تم في نهاية الأسبوع المنصرم تنظيم انتخابات المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية حيث فاز بالتمكن من موقع الصدارة فيها تجمع مسلمي فرنسا المقرب من المغرب، وذلك بعدما امتنع اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا المقرب من الإخوان المسلمين عن المشاركة بعد رفض طلبه المتمثل في تأجيل موعد الانتخابات. وقد أجريت هذه الأخيرة وفقا لما صرح به لوسائل الإعلام السيد محمد موسوي رئيس المجلس الفرنسي للديانة الاسلامية في 22 منطقة فرنسية من أصل 25، وشارك فيها 3460 مندوبا أي 77% من المسجلين والمختارين من قبل 900 مسجد. النتائج التي أفرزتها هذه الانتخابات أكدت بقاء مجلس إدارة المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية تحت تأثير الأغلبية التي يكونها تجمع مسلمي فرنسا المقرب من المغرب الذي حصل على 25 مندوبا، في حين حصل جامع باريس الكبير على ثمانية مندوبين، وجمعيات المسلمين الأتراك على سبعة واتحاد المنظمات الإسلامية الفرنسية القريب من الإخوان المسلمين على مندوبين اثنين، إضافة إلى مندوبين اثنين من المستقلين. وفيما يخص رئاسة المجلس الفرنسي للديانة الاسلامية، من المتوقع أن تتم بالتناوب بين جامع باريس وتجمع مسلمي فرنسا وجمعيات المسلمين الأتراك. وقد صرح إمام جامع باريس الكبير دليل أبو بكر المقرب من الجزائر إلى الصحافة بقوله إن "الأرقام الأولية التي أسفرت عنها الانتخابات في 25 مقاطعة فرنسية هي مؤشر قوي على التزام الجالية الإسلامية واهتمامها بمستقبل هذه الهيئة، انطلاقا من إيمان قوي بأهميتها ودورها حيث فاقت نسبة المشاركة في الانتخابات 70 بالمائة والأغلبية كانت مغربية وجزائرية". وستمتد رئاسة كل من هذه التجمعات وفق مبدإ التناوب سنتين علما بأن مدة ولاية المكتب المسير للمجلس تمتد ست سنوات. وبالتالي، ما أثارته بعض وسائل الإعلام من أقوال حول صراع المساجد بين المغرب والجزائر في فرنسا يبدو أنه لا أساس له من الصحة، وستعلن النتائج النهائية لهذه الانتخابات بالتفصيل يوم 23 يونيه الجاري. وللتذكير، تحتضن فرنسا أكبر جالية مسلمة في القارة الأوربية حيث إن عدد أفرادها يقدر بما بين خمسة وستة ملايين نسمة، والنظام اللائكي العلماني الجاري به العمل في فرنسا لا يمثل فيه الأصل الإثني أو الانتماء الطائفي أو العرقي أو الديني أية مرجعية وطنية. وقد أعدت فرنسا عددا من الوسائل لتفعيل آليات إدماج الجالية المسلمة وغيرها من الجاليات الأجنبية داخل القالب الاجتماعي والسياسي والثقافي الفرنسي، فأسندت للمجلس الفرنسي للديانة الاسلامية اختصاصات تجعل منه الهيئة التنظيمية، التأطيرية والنيابية الساهرة على احترام قواعد العمل الإسلامي بفرنسا في مجال التعليم الحر، وتأطير الحضور الجماعي للمسلمين في أماكن العبادة، والسعي إلى تحقيق احترام التعاليم الدينية والتعليمات الإدارية المتعلقة بمجالات تغذية أبناء الجالية المسلمة في المدارس والثانويات والجامعات، والعناية بشؤون المسلمين المرضى في المستشفيات الفرنسية والمسلمين المعتقلين في السجون الفرنسية وما إلى ذلك من الأمور التي تخص الجاليات المسلمة القاطنة بفرنسا. ومراعاة منها للقيم الأوربية المشتركة، تعتمد فرنسا فيما يخص التمثيلية الهادفة إلى الدفاع عن حقوق الجاليات المسلمة وغيرها من الأقليات على المقاييس المتبعة على صعيد الاتحاد الأوربي. بحيث إن البرلمان الأوربي أحدث مؤسسات وسيطة بينه وبين الجمعيات والمنظمات غير الحكومية التي تلعب دور الناطق الرسمي سياسيا باسم المهاجرين والأقليات الدينية والإثنية المتواجدة ببلدان الاتحاد الاوربي، ونذكر من بين تلك المنظمات غير الحكومية "منتدى المهاجرين بالاتحاد