فجّر الحدث الإرهابي الأخير الذي هز مدينة برشلونة الاسبانية موجة من النقاشات والجدالات والتوترات، سواء عند صناع القرار أو في الأوساط الإعلامية أو حتى عند المواطن العادي؛ ذلك أنه مع كل حدث إرهابي تتصاعد حدة الكراهية والإسلاموفوبيا (Xénophobie, Islamophobie) ضد المهاجرين بشكل عام، وبشكل خاص ضد المسلمين، على اعتبار أن منفذي الهجوم الإرهابي هم من المسلمين. والجدير بالذكر أن حضور قيم الكراهية ضد المسلمين قوي في إسبانيا؛ إذ إنه في الإحصاء الذي أنجز في بعض دول أوروبا حول "ربيع 2014" (spring 2014 global attitudes survey) تيبن أن إسبانيا فيها نسبة الكره للمسلمين تصل إلى 46 بالمائة. أما إذا عدنا إلى الحدث الأخير فإنه ليس هو الحدث الأول الذي يثير هذه الموجة من الغضب والتوتر العامين، بل أصبح من المسلّم به بعد كل حدث إرهابي في دول أوروبا أو أمريكا أن تحضر ردود الفعل القوية والغاضبة نفسها. ففي حالات ما بعد الأحداث Postattentat، نجد أن الباحثين في العديد من مراكز التفكير يطلقون استطلاعات للرأي لقياس مدى حضور مستوى هذه المشاعر؛ حيث سجل أحد هذه المراكز في فرنسا أن 58 بالمائة من الفرنسيين أعلنوا أنهم عبروا عن ردود فعل تتسم بالكراهية للأجانب، وخصوصا المسلمين، ما داموا يقعون في أحداث إرهابية عنيفة (Revue, Sciences Humaines, n°292-Mai,2017). إن هذا الواقع أصبح مؤرقا للجميع، وعلى رأسهم المهاجرون المسلمون الذين يعقون ضحية الأحكام الجاهزة والنمطية (Les stéréotypes) والتعميمية؛ إذ إن كل المسلمين متهمون حتى تثبت براءتهم. ولذلك، فإنه مع كل حدث إرهابي يعاد النقاش من أوله حول وضعية المهاجرين في بلاد المهجر، وبالتالي حقوقهم وواجباتهم ومدى اندماجهم في هذه الدول، وكأن العالم ينقلب رأسا على عقب بعد كل حدث إرهابي. ولعل ذلك ما يسمح لنا بالحديث عن نسف كل الجهود المؤسساتية والتنظيمية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية، التي بذلت على مدى السنوات الأخيرة لإدماج المهاجرين، وكأننا أمام حالة الضياع، كما عبرت عن ذلك الفيلسوفة "حنا أرنت" (Hannah Arendt) (La migration comme l'expérience de la perte). وربما لا نأتي بجديد إذا ما وقفنا عند وجود مجموعة من المؤشرات التي أصبحت تلازم الكره للأجانب (Xénophobie)، وهي الصعود القوي للأحزاب اليمينية المتطرفة، وبشكل أكبر بروز الخطابات الشعبوية والتبسيطية والاختزالية، التي تعيدنا إلى سنوات غابرة؛ إذ تتم تغذية سلوك المواطنين بالعنف والتمييز العنصري على أساس العرق والدين واللغة والانتماء السوسيومجالي. وقد عبّرت الفيلسوفة الفرنسية (Fabienne Brugère) عن ذلك بالقول: "ليس الهجرات هي التي تغذي التمييز العنصري، بل هي الطريقة التي تصنع بها إيديولوجيا قيم العنف والتمييز والوصم في وجدان وشعور المواطنين الأوروبيين، من قبل الخطابات الشعبوية-اليمينية المتطرفة" (Sciences Humaines,op,cit). فهل معنى ذلك أن مستقبل المهاجرين أصبح في خطر؟ وهل يعني ذلك أنه لا مستقبل للتعايش بين الشعوب والأقليات والأجناس والأديان واللغات والعرقيات في دول أوروبا وأمريكا؟ هل سنشهد حالة من النكوص والتراجع الدراماتيكي للترسانات القانونية والمؤسساتية والتنظيمية والاجتماعية والاقتصادية والسوسيوثقافية التي بلورها الذكاء الجماعي للأوروبيين والأمريكيين والمهاجرين من كافة الأجناس والشعوب؟ أو على العكس من ذلك، كلما تصاعدت حدة الكراهية والتمييز العنصري للأجانب، بلور المجتمع آليات للمواجهة، كما قال بذلك فرانسوا ديبي (François Dubet): «En fait, si chaque société produit ses propres formes de racisme, elle produit aussi des modèles politiques et des récits permettant d'y résister» قبل الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها، يجمل بنا أن نقف عند خصائص أهم السياسات الإدماجية التي عرفتها دول أوروبا وأمريكا في السنوات الأخيرة، وهي التي سنخصص لها الفقرة الثانية من هذا المقال. وقفة مع أهم الخصائص السياسات الإدماجية للمهاجرين من خلال تفحص بعض الأدبيات في سوسيولوجيا الهجرة، يتبين أن هناك مقاربتين أساسيتين في سياسة الإدماج؛ الأولى تتخذ من التعدد الثقافي منطلقا لها في رسم برامج وسياسات تحترم الإثنيات المختلفة والأديان المتعددة، وتقر لها بحقها في التعبير عن ذاتها، بل توفر لها من الإمكانات العمومية ما يجعلها تمارس حقوقها الثقافية والدينية واللغوية وغيرها، بكل حرية ومساواة مع المواطنين الأصليين. وهذه المقاربة نجدها في الدول ذات التقاليد الأنغلوساكسونية. بينما المقاربة الثانية، تنهل من القيم الكونية والموحدة على الجميع، وهذه المقاربة تنحو نحو تنميط السلوكيات والمواقف والاتجاهات في بوتقة واحدة وموحدة، على اعتبار أننا نعيش في فضاء اجتماعي واحد، وأن الذي يحكمها هو قيم مواطناتية عامة، تحت شعار "الوطن للجميع"، ويمكن أن نأخذ كمثال على ذلك، تجربة فرنسا حيث القيم العلمانية والمواطناتية هي التي تؤطر سياسية الهجرة والمهاجرين، رغم أنه ظهرت عيوب لهذا النموذج. (وجبت الإشارة أننا استفدنا من مقال "مود نافار/ Maud Navarre"، في المجلة الآنفة الذكر). ولعل من خلال هذين المقاربتين، استخلص الباحث الأيرلندي (EntzingerHan) ستة نماذج لسياسات الإدماج للأقليات، عبر دراسته للتجارب العالمية في هذا المجال. 1-مقاربة المساواة في الحقوق الكونية: وهي المقاربة التي تعطي للجميع (مواطنين أصليين وغيرهم) الحقوق نفسها في إطار احترام القوانين المعمول بها في البلد. ويمكن فهم سياسية منح الجنسية للأجانب في هذا السياق. هذا على الرغم من النقاش في الفقه القانوني الذي لا زال ينظر بنوع من الشك للولاء الفردي، هل هو للوطن الأم أم للوطن المهاجر إليه؟ 2-مقاربة سياسة منح حقوق للأقليات الإثنية: أو ما يسمى حقوق الأقليات، التي تعترف بل ترسخ قوانين وسياسات عمومية تمنح للمهاجرين حقوقهم الدينية واللغوية، بدون إكراههم لكي ينخرطوا في قيم وثقافة بلد الهجرة. مثلا تجد في كندا أقليات دينية وإثنية هندية تقوم بطقوس "البوتلاش" (الطقس الخاص بالهندية). إلا أن هذه المقاربة تبقى لها مخاطر عدم الاندماج في بلد الهجرة، وهي ترسخ نوعا من الانغلاق الحضاري. 