تسعى فرنسا إلى تدبير المجال الديني الإسلامي من خلال ثلاثة ضوابط تلزم بها الجالية الإسلامية إلزاما: مراقبة وسائل تمويل المشاريع الإسلامية، تكوين الأئمة دينيا ولغويا، وتشديد الخناق على ما تسميه بالمجموعات المتطرفة، بينما تجزم مصادر مستقلة بأن معظم المنظمات الإسلامية بفرنسا لها ارتباط بشكل أو بآخر مع قنصلياتها. فكل واحدة ترسم معالم سياستها بتنسيق مع دول الانتماء، وهو ما يعني أن الكلام عن «الإسلام الفرنسي» بما يقتضيه من قرار مستقل وتمويل ذاتي لم يحن موعده بعد. حرب نفوذ في عملية ضغط غير مباشر من أجل تمكين عميد المعهد الإسلامي لمسجد باريس الكبير دليل أبو بكر من فترة رئاسية ثالثة للمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية (الممثل الرسمي لمسلمي فرنسا)، قررت الفيدرالية الوطنية للمسجد الكبير لباريس عدم المشاركة في العملية الانتخابية التي تجرى يومي 8 و22 يونيو القادمين، مما يلقي بشكوك حول مستقبل الهيئة التي شكلها الرئيس نيكولا ساركوزي لتمثيل ثاني أكبر ديانة في البلاد. ويأتي قرار المقاطعة، حسب زعم دليل أبو بكر الذي تولى رئاسة المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية منذ عام 2003، احتجاجا على الطريقة المعتمدة في الانتخابات، حيث يتم انتخاب الممثلين في المؤتمر طبقا لمساحة كل مسجد، وهو ما يفسر، على حد قوله، قيام العديد من المساجد مؤخرا بإضافة أمتار جديدة لمساحتها من أجل زيادة عدد المندوبين فيها في المؤتمر الخاص بانتخاب الرئيس الجديد للمجلس. وبينما وصف بيان صادر عن الشبكة القومية لمسجد باريس الكبير، النظام الانتخابي بأنه «آلية انتخابات سخيفة»، بدعوى أن الشبكة التي تضم 100 مسجد سينتهي بها الأمر في موقع متأخر عن شبكات أخرى لها مساجد كثيرة، ذهب الكثيرون من ممثلي الجالية الإسلامية بفرنسا إلى أن قرار المقاطعة لا يخرج عن كونه محاولة من أجل فرض شروط للعملية الانتخابية أساسها تمكين أبو بكر من دورة ثالثة، وهو أمر لم يعد محل إجماع داخل المجلس. وخلف التهديد بالمقاطعة ومعركة الأمتار المربعة والمندوبين في المؤتمر، يكمن صراع قوي بين ثلاثة تيارات لها حضورها القوي في المشهد الإسلامي بفرنسا، وتسعى إلى السيطرة على المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، وهي شبكة المسجد الكبير المدعومة من الجزائر ومن السلطات الفرنسية، والمنظمات الإسلامية المغربية المدعومة من بعض دول الخليج، ومنسقية جمعيات مسلمي تركيا التي تلقى الكثير من السند من بعض ممثلي الجالية الإفريقية والآسيوية. ولا تخفي بعض المصادر الدور الخفي الذي تقوم به قنصليات الدول الثلاث لدعم هذه المنظمة أو تلك من أجل المحافظة على موطئ قدم بين مسلمي فرنسا. القنصليات حاضرة بقوة فالأوساط المقربة من مسجد باريس المركزي، الذي لا يخفى على أحد ولاءه للجزائر، تزعم أن السلطات المغربية وضعت هذه السنة كل ثقلها من أجل الهيمنة على المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية. وتذهب إلى حد القول بأن السلطات القنصلية المغربية وضعت 50 ألف يورو لكل منطقة من المناطق