بعد أن فرّ إلى جانب أفراد عائلته الصغيرة من بطش سنوات الرصاص بالمغرب، بسبب الأنشطة السياسية لوالده، وهو ما يزال في سن ال15 سنة فقط، سيصبح بعد سنوات طويلة واحدا من أهم النشطاء الاجتماعيين المدافعين عن حقوق المسلمين بألمانيا، والمطالبين بتوحيد الصوت الإسلامي بهذا البلد الأوروبي، لكي يعيش هؤلاء بشكل أفضل، بعد أن لفحتهم نيران الهجمات الإرهابية التي ضربت أوروبا طيلة السنوات الأخيرة، وجعلتهم مشتبها فيهم مع وقف التنفيذ. رحلة الهرب من "الرصاص" رأى سامي شرشيرة، الناشط الجمعوي ومستشار وزير الداخلية الألماني في شؤون الإسلام والهجرة والاندماج، النور بحي المصلى بمدينة طنجة سنة 1972، ودرس المراحل الابتدائية والإعدادية بها قبل أن يترك ثانوية مولاي رشيد مكرها، ليلتحق، رفقة والده وعائلته الصغيرة، بوالده الهارب إلى ألمانيا من بطش نظام الملك الراحل الحسن الثاني. قضى شرشيرة ساعات الطريق الفاصلة بين طنجة ودولسدورف يفكر في حياته الجديدة في دولة يرطن سكانها بلغة غريبة على مسامعه، وهو الذي ظل لما يفوق العقد من الزمان يكلم أصدقاءه وجيرانه وأحبابه بلهجة أهل طنجة المميزة. "كان وصولي إلى ألمانيا محطة فارقة في حياتي..مرت الأيام والأشهر الأولى صعبة للغاية"، يقول شرشيرة في لقاء مع هسبريس بمدينة دوسلدورف الألمانية، المعروفة بتواجد العديد من المغاربة والعرب على أراضيها. بسبب عدم تمكن الطفل سامي حينها من لغة غوتة، تم إرجاعه ثلاثة مستويات دراسية، ما قد يؤثر على نفسية العديد من المراهقين في سنه حينها، بيد أن الأمر كان مختلفا بالنسبة لشرشيرة، الذي سيصبح بعد سنوات من ذلك واحدا من أبرز النشطاء العرب في مجال العمل الاجتماعي بألمانيا. تشبع شرشيرة بالثقافة الألمانية، وأصبح بعد سنوات من حلوله بها يفتخر بهويته الجديدة، لكنه بالرغم من ذلك لم ينس يوما المكان الذي رأى فيه النور وعاش فيه سنوات غير هينة من عمره، التوليفة التي ستدفعه إلى الاندماج بسهولة داخل المجتمع الألماني. بعد سنوات من المثابرة، سيلج شرشيرة الجامعة لدراسة العلوم الاجتماعية، قبل أن يتخرج منها سنة 2004؛ لكن مساره الدراسي لم يتوقف عن هذا الحد، إذ ارتأى الناشط الجمعوي ذو الأصول المغربية العودة إلى مقاعد الدراسة بولاية تسمى سكسونيا المنخفضة، حيث يحضر حاليا رسالة الدكتوراه في جامعة أوزنابروك. حياة جديدة اندماج شرشيرة السريع داخل المجتمع الألماني سيعطيه الثقة اللازمة في النفس لشق الطريق التي يريد، إذ بقي قريبا من مجال تخصصه العلمي، وخاض غمار ما يسمى هنا في ألمانيا "الخدمات الاجتماعية المحترفة". "الدولة الألمانية تفوض الخدمات الاجتماعية للمجتمع المدني عن طريق شراكات، وتمول المشاريع لكي يضطلع بها بشكل محترف، بمواكبة ومراقبة وإشراف من مصالحها"، يشرح شرشيرة ماهية العمل الذي يقوم به. عكس واقع الحال بالمغرب، يمنع القانون بألمانيا على الحكومة الإشراف على المشاريع ذات الطابع الاجتماعي إذا ما كانت هناك مؤسسة خاصة لها الرغبة والقدرة على الإشراف عليها. على هذا الأساس تتكلف حوالي ست مؤسسات مدنية كبرى بألمانيا بالمشاريع الاجتماعية، وكل واحدة منها تتوفر على جيش من الموظفين والمتطوعين. وتتعلق هذه المشاريع أساسا بكل ما هو اجتماعي وخيري، على غرار المستشفيات ودور العجزة ورياض الأطفال وغيرها. هذه المؤسسات الكبرى، وهي كاريتاس، دياكونيه، أفون، الصليب الأحمر، مؤسسة المساواة، المؤسسة المركزية للخدمات الاجتماعية للجالية اليهودية، تنفق حوالي 65 مليار أورو في السنة بتمويل من الدولة، وكل واحدة منها تكون مدعومة