3-مقاربة التعددية الليبرالية (سياسة تعزيز القيم الثقافية الفردية): وهذه السياسية الإدماجية تقوم على مسلّمة أن القيم الثقافية هي فردية خاصة، والدولة لا تتدخل في ذلك، وتنتهج سياسة الحياد. ويمكن اعتبار تجربة اللائكية الفرنسية نموذجا بنوع من التحفظ؛ لأنه ظهر في لحظات معينة تجيز تدخل بعض الأجهزة في الدولة (الشرطة مثلا) ضد بعض الاختيارات الفردية (حالة منع لباس البوركيني في البحر في السنة الماضية). 4-مقاربة التعدد الثقافي التي تعزز من الاختلافات بين الأقليات والإثنيات: وهذه السياسة تقوم على حق الاعتراف بكل الاختلافات السوسيوثافية المتواجدة بين المواطنين الأصليين أو المهاجرين، بل أكثر من ذلك، فهذه السياسات تمنح الشرعية لانتعاش ثقافة الآخر داخل بلد الهجرة، وكمثال على ذلك، يستعرض السوسيولوجي الأيرلندي "Entzinger" تعليم لغة الأم في بلد الهجرة للمهاجرين، وحق إنشاء الجمعيات والنوادي والتجمعات. ورغم أن هذه المقاربة تبقى مهمة في ضمان الحقوق الدينية واللغوية للمهاجرين لكنها تمنع الاندماج السريع لهؤلاء المهاجرين، وتعيق التفاهم العلائقي، لكنه يبقى نموذجا جديا للتعايش. 5-مقاربة السياسات العمومية القائمة على ضمان تكافؤ الفرص للجميع: وهي مقاربة تقوم على ترسيخ قيم المساواة بين المواطنين، خصوصا الذين يعيشون في ظروف هامشية وهشة، ولعل الدول التي تقوم بذلك، (نموذج دول الرعاية الاجتماعية) تسعى لكي لا تحصل لها توترات اجتماعية وسياسية واقتصادية، خصوصا في حالات ارتفاع البطالة في صفوف المهاجرين. وبالتالي فكون هذه الدول تنهج هذه السياسية، فإنما ذلك بغرض الحفاظ على تماسك المجتمع ووحدته. 6-مقاربة السياسات العمومية القائمة على الإنصاف: وهي مقاربة تنحو نحو تمليك الأقليات الإثنية والدينية والعرقية حقوقها، عندما لا يتحقق لها ذلك في ظل وجود سياسات تكافؤية للجميع، وبالتالي، فإن الأكفأ والأقدر هو من يحصل على تلك الحقوق، ولهذا تم التفكير في آلية بديلة تقوم على مبدأ المناصفة عبر اللجوء إلى "الكوتا"، لكي تتم الاستفادة المثلى من جميع الحقوق. وبالمناسبة فهي آلية تم اعتمادها لتمكين النساء من حقوقهن السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. طبعا كل هذه المقاربات التي تمت دراستها تحبل بالعديد من المزايا للمهاجرين ولحقوقهم الدينية والإثنية واللغوية، بل وحتى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لكنها في الوقت نفسه تطرح العديد من الإشكالات والتناقضات. ولعل من بين هذه التناقضات أنه في حالات كثيرة لا يتحقق الاندماج السلس والطبيعي للمهاجرين، وهو ما يعرضهم لنوع من التفكك والتصدع الهوياتي والعلائقي والمواطناتي. إلا أنه بالرغم من كل ذلك، فإن هذه التجارب تسمح بالقول بأنه إذا ما كان من درس يمكن أن يستفيد منه صناع القرار وصانعو السياسات العمومية في بلدان أوروبا وأمريكا، فهو التفكير في مقاربات أكثر مرونة وأكثر انسيابية بالشكل الذي يوازن بين جدلية الحقوق والواجبات للمهاجرين، وبما يحقق التعايش المشترك، وبما يقلل من حدة التوترات