كلما حل شهر رمضان تكثر الأسئلة الإيمانية والوجدانية والأخروية – الميتافيزيقية أكثر من أي شهر آخر، فيزداد استشعارنا للحاجة إلى الله وحده، والعيش في أنسه، والقرب إليه، والتوجه مباشرة إلى الأحد الصمد، بالصيام والصدقات والذكر، ومحاولة قطع علاقتنا مع الفانيات الزائلات وإن كانت الحياة المادية المعاصرة بعنفها وإغراءاتها المتتالية، ومسلسلاتها التي تبعث على الغثيان تجذبنا إلى الأسفل .. لكن لا مفر منه إلا إليه سبحانه وتعالى ... ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ [ الذاريات : 50] *** يا نفسي .. كم بقي في عمري !؟ تصفر الوجوه أمام ذكر هادم اللذات .. ويكاد ينسى الإنسان مصيره .. والجبال لا تنس ولا السماوات . والنفس– كانت ولازالت تحب الحياة ... إلا قليلا ! تحب الألوان .. إلا قليلا ! وفي كثرة الألوان عماء لروحها .. إلا قليلا ! – . لحظة بعد شقيقتها .. تمضي النفس في رحلة بلا عودة، منذ الولادة .. إلى النهايات؛ نهاية الصحة، والمال، والشباب، والجمال، والحديد، والخشب، والرمل والتراب .. إلا من الأعمال. قالت نفسي ذات فكرة : ′ مدني بالدليل على الإيمان ! ′ ويا ليتها سكتت بعد طول إنتظار. أيوجد في الكون قياس للمطلق بالنسبي، كيف لي أن أثبت المطلق، الله تعالى، بما هو نسبي (الدليل)؟ وإن كل ما وصلت إليه العلوم هو محاولة فهم لموجودات الواجد، في عظمتها ودقتها المتناهية ونظامها وقوانينها الدقيقة، كما هو الحال مثلا في علم الفضاء والفيزياء، أو علوم الطبيعة والإنسان والحيوان بصفة عامة. والصنعة إنما تدل على الصانع، بمعنى أن الموجودات إنما تدل عل الواجد، وأنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم كما قال فقيه و فيلسوف قرطبة المغربي ابن رشد رحمه الله . فكلما زادت معرفتنا ب" السماء مثلا " سلك فؤادنا في مدارج الإيمان إلى الخالق الحكيم .. فالنظر في خلقها عبادة وشهادة على ضعف قوتنا . قال الجنيد : أشرف المجالس وأعلاها الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد، والتنسم بنسيم المعرفة، والشرب بكأس المحبة من بحر الوداد، والنظر بحسن الظن لله عز وجل، ثم قال : يا لها من مجالس ما أجلها ومن شراب ما ألذه، طوبى لمن رزقه . فيا نفس أقبلي على الفكرة الربانية، وأدبري عن الفكرة التي ترمي بالجمر والحجر. *** إذا حصل العلم في القلب تغير حال القلب، وإذا تغير حال القلب تغيرت أعمال الجوارح، فالعمل تابع الحال والحال تابع العلم والعلم تابع الفكر كما قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله. فهذا شهر رمضان يمضي، وهذا الكون الفسيح بآياته الجليلة الخاصة، وهذه الأرض بحوادثها وكائناتها ليست سوى كتاب يقرأ : فأين المتفكرون .. أين المتدبرون .. أين الناظرون .. أين العاقلون .. ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) [ آل عمران 190 - 191].