من حزب أو أكثر، كما تتعلق بعضها بالجاليات على أساس ديني. لكن الملاحظ من كل هذا غياب أي مؤسسة كبرى ذات خلفية إسلامية، تهتم بتحسين وضعية المسلمين المقيمين هنا. "هذه بالضبط مهمتي، نحن نطالب كمسلمين بإيجاد مكان لنا داخل هذا المشهد وإنشاء المؤسسة المؤثرة رقم 7"، يوضح شرشيرة أهدافه من النضال اليومي لصالح قضايا المسلمين والمهاجرين، مبرزا في السياق ذاته أن "الطائفة اليهودية على سبيل المثال تتوفر على مؤسسة قوية تدعم مصالحها، بالرغم من أن أعداد اليهود قليلة جدا مقارنة بأزيد من 5 ملايين مسلم موجودين داخل ألمانيا". صوت الإسلام المشتت أبرز قضية تؤرق ذهن شرشيرة، وتساهم في الوضعية التي يعيشها المسلمون حاليا في عدد من الدول الأوروبية، وعلى رأسها ألمانيا، هي تشتت صوتهم و"اتفاقهم على ألا يتفقوا". فبالمقارنة مع جاليات عديدة متواجدة بألمانيا، كالأتراك والإيرانيين، تبقى الجالية العربية والمسلمة الأقل وحدة، ما يدفع السلطات الألمانية إلى رفع شعار في وجهها، مفاده "لا وجود لمخاطب رسمي لكم". يقضي شرشيرة ساعات طويلة بمقر عمله الموجود بحي ياغن برغ غيليندا القريب من المستشفى الجامعي لمدينة دوسلدورف؛ في بناية جميلة، تبدو للوهلة الأولى وكأنها متحف، يوجد مكتبه. "هذا المكان تم إنجازه بسبب ضغط المجتمع المدني الذي رأى أن يبقى حاضنة للفن والثقافة ولنشاط المجتمع المدني"، يقول سامي. إلى جانب ذلك، تم إنجاز الحي بكامله بتمويل من الحكومة الألمانية لفائدة العائلات التي لا تملك دخلا كبيرا. زهاء 60 في المائة من سكان الحي حاليا من أصول مغربية، يقطنون إلى جانب أناس منحدرين من حوالي 54 جنسية أخرى، أغلبها مسلمة. الدور الذي يقوم به شرشيرة مكنه من أن يصبح مستشارا لدى وزير الداخلية في الحكومة الاتحادية بألمانيا، في منظومة تسمى "المؤتمر الألماني الإسلامي"، يشرف فيها على إرشاد المؤسسات الإسلامية إلى الطريقة الفضلى لتطوير مؤسساتها من أجل الاستفادة من برامج الخدمات الاجتماعية المحترفة. كما يقدم شرشيرة استشارات لوزارة الداخلية الألمانية، حول سبل التعاون والشراكة بين المنظمات الألمانية وممثلي الجالية المسلمة. "نحن ننطلق من مفهوم أن هذه الخدمات الاجتماعية تهم الألمان عامة وليست محصورة على فئة المسلمين أو غيرها". إلى جانب عمله الاجتماعي، يعمل شرشيرة باحثا في جامعة أوزنابروك، ويهتم بنفس مجال عمله، إذ نشر العديد من الأعمال العلمية حول هذا الموضوع، بعضها باللغة العربية، من بينها "الخدمات الاجتماعية المحترفة للجالية المسلمة في ألمانيا"، و"النبضات الإسلامية للمنظومة الاجتماعية في ألمانيا".. هذه الأبحاث ستمكن شرشيرة من دخول نادي المتخصصين في هذا المجال، وهم حوالي أربعة أشخاص فقط على الصعيد الألماني. رغم قضائه أزيد من 27 سنة في ألمانيا، البلد الثاني بالنسبة له، لم يقطع شرشيرة حبل الود مع بلده الأم، إذ يزوره بشكل دوري مع العائلة حوالي مرة كل سنتين، كما يحل به في إطار العمل أحيانا، مصرا على أن يتعلم أطفاله الصغار اللغة العربية، اللغة التي لا يتحدثونها بطلاقة إلى حد الآن. بعد هذه السنوات الطويلة التي قضاها بعيدا عن الوطن، تتقاذف شرشيرة اليوم هويتان اثنتان؛ يقول إنه مغربي ألماني، ولا يمكنه أن يتخلى عن هوية منهما، سواء التي نشأ في أحضانها، أو التي رحبت به ومنحته حقوقا أساسية لم يكن ليحصل عليها في مكان آخر بعيدا عن وطنه الأم. "ليس هناك تصادم بين هويتيّ. إذا ما تخليت عن واحدة منهما، سأكون بذلك قد تخليت عن نصف من روحي"، يقول سامي بتأثر باد. *برعاية "دويتشه فيله" DW