والصراعات. إلا أن ذلك لا يستقيم إلا إذا استحضرنا شرطا موضوعيا آخر، هو المتعلق بواجبات المهاجرين تجاه بلدان المهجر، وهو ما سنفصله في المحور الثالث من هذا المقال. في شروط تملك قيم المواطنة العالمية للمهاجرين لا شك أن معالجة هذا الموضوع تبقى شائكة وعصية؛ لأن مسألة تمليك قيم مواطناتية عالمية للمهاجرين، ليس بالأمر الهين أو السهل، ولأن الموضوع مرتبط بانخراط دول المهجر ودول الاستقبال؛ وذلك بالتفكير في سياسيات التقائية مرنة ومحكومة الأهداف والغايات والنواتج. فكون المهاجر المغربي أو التونسي أو الجزائري، أو غيره، يقوم بعملية إرهابية في دولة مثل إسبانيا أو فرنسا أو ألمانيا أو إنجلترا، فذلك يعني أن هناك مسؤولية مشتركة بين البلدين. صحيح أنه يصعب في حالات بعينها أن نحمل البلد المستقبل نتائج الإفلاس التنموي بالبلد الأصلي. ولعل الشبان الذين قاموا بالعمل الإرهابي الأخير ببرشلونة يعبرون عن ذلك؛ إذ إن أغلبهم –حسب ما تم تداوله في وسائل الإعلام- لا يتوفرون على مؤهلات علمية وليس لهم ثقافة دينية منفتحة ويعيشون في أوضاع الهشاشة والفقر في بلدانهم، وعندما التحقوا بالجارة الإسبانية، حصلوا على عمل، لكنهم لم يؤطروا بطريقة سوية على قيم المواطنة العالمية، وبقوا منشدين لقيم دينية موغلة في التطرف، ووجدوا من يستغلهم عبر غسيل الأدمغة لكي يتحولوا إلى إرهابيين ينفذون عمليات خطيرة، اعتقادا منهم أنهم يقومون "بالجهاد في سبيل الله، لتحرير البلد من الكفر والكفار". وهذا لعمري أكبر جريمة يتم ارتكابها في بلاد المهجر؛ إذ كيف يمكن تصور شخص يحظى بكافة حقوقه ويتم توفير العمل له يقوم بعملية انتحارية ضد هذا البلد؟ هذا نموذج للطريقة السريعة لاستقطاب المهاجرين دونما المرور بعملية تنشئة اجتماعية ومؤسساتية صارمة وبالتنسيق مع بلدان العبور لكي تتم إعادة التنشئة وفق القيم المواطناتية العالمية، وليس فقط وفق المنظور الضيق للوطن وللقيم المواطناتية. فكون الشخص يتواجد في فرنسا أو إسبانيا أو إنجلترا، فذلك يحتم عليه التقيد التام بكل الواجبات التي تقرها القوانين والدساتير. بيد أنه في ظل غياب هذه التنشئة، ما العمل؟ هل هو سد الباب في وجه المهاجرين؟ هل يعتبر هذا الحل ناجعا؟ ألم نشاهد حالات لإرهابيين من أصول فرنسية أو بلجيكية قاموا بأبشع الجرائم؟ لا يمكن الاعتماد على سياسة سد الباب في وجه المهاجرين؛ لأن المسألة تتجاوز سن سياسة احترازية في زمن العولمة والانفتاح. وبالتالي وجب التفكير في سياسات أكثر ذكاء وأقدر على خلق بيئة تحصينية لقيم المواطنة، ولحق الاعتراف بالآخر. وهو ليس بشيء جديد على العقل الأوروبي، فقد تم تجريبه عبر العديد من السياسات، التي وقفنا على جزء من نماذجها، لكن اليوم نعيد التذكير بذلك؛ لأن أصوات العقل بدأت تتوارى ليحل محلها صوت العاطفة، وصوت الضغينة وصوت الانتقام، وصوت إلغاء الآخر. لا شك في أن الإرهاب يهدد الجميع، مهاجرين ودول المهجر، ولا يستثني أحدا؛ لذا أعتقد أننا في حاجة إلى تطوير آليات مستعرضة تهم جميع الدول للتفكير في بلورة رؤية استراتيجية لمواجهة هذا الخطر الداهم.