ال25 التي تضم ممثلين للمجالس الجهوية للمجلس، وأن المؤتمر الذي نظم يوم 23 فبراير الماضي بمدينة مراكش بحضور 250 مندوبا من «تجمع مسلمي فرنسا»، العضو بالمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، يمثل دليلا آخر على رغبة السلطات المغربية في السيطرة على المجلس. وإذا كانت ذات الأوساط لا تملك من الدلائل حول الدعم المغربي للمساجد القريبة من المغرب سوى ما تقدمه من أرقام واهية ودعاية مغرضة ضد الجمعيات الإسلامية المغربية، فإنها في الوقت نفسه، تسكت عن حجم الدعم الذي تقدمه السلطات الجزائرية لها من خلال القنصليات التي تعمل على أن يظل المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية إرثا جزائريا خالدا لا يخرج عن مسجد باريس وعن مديره دليل أبو بكر، رجل الجزائروفرنسا معا، المعروف بمزاجه المتقلب ومواقفه وتصريحاته المتباينة. فالرجل كان قد صرح بخصوص قانون الحجاب مثلا، بأن المدرسة الفرنسية هي «مدرسة رفض الدين» وأن القانون تمييزي ضد الإسلام، غير أنه سرعان ما تراجع بعد أسابيع ليقول، في تصريح مثير، إن الحجاب قد عفا عنه الزمن وأصبح متجاوزا. تصريحات اهتزت لها مشاعر المسلمين، فيما اعتبرها رأيا شخصيا لا يلزم المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية في شيء. وتجزم مصادر مستقلة بأن معظم المنظمات الإسلامية بفرنسا لها ارتباط بشكل أو بآخر مع قنصلياتها. فكل واحدة ترسم معالم سياستها بتنسيق مع دول الانتماء، وهو ما يعني أن الكلام عن «الإسلام الفرنسي» بما يقتضيه من قرار مستقل وتمويل ذاتي لم يحن موعده بعد. «فالحرب أصبحت غير خافية بين القنصليات، يستعمل فيها المال والإغراء»، كما يقول من جهته التهامي إبريز، رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا، الذي قرر ترشيح كاتبه العام فؤاد العلوي لرئاسة المجلس، مطالبا «بوقف مثل هذه الأساليب حتى يكون لمسلمي فرنسا قرار مستقل». نفس الرأي، وإن كان أقل وضوحا، عبر عنه حيدر دميريك، رئيس منسقية جمعيات مسلمي تركيا بفرنسا، الذي يقدم نفسه كمرشح وخليفة محتمل لرئاسة المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، بقوله: «إن المنسقية تحتفظ بعلاقات الانتماء الوطني لتركيا وفرنسا»، غير أنه لم يحدد إلى أية درجة تصل هذه العلاقات، خاصة وأن الانطباع السائد هو أن جزءا من التمويل لهذه المنسقية يأتي عن طريق وزارة الشؤون الدينية بأنقرة، كما أن هناك ارتباطا تنظيميا بين أئمة المنسقية في فرنسا وبين الوزارة التركية. وإدراكا منها بتأثير حرب النفوذ (الجزائري المغربي التركي) على مسلمي فرنسا، أوفدت وزارة الداخلية الفرنسية، كما أكدت ذلك ل«المساء» مصادر حسنة الاطلاع، بعثة للدول الثلاث من أجل إيجاد أرضية توافق بين مختلف الأطراف الفاعلة في الحقل الديني الفرنسي. تدبير المجال الديني والجدير بالذكر أن المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية يتشكل من مجموع المجالس الإقليمية للديانة الإسلامية، ومن اتحادات بين مختلف الجمعيات التي تتولى إدارة شؤون أماكن العبادة ونشاطها، ومن المساجد الممثلة