يقول فيلسوف أمريكي معاصر يدرِّس في جامعة ساندييڭو اسمه لورانس هينمان في مقالة له (نشرت في مجلة "Philosophy and Phenemenological Research سنة 1982): "إن تحقيق العلاقة بين المجاز والحقيقة و فهمَها لهو من أعسر المهام وأصعبها ...". ومن أسباب صعوبة تحقيق هذه العلاقة وفهمها، في نظر هينمان، ما سبق أن بينه الفيلسوف الألماني نيتش من أن الأصل في الكلام هو المجاز وليس الحقيقة كما يعتقد معظم الناس. فاللغة في جوهرها صنّاعة مجاز، تولّد الصّور وتستعير المعنى للتعبير عن معنىً غيره، فتتقلّب المعاني وتتبدّل مضامينها ومقامات استعمالها من عصر إلى عصر، حتى إذا ما تواترت استعارة من الإستعارات على ألسن الناس، تبرد قيمتها البلاغية، وينسى الناس أن الكلمة إنما كان يقصد بها أمر مخالف لما يُفهم منها اليوم، فيختفي ما كان يعتبر معنى "حقيقيا" ويحل مكانه المعنى "المجازي". فيحدث نفس الأمر بعد أن يترسخ المعنى "المجازي" الجديد: تبرد حلاوة الإستعارة و طلاوتها ليصبح المجاز حقيقة، فيدور الدّور، وتتراكم المعاني على بعضها البعض من مجاز إلى حقيقة إلى مجاز إلى حقيقة، فلا يتوقف الدّور إلا بتوقف "الدماء" في "شريان" اللغة، أي بموتها. جملة ما أريد أن أبينه لك في هذا المقال أن بإمكان الباحث أن "يحفر" حفرا إيتيمولوجيا في طبقات معاني المفردات في لغات العالم، ليكتشف ما أخفاه الإستعمال الآني لهذه المفردات من "مجاز" وراء المعنى "الحقيقي" الظاهر، وأن يستمر بعد ذلك في "حفره" في ما وراء هذا المعنى "الحقيقي" ليكتشف أن هذا المعنى "الحقيقي" نفسه ليس سوى "مجاز" يستدعي "حقيقة" أرسخ وأعمق توارى خلف ظاهر اللفظ بسبب كثرة الإستعمال وتواتر التداول. ومما سأكشفه في هذا المقال أيضا أن أصل التصوير الذي تولّدت به معاني المفردات في لغات العالم لا يوجد إلا في اللغة الأمازيغية، وأن مستعمل أقدم صورة من صور اللسان الأمازيغي هو من بدأ ببثِّ المجازات في الألفاظ لطيفةً كريح ليِّنة لا تحرك شجرا ولا تعفّي أثرا، فتلبّست قيمتها المجازية الأصلية بأحوال "الحقيقة" لتُولّد منها معان مجازية انتشرت في الألسن وتطورت على نحو قاعدة الدّور حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في معاجم لغات العالم. سأستعمل في توضيح هذه الفكرة ثلاثة معان درستها بشيء من التفصيل تنتشر في معظم لغات العالم، وهي معانى "الذهب" و"الجمل" و"الكهف" "الجمل" إذا تأملت في لفظة chameau الفرنسية و "جمل" العربية ستلاحظ أن لهاتين اللفظتين خصائص صوتية مشتركة بينهما. فكلاهما يبتدأ بصائت ينطق برفع اللسان نحو المنطقة الموجودة بين الحافة السنخية the alveolar ridg والحنك الصلب the hard palate: /ش/ في حالة الفرنسية و/ج/ في حالة العربية. الخاصية الثانية التي تجمع بينهما أن كليهما يتوفر على الصائت /م/ يحتل الوضعية الثانية في الترتيب. هناك من طبيعة الحال اختلافات بين اللفظين، أولهما أن اللفظين لا يستعملان نفس الصوامت (vowels). وثانيهما أن اللفظة العربية تنتهي بلام بينما تغيب هذه اللام في اللفظة الفرنسية. ما يجعل الأمر أكثر إثارة أن هناك لغات أخرى كثيرة تستعمل الصوائت /ج، ش/ و/م/و /ل/ أو ما يجانسها صوتيا من الصوائت للتعبير عن معنى "الجمل". فنقول في الإنجليزية camel