الهجمة نحته عند المواطن المتتبع، وهو استهداف لا يطال القيادة فحسب، بل يُتهم ذكاء المناضلين ويصورهم مريدين بلا عقل، أسلموا قيادهم لكبرائهم، وهو ما يكشف جهلا فظيعا بطبيعة الدينامية التفكيرية داخل الحزب. صعب في العدالة والتنمية الاستحواذ على الروح النقدية للمناضلين، والاختلاف الحاصل دليل ساطع عَلى ما أزعم. لا يستطيع الأمين العام، رغم مهاراته الإقناعية، مصادرة عقول الأعضاء. كما لا يقوى ما ينعت في الصحف بتيار الاستوزار الالتفاف على الطاقة الحجاجية المستمدة من ميكانيزمات التفكير، التي ترسخت سلوكيا وتصوريا عبر تمارين منطقية وأصولية شكلت المأدبة الفكرية والأخلاقية والتربوية للأعضاء. والوصف هنا تغليبي، لذا لست خائفا من فتنة مقسمة، وإن كان الأمر ممكنا بالنظر إلى ما يعتري التجمعات بشكل عام، لكن من موقع العارف بما يعتمل داخل الصف أستطيع أن أزعم أن محاولات شق الصف ستفلح، إن هي أفلحت، في زعزعة أسمى ما يمكن أن تبلغ ضيق أفراد برأي الأغلبية وانسحابهم لا قدر الله. الأمر لا يدعو الى الولولة، بل إلى إقناع الجميع بضرورة إعلاء القيم المؤسسية القائمة أساسا على الديمقراطية المحررة من تشويهات الكولسة واحتطاب المنتسبين المدخرين لترجيع كفة فلان أو علان. لا أذيع سرا إذا زعمت أن الأمين العام، رغم كونه أيقونة في المشهد السياسي، إلا أننا لا ندخره في لحظات الانتقاد و التصويت، هل أذكر المغرضين بأنه رتب ثانيا في تداولات الترشيح بسلا في الدور الأول، ويتعرض منا لألذع الانتقادات سابقا وحاليا، ولا ينتقص ذلك من قدره شيئا، بل بالعكس تتألق بشريته المسكونة باحتمالات النجاح والإخفاق. السجال الداخلي للحزب سيظل حيويا وبانيا شريطة تحرره من أخلاق الضرب تحت الحزام والاتهام في النوايا واتجاهه إلى دائرة التقديرات والأطروحات... ما الحل لكي لا ننزلق إلى التيه وفقدان البوصلة؟ لقد آن الأوان لاعتماد النقاش القائم على التداول في الأطروحات بدل النزوعات الفردية المتورمة أحيانا، والحاجبة للرؤية بضجيجها وصخبها ولمزها للمخالف. سينتقل السجال إلى عالم الأفكار ويصير المعيار حجة الإقناع الذي لا بد أن يكون مستحضرا لجوهر العملية السياسية، وهو ما من أجله اختارنا المواطن. وكل أطروحة تغرد بعيدا عن هذا المرجع ستغدو دالا بلا مدلول. كنت في مقال سابق قد نبهت إلى أن المرحلة القادمة ستشهد مزيدا من التقهقر، وهو ما أكدته نتيجة وجدة من جديد. ألا يكون التفريط في جنب الاختيار الديمقراطي وما يقتضيه من تصدر حقيقي للمشهد، كما ارتضته الصناديق، سببا من بين أسباب أخرى فيما آلت إليه أحوال الحزب؟ يتساءل البعض عن الأطروحة التي ستؤطر مسار ما بعد المؤتمر، وهو استفهام موجه إلى طرفي النقاش الداخلي، غير أن عناوين الأطروحة لا يمكنها أن تنحرف عن محدد الديمقراطية، بل عن محددات الدستور، إذ لا يعقل صياغة أطروحة استجابة لمصادمته اللحظة السياسية بعيدا عن المرجعيات الناظمة والحائزة على الرضا المجتمعي . نحن الْيَوْمَ في مفترق الطرق، وليس المهم التمديد أو التجديد لفلان أو علان، ولكن الأساسي التمديد لأطروحة تنتصر للاختيار الديمقراطي ناصعا غير منقوص . *رئيس لجنة الخارجية بمجلس النواب