من خلال الجمعيات التي تديرها، ومن الشخصيات المنتقاة من الأعضاء القدامى في هذه الجمعيات. ومن بين أهدافه الدفاع عن رفعة الإسلام ومصالحه في فرنسا وتيسير وتنظيم تقاسم المعلومات والخدمات بين مختلف أماكن العبادة وتشجيع الحوار بين الديانات، والعمل على تحسين التأهيل المستمر للإلمام بشؤون الدين، مع الحرص على ترشيد الموارد المالية المتوفرة وتحديد المعايير التي من شأنها أن تسمح بتعيين رجال الدين في مختلف المؤسسات الإصلاحية (السجون)، وإبداء النصيحة القانونية للجمعيات والمواطنين المسلمين في ما يتعلق بالممارسة الدينية وبناء وإدارة المساجد. وتسعى فرنسا، التي يضمن قانونها العلماني لسنة 1905 حرية ممارسة الشعائر الدينية ولكنه لا يعترف بأي من هذه الشعائر، إلى تدبير المجال الديني الإسلامي من خلال ثلاثة ضوابط تلزم بها الجالية الإسلامية إلزاما، أولها مراقبة وسائل تمويل المشاريع الإسلامية وتوخي الشفافية التامة في ذلك، ثم تكوين الأئمة دينيا ولغويا إلى حد فرنستهم إذا اقتضى الحال، وأخيرا تشديد الخناق على ما تسميه بالمجموعات المتطرفة. وإذا كانت مسألة مراقبة التمويل قد خلفت ردودا متباينة، بين مؤيد يرى فيه خطوة نحو مزيد من الوضوح والشفافية، ومتحفظ لا يفهم الأهداف من تأميم أموال الإسلام بفرنسا مع استثناء الديانات الأخرى من ذلك، فإن تكوين الأئمة حظي بتجاوب ملموس تجلى في التنافس المثمر بين المعاهد التي تكاثرت في السنوات الأخيرة وخاصة معهد الدراسات والبحث حول الإسلام والمعهد الفرنسي للدراسات والعلوم الإسلامية والمعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية. وتعول فرنسا على أن يساهم تكوين الأئمة في الرفع من مستواهم العلمي والقانوني وحتى السياسي ليكونوا على بينة مما سيلقنونه من معارف على المستوى الديني والاجتماعي. أما بخصوص الضابط الأمني، فإن الهاجس الردعي تحت غطاء «الأمن ولا شيء غير الأمن» هي السمة الغالبة ضد ما يسمى التشدد الإسلامي بفرنسا، بالرغم من أن هذا التشدد لا يمثل سوى نسبة ضئيلة جدا باعتراف الأجهزة الأمنية نفسها (أقل من 20 مسجدا من مجموع 1500). الإسلام يتعزز سنويا وإلى جانب بعض التضييقات الفرنسية الهادفة إلى النيل من الإشعاع الإسلامي بفرنسا وأوروبا بشكل عام، يعاني الإسلام، الذي لا يكف مع ذلك عن التعاظم وإثبات الذات، من هجمات بعض العلمانيين المتطرفين واليمين العنصري مؤازرين باللوبي اليهودي الذي نجح في استصدار قانون فرنسي يجعل كل انتقاد للكيان الإسرائيلي يصب في خانة معاداة السامية. غير أنه مهما تقوت مشاعر العداء، فإنها لن تنال منه في شيء لأنه ببساطة دين ينشد التسامح والتعايش ويتعزز سنويا بآلاف الوافدين عليه، حيث أكدت الأرقام الرسمية الفرنسية أن عدد المعتنقين للإسلام من الفرنسيين وصل إلى 60 ألفاً، سواء أولئك الذين أسلموا بدافع حبهم وإعجابهم بهذا الدين، أو بدافع البحث عن الهوية والبحث عن الذات، والكثير منهم من شباب المدن ومن كافة الفئات والمهن في المجتمع الفرنسي، وكذلك من مختلف المذاهب الفكرية والأديان، من علمانيين إلى بوذيين إلى كاثوليك