وفي اللاتينية camēlus وفي اليونانية κάμηλος وفي العبرية "ڭامال"، وفي الإثيوپية "ڭَمَل"، وفي الآرامية "ڭَمْلا". تسمى هذه الألفاظ التي تشترك في نفس المعنى وكثير من ظاهر اللفظ والتي توجد في لغات مختلفة تسمى ب"المتقاربات" cognates فإذا لم ينتج التقارب عن اقتراض اللغات من بعضها البعض، فإنه يكون ناتجا عن كون اللغتين اللتين تستعملانهما هما تطوران مختلفان لنفس اللغة الأم. فإذا عرفنا اللفظ الأصلي لكلمة "جمل" (وغيرها من الكلمات) وأثبتنا أن اللفظ الأصلي لمجموعة المتقاربات التي تعبر عن هذا المعنى يوجد في لغة ما، سيكون بمتناولنا أن نستنتج بأن هذه اللغة التي تحتوي على هذا اللفظ الأصلي هي أقدم من كل اللغات الأخرى على الأرجح أو أنها، على الأقل، أقرب إلى صورة أقدم لغة. قد يُعترض على كلامنا في حالة لفظة "جمل" ويُقال: الأرجح أن هذه اللفظة ذات أصل عربي (أو على الأقل سامي) لأن العرب كانوا معروفين باستعمال الجمال في الصحراء وهي بيئتهم، ثم يستنتج من ذلك أن استعمال هذه اللفظة للتنقيب الحفري اللغوي عن اللفظ الأصلي منهج غير مستقيم لأنه سيوصلنا إلى نتيجة بديهية مفادها أن الأصل في كل هذه الألفاظ هي لفظة "جمل" العربية أو ما يقاربها في اللغات السامية، فالأرجح أن الشعوب التي تتوفر على هذا الحيوان وتستعمله بشكل كبير التي تعبر عن هذا المعنى هي التي كانت سباقة لتسميته. وبنفس المنطق، إذا كنا نسمي "الكنغور" بما يشبه هذا الإسم في لغات متعددة، فلا يجوز أن نبحث عن أصل لفظة "كونغور" إلا في استراليا حيث يوجد وحيث اكتُشف أول الأمر. أرد على هذا الإعتراض (الذي يبدو في الظاهر وجيها ولكنه ليس كذلك في حالة لفظة "جمل") بالقول: إني تعمّدت أن أبحث في تاريخ كلمة موضوعها (أي ما تحيل عليه) معروف في بيئة (أ) ولكن اللفظ الذي يحيل على هذا الموضوع ظهر في بيئة أخرى (ب) لم يُستعمل فيها هذا ("الجمل" في حالتنا) بكثرة. أريد تحديدا أن أبين أن أصل لفظة "جمل" ليس عربيا وليس ساميا كما يُعتقد (رغم أن الساميين كانوا أكثر استعمالا للجمال على الأرجح) بل هو أمازيغي (رغم أن الأمازيغ لم يكونوا يستعملون الجمال بكثرة على الأرجح، وأن هذا اللفظ تطور بشكل سأصفه بالتفصيل حتى وصل إلى الصور اللفظية التي صار إليها في لغات العالم، لأستنتج من كل هذا التنقيب الحفري عن أصول الكلمات أن الباحث لا ينبغي أن يطمئن إلى المسلمات الساذجة التي تحاول أن تربط اللفظ بمعناه وسياقه الطبيعي ربطا ميكانيكيا. فالبحث الدقيق في تاريخ الكلمات كثيرا ما يفاجئنا بنتائج لم نكن نتوقعها. "الجمل" في الأمازيغية ألغم ⴰⵍⵖⴻⵎ تنطق بصائت مشموم بعد الغين (تنطق أيضا ألغوم ⴰⵍⵖⵓⵎ كما في واحة سيوا المصرية)، وتحذف الغين في بعض التنويعات كما عند التوارڭ (يقولون: ألم ⴰⵍⴻⵎ)، كما تستبدل هذه الغين بالراء واللام بالراء في تنويعات أخرى كما في بعض المناطق بسوس الكبير (يقولون: أرعم ⴰⵔⵄⴻⵎ أو أرعام ⴰⵔ3ⴰⵎ). إلا أن المثير هو أن هناك في الأمازيغية لفظا آخر أقصر هو ئدجيم ⵉⴷⵊⵉⵎ في الزناڭية له ما يقاربه في لغة البداوي وهو "ڭام". مما يعني أن للفظة ألغم ⴰⵍⵖⴻⵎ صورة قصيرة هي ڭيم gim تحولت ڭافها إلى [دج] بتأثير ارتفاع اللسان الذي ينتج عن نطق /i/ بعد g (وهذا تحول طبيعي يعرف ب palatalization) لكن