الاوربي" الذي يرفع إشاراته وتقاريره إلى البرلمان الأوربي عقب انعقاد دوراته واجتماعاته. نخلص إلى القول بأن تمثيل الجالية المسلمة داخل المؤسسات الفرنسية يظل قائما داخل النسيج الجمعوي وفي إطار المنظمات غير الحكومية. وتجدر الإشارة إلى أن غالبية مسلمي فرنسا تنتمي إلى البلدان المغاربية والإفريقية التي ظلت في معظمها متمسكة بالمذهب السني المالكي. وتعتبر الجالية المغربية من أبرز الجاليات التي تتبع في باب التدين والتعبد نهج الطريقة الأشعرية المعتمدة منذ قرون في المغرب الأقصى وفي غيره من بلدان الغرب الاسلامي. وليس من شك في أن الجاليات المسلمة بأوروبا تظل في حاجة إلى مزيد من الاهتمام من خلال التفكير في بناء فقه جديد يعنى بشؤونها، بحيث إن مسألة وضع فقه يعنى بشؤون المسلمين خارج دار الاسلام على العموم أصبح ضرورة ملحة نظرا لكون المسلمين يشكلون أقلية بالبلدان المستقبلة. ومن شأن إرساء هذا الفقه - على غرار الفقه الإسلامي الخاص بالأقليات غير المسلمة داخل المجتمع الإسلامي - مساعدة الجاليات المسلمة على الاندماج أكثر داخل بلدان الاستقبال، وكذا تعزيز الحوار بين الثقافات، وإن الوعي بمنطق الأقلية من شأنه أن يجعل المسلمين يقبلون المنظومة السياسية والاجتماعية والثقافية للآخر، إذ لا يخفى بأن ثقافة الآخر تتأسس اليوم في بلدان الغرب على الجانب الديني، ونظرة الغرب لمسألة الحجاب مثلا ترتكز بالخصوص على اعتباره يشكل عائقا في وجه تحقيق الحوار بين الثقافات. لاشك أن التمظهرات الثقافية تشكل محورا للبناء السوسيو - ثقافي. فالمهاجرون المسلمون مدعوون اليوم من خلال الجمعيات والمجالس التي يؤسسونها خارج دار الإسلام إلى التأقلم والاندماج في بلدان الاستقبال تحت قيم ومبادئ وتدابير تيسر السبل نحو قراءة جديدة لمفهوم الحدود بين الثقافات، بين الامتداد والاختلاف. بين ممارسة الديانات في كل من إفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية وغيرها من جهات العالم، والمسلمون المهاجرون مدعوون أيضا إلى ربط علاقات بين مختلف المؤسسات ومراكز البحث للعمل على إنتاج أبحاث مشتركة تنشر نتائجها وتعمم معارفها من أجل تعميم الفائدة وتوضيح النظرة المتشكلة حول الآخر وحول الذات، وتوضيح دلالات الفضاء المشترك، والتعريف بالمرجعيات الهوياتية الوطنية والجهوية والدينية، تلك التي تتقاطع في بعض الأحيان مع الحدود الترابية. فالجالية المسلمة في أروبا تريد العيش في انسجام مع المجتمعات الغربية مع الاحتفاظ بقيمها وحقوقها الدينية بحيث إن استقرار ملايين المسلمين بدول أروبا يطرح عددا من القضايا المرتبطة بالممارسة الدينية الجماعية بهذه الدول، وهذه الممارسات أخذت تشغل حيزا واسعا في النقاشات العمومية الوطنية والدولية. فبرغم الاعتراف الرسمي لعدد من الدول الأروبية بحقوق الجالية المسلمة، لاتزال هذه الأخيرة تعاني من غياب مؤسسات لائقة تمكنها من ممارسة شعائرها الدينية بشكل طبيعي ومن تعليم قواعد الإسلام لأبنائها حسب ما يتظلبه ذلك التعليم من وسائل. وسواء بفرنسا أو بلجيكا أو إسبانيا، التي توجد بها جاليات قديمة من المسلمين، فإن هؤلاء ليست لديهم مساجد كافية للصلاة أو مدارس خاصة لتعليم أبنائهم لغاتهم الاصلية، وأغلبية الأئمة بفرنسا ليس لديهم تكوين يؤهلهم لبعث روح الاندماج والتأقلم مع المحيط الغربي الذي تعيش فيه الجالية المسلمة مما يعزز موقف دعاة "صدام الحضارات" ويغذي المواقف السلبية اتجاه المسلمين في أروبا، بيد أن المطلوب هو قيام تفاهم متبادل واعتراف أروبي بالإسلام واحترام من طرف المسلمين لقيم المجتمعات الغربية. إن دول الشمال التي فضلت التعاطي مع الهجرة انطلاقا من المقاربة الأمنية لم تأخذ بعين الاعتبار الديناميات