وغيرهم. الأفضلية لأوروبا الشرقية على المغرب العربي وإفريقيا الأفضلية لأوروبا الشرقية على المغرب العربي وبينما يشتد الصراع بين مختلف المنظمات الإسلامية لأخذ موقع متميز في المشهد الإسلامي الفرنسي، على بعد أسابيع من انتخاب المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، يستعد الاتحاد الأوروبي لتبني قانون حول الهجرة الاقتصادية يعطي الأفضلية لأوروبا الشرقية على المغرب العربي وإفريقيا. والقانون من وحي الرئيس الفرنسي ساركوزي الذي لجأ إلى «وصفة» الهجرة الانتقائية وتشديد الرقابة الأمنية على وثائق السفر، حيث كلف وزير الهجرة والهوية الوطنية، وهو من أقرب أصدقائه، بترجمة هذه السياسة الانتقائية عبر قانون الهجرة الجديد الذي تولى إعداده بنفسه. ومنطلق اللجوء إلى «الهجرة الاقتصادية» هو فشل أوروبا في مكافحة الهجرة غير المشروعة التي لم توقفها لا الحراسات الموزعة على السواحل، ولا تشديد العقوبات المسلطة على المهاجرين غير الشرعيين الذين يتم ضبطهم على المراكب أمام السواحل المغاربية أو الأوروبية. ومع تزايد هذه الظاهرة التي كسرت الحواجز القانونية، تعمد أوروبا اليوم إلى أسلوب «الهجرة الاقتصادية» التي شرعت فرنسا في تنفيذها منذ المصادقة على قانون الهجرة الجديد. والمقصود منها، وفق القانون الأوروبي الذي تم تكليف إسبانيا وإيطاليا وفرنسا بصياغته، الاقتصار على استقطاب الكفاءات من البلدان المغاربية والإفريقية بعد تلقيها دورات تكوينية في تخصصات محددة في بلدانها، بمعنى تقليص الهجرة المغاربية والإفريقية بشكل تدريجي تمهيدا لإلغائها بالمرة وتعويضها، وفقا لحاجيات القطاعات الاقتصادية المختلفة، بهجرة الأوروبيين الشرقيين، خاصة وأن القانون الأوروبي، قيد الإعداد، رفع عدد المهن المتاحة أمامهم من 61 مهنة إلى 162، وكلها لا تستدعي توفر أية شهادات فعلية، وإنما مجرد قدر من التأهيل. وبذلك فإن التوجه الأوروبي الجديد لا يخرج في صلب فلسفته الاجتماعية عن تحويل منابع الهجرة نحو أوروبا من البلدان الواقعة جنوب المتوسط إلى تلك الواقعة في شرق أوروبا. وهكذا يصبح التعاطي مع موضوع الهجرة يعتمد على سرعتين متفاوتتين، واحدة للمهاجرين الأوروبيين وأخرى للمهاجرين المغاربيين والأفارقة عموما، أي اعتماد ازدواجية اجتماعية قياسا على ازدواجية المكاييل الشهيرة المنسوبة إلى سياسة الولاياتالمتحدة تجاه القضايا العربية. ويبدو أن الاتحاد الأوروبي آخذ في تبنى وبشكل تدريجي الهجرة الانتقائية التي يدعو إليها الرئيس ساركوزي، بتعزيز أطروحته الجديدة حول الهجرة من خلال المقارنة مع الولاياتالمتحدة التي تستقبل 55 في المائة من الأطر المؤهلة، في حين لا تستقبل أوروبا سوى 5 في المائة منهم. وفي هذا السياق تعتزم أوروبا منح المهاجرين القانونيين البطاقة الزرقاء التي تعادل البطاقة الخضراء المعمول بها في الولاياتالمتحدة. وستجيز هذه البطاقة للمهاجرين المؤهلين، إضافة إلى قبولهم السريع وخصوصا في القطاعات الحيوية التي تحتاج إلى اليد العاملة، السماح لهم بالعمل في بلد أوروبي آخر بعد مرور ثلاث سنوات على وصولهم إلى البلد الأول.