التي تنطوي عليها حركة الهجرة وتأثيرها على الأبعاد المجالية والدينية لبلدان الشمال نفسها، بحيث إان هناك دوافع وأبعاد وظواهر متداخلة في علاقة الدين بالهجرة لا تزال في حاجة إلى مزيد من التحديد والبحث العلمي من جانب علماء الاجتماع ذوي الاختصاص وعلماء الدين المسلمين ورجال السياسة في دول الغرب الساهرين على تدبير شؤون الدنيا والدين. العمل الذي يقوم به ذوو الاختصاص من العلماء والمؤطرين المسلمين من أجل وضع صيغ للاطار القانوني للإسلام في أوربا يعتبر انطلاقة لمبادرات هادفة إلى تعميق النقاش بخصوص الصحوة الإسلامية التي تغزو العالم اليوم بما فيه الدول غير الاسلامية. إنها بداية عهد لإعادة النظر في التعامل القائم بين الأقليات المسلمة مع شعوب ودول العالم الغربي الذي يقطنون فيه وتربطهم علاقات عيش وجوار بثقافته اليهودية المسيحية. الكل يعلم أن فرنسا التي يقطن بها حوالي مايفوق خمسة ملايين مسلم قد استضافت عبر عقود من الزمن طوابير عديدة من المهاجرين الذين استوطنوها وجعلوا منها بلدهم الثاني وخلفوا فيها أجيالا صاعدة قررت الاستقرار والعيش فيها باستمرار، بحيث تعاقبت على هذا البلد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أفواج متوالية من المهاجرين المسلمين الذين قدموا من البلدان المغاربية والإفريقية في زخم ضاغط وبكثرة مضطردة ووتيرة متسارعة لم تستطع سياسة الإدماج الفرنسية استيعابعها بشكل ناجع وفعال، فبرزت إلى الوجود في المجتمع الفرنسي مشاكل عديدة أضحت تتخبط فيها الأجيال الشابة والصاعدة المتولدة عن الهجرة، وتتعلق تلك المشاكل بأزمة الهوية وبالبطالة والرسوب المدرسي وبالفشل الناتج عن سياسات الإدماج المتعثرة منذ عقود. في خضم ذلك ومن جرائه، أصبحت بعض الأوساط الفرنسية تعبر عن عدم ارتياحها للسلوكات المتميزة الصادرة عن بعض المسلمين المتشددين، وخاصة منها تلك السلوكات التي يعبر عنها أصحابها بشكل استفزازي وبهندام مثير للاستغراب في الأماكن العمومية، وبالتالي أخذت بعض الأوساط الفرنسية المهووسة بكل ما هو غريب عن مجتمعها المتأثر منذ زمان بعيد بالثراث الثقافي اليهودي-المسيحي ترى في المد الإسلامي المتشدد والمتنامي على أرضها تهديدا للهوية الوطنية الفرنسية، خاصة وأن المعتقدات والآرآء الفكرية والروحية من المفروض أن تتخذ في فرنسا صبغة شخصية حميمية وخصوصية، وأن المجتمع الفرنسي رغم تعدد الانتماءات الاثنية والعرقية المكونة له، ورغم تنوع الثقافات التي يزخر بها، يظل مجتمعا بشريا مؤطرا بشكل يجعل منه وحدة وطنية تنصهر فيها الانتماءات الفردية والجماعية رغم اختلافها. لاشك أن الجاليات المسلمة لها اليوم حظ كبير من الاندماج في المجتمع الفرنسي بشكل إيجابي وفي إطار القانون عبر المشاركة في الحياة الوطنية العامة وفي المؤسسات النيابية بهذا البلد، ولها حقوق مشروعة ومنها الحق في التدين، شريطة مراعاة ما تفرضه عليها وعلى غيرها مختلف القواعد الاجتماعية والنصوص القانونية والقيم الوطنية التي لها تأثير على أرض الواقع بهذه البلاد الاوربية التي لا يمكن للجاليات المسلمة أن تعيش فيها على الطريقة الإسلامية المسموح بها في بلدان العالم الإسلامي الممتد من المحيط الاطلسي إلى ادغال أندونيسيا وثخوم الفلبين. فهل سيعمل المسؤولون الجدد عن إدارة المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية على التذكير بأن هاجس العيش المشترك داخل المجتمع الفرنسي يجعل الجميع اليوم في حاجة ماسة إلي الالتزام بتكثيف فرص التعايش المسالم بين معتنقي مختلف الديانات في هذا البلد الذي تتنوع فيه المنابع الثقافية، وتوطيد سبل التواصل والتساكن بين سائر أفراد المجتمع الفرنسي، المتدينين منهم وغير المتدينين.