ينبغي أن نلاحظ أن هناك فرقا في المعنى مهما بين ڭيم gim وألغم ⴰⵍⵖⴻⵎ والفرق هو أن ألغم ⴰⵍⵖⴻⵎ تعني "الجمل المطوّع" chameau de selle الذي يستعمل في القوافل أو نحوها أما ڭيم ⴳⵉⵎ فهو "الجمل بإطلاق". الملاحظة الثانية أن اللاحقة ألغ ⴰⵍⵖ (تنطق أيضا ئلغ ⵉⵍⵖ) التي تبتدأ بها ألغم ⴰⵍⵖⴻⵎ في الأمازيغية تحمل دلالة واضحة في هذه اللغة وهي "العود" أو "العصا" أو"كل جسم طويل يستعمل في النكز"، وهذا ينسجم مع معنى "الجمل المطوّع" باعتبار أن التطويع يكون بضرب الجمل ونكزه بعود أو عصا ألغ ⴰⵍⵖ أو نحوهما للتحكم في حركته. إذا كان تحليلنا سائرا على الدرب الصحيح، فإن لفظة ألغم ⴰⵍⵖⴻⵎ الأمازيغية مكونة من لفظتين أصليتين، أولهما ألغ ⴰⵍⵖ ومعناه "العود أو العصا"، والثاني غم ⵖⴻⵎ ومعناه الجمل. ولما كان لفظ ڭم ⴳⵎ موجودا في الأمازيغية ولغة البداوي، فهذا يعني أن اللفظة الأصلية الدالة على معنى الجمل هي "ڭم" بغض النظر عن كيفية شكلها. قبل أن أقدم دليلا قويا على هذا التحليل، ليسمح لي القارئ بأن أبين بأن ما يشبه لفظة ألغم ⴰⵍⵖⴻⵎ موجود بكثرة في لغات عديدة منها التشادية الشرقية الأصلية جمع العلماء لفظها في ا"لڭاما" تنطق الڭاف مدورة (تنطق "ليكامو"، في إحدى تنويعاتها تسمى "بورو"، و"لوكما" في تنويعة "مبارا" التشادية). ومنها أيضا التشادية الغربية حيث تنطق ا"راكوميا" في لغة الحوسا مثلا. من الأدلة على أن الجذر لغ ⵍⵖ يعني أصلا "التطويع" وما يجانس هذا المعنى أن الأمازيغية تستعمل مشتقات لهذا الجذر قريبة من هذا المعنى يذكر شفيق منها في معجمه مشتقات بمعنى "التحصين" وهو قريب من معاني "التطويع" وهي: ئلغت ⵉⵍⵖⴻⵜ "حصّن"، ئلغي ⵉⵍⵖⵉ وهو "الحصن"، ويقال عن المرأة "تولغ" ⵜⵓⵍⵖ إذا حصُنت، و"الحصناء من النساء" تامالاغت ⵜⴰⵎⴰⵍⴰⵖⵜ والدليل على أن الأمازيغية تستعمل سوابق صرفية للتعبير عن تميز صنف حيوان عن أصناف أخرى أن هذه اللغة تميز بين أييس ⴰⵢⵉⵙ (أو ئييس ⵉⵢⵉⵙ) وهو الحصان عامة، وأڭمار ⴰⴳⵎⴰⵔ وهو الحصان الجواد. فلفظة "مار وحدها تعني في أصلها "الحصان" لا يزال يشهد لها ما يدل على ذلك في لغات كثيرة. فنسمي "الحصان" في اللغة الدراڤيدية "مور"، بالإنجليزية mare، وفي الإطالية القديمة "مورا" أو "مورو" أو "موري" لسنا متأكدين من الصائت الأخير ما هو، وفي الجرمانية الأصلية "مارخا"، وفي السلتية "ماركان". نفس الجذر نجده في اللغات الأفرو أسياوية بمعان مختلفة ك"البقرة" و"العجل" ونحوهما. فنقول "ماراي" في التشادية الوسطى وهو "الثور"، ونقول "مار" في الكوشية الشرقية الدنيا وهو "العجل"، ونحو هذه الألفاظ بهذا المعنى في اللغات الأفرو أسياوية كثيرة. وعليه فإن من بين الألفاظ المعبرة عن "الحصان" في الأمازيغية لفظا يجمع بين الصوتين /م/ و/ر/ بهذا الترتيب أضافت إليه الأمازيغية أڭ ⴰⴳ للدلالة على اختصاصه بالجودة. هذه على الأرجح هي طريقة اشتقاق اللفظ "أڭرّام" (الإنسان المنتذب لدور ديني مميز) من الجذر رم ⵔⵎ (707 في لمعجم الجذور) منه الفعل أرم ⴰⵔⴻⵎ معناه "تعلق بالشيء تعلق المحبين العاشقين". يشهد كل هذا لكون الأمازيغية كانت تستعمل آلية التأليف (compounding) للتعبير عن المبالغة في الشيء أو تميزه في نوعه، وهو غاية إضافة ألغ ⴰⵍⵖ "العصا" إلى ڭم ⴳⵎ "الجمل" للحصول على ألغم "الجمل المطوع". فإذا افترضنا بأن أقدم لفظ يدل على معنى "الجمل" هو ڭم ⴳⵎ (بغض النظر عن كيفية شكلها) فمن أين جاءت اللام في آخر "جمل" أو ما يقابلها في اللغات السامية؟ فنقول في الأكادية "ڭَمَّلُ" وفي العبرية "ڭامال" وفي السريانية الآرامية "ڭَملا"، إلخ. عندما نلاحظ صورة المادة ألغم ⴰⵍⵖⴻⵎ (التي بينا أن أصلها ألغ ڭم، أي "الجمل المطوّع")، سنلاحظ أن عملية قلب الغين باللام (أي انتقال اللام إلى وسط الكلمة) قد بدأت من الأمازيغية نفسها، فنقول في أمازيغية أهڭّار وتاولّمت أغلام ⴰⵖⵍⴰⵎ فانتقلت اللفظة بصيغتها المقلوبة شرقا نحو الكوشية الشرقية الدنيا حيث نجد لفظ "كاليم" بكاف مفخمة، بلام في الوسط، تنطق "قالين" في الصومالية، بينما احتفظت التشادية الغربية والتشادية الوسطى باللام في بداية الكلمة "لكوم" بڭاف مدورة في الأولى، و"لڭوم" في الثانية. فإذا اتجهنا أبعد نحو الشرق سنجد بأن اللام ستنتقل من وسط الكلمة إلى آخرها. فالعلماء يتفقون على أن الصورة الأصلية للفظ "الجمل" في اللغات السامية هو gam(a)l من أقدم صوره تلك التي اكتشفت في إحدى المنقوشات السبأية مكتوبة بالعربية الجنوبية (gmlm wbḳrm wṣ̂ʔnm معناها "جمال كبيرة وقطيع صغير"). وعليه فإن تطور اللفظة الدالة على معنى "الجمل" من اللغة الأمازيغية إلى غيرها سار عبر المراحل التالية: المرحلة الأولى: ڭم ⴳⵎ تعني جمل. المرحلة الثانية: لغ ڭم ⵍⵖ - ⴳⵎ تعني "الجمل المطوّع". المرحلة الثالثة: غل ڭم ⵖⵍ - ⴳⵎ : بتحريك اللام نحو وسط اللفظ. المرحلة الرابعة: ڭم ل ⴳⵎ - ⵍ : بنقل اللام نحو آخر الكلمة كما في اللغات السامية، ومن هذا الأصل لفظ "جمل" في العربية. أصل الألفاظ الدالة على معنى "الجمل" في لغات العالم التي تستعمل الأصوات /ڭ/ و/م/ وما جانسها من الأصوات للدلالة على هذا المعنى يوجد في الأمازيغية. بهذا المعنى فإن الأمازيغية شفرة سرية تخترق لغات العالم. "الذهب" يعتقد عن خطإ أن اللفظ الأمازيغي ؤرغ ⵓⵔⵖ "الذهب" والذي تدل مشتقاته مثل ئرواغ ⵉⵔⵡⴰⵖ على معنى "الصفرة" هو أصل اللفظ الفرنسي or "الذهب"، وهذا وهم وربط سطحي للألفاظ. فالأرجح أن هذا اللفظ الأمازيغي هو الذي اشتُقَّ من اللفظ اللاتيني لا العكس (بفعل تفاعل الأمازيغية مع اللاتينية)، لكن اللفظ اللاتيني نفسه جاء من أصل أمازيغي آخر لا علاقة لمعناه الأصلي بالذهب. لنشرح. الأصل في الكلمة الفرنسية or اللفظ اللاتيني aurum ينطق في الإطالية القديمة ausom وفي البلطيقية aû(k)s-a وفي التوكرانية القديمة wäs والتكرانية المتأخرة w'äsā. الأصل في كل هذه الألفاظ الهندو أروپية الجذر الهندو أوروپي awǝs معناه ""سخّن"" و"صهر"، وهذا المعنى الذي يستخدم به في الأمازيغية. ففعل أوس ⴰⵡⵙ يعني "يغلي" (من "الغليان")، ويعني "سخن الحديد إلى حد احمراره". و تواسوست ⵜⴰⵡⵙⵡⴻⵙⵜ هي "شعلة النار الهادئة"، و أوسّو ⴰⵡⵙⵙⵓ في الأمازيغية الغدامسية هي "أشد النار حرارة". فتطور المعنى من "شدة الحراة" إلى معنى "الصهر" ومنه اشتق معنى "الذهب". من ألفاظ "الذهب" في لغات العالم ما تُؤصّل دلالته القديمة على معنى "اللون البني" و"اللمعان"، امتد إلى معنى "الذهبي اللون" من ذلك لفظ kañc في الهندية القديمة تعني "لمع" منها اشتق اللفظ الدال على "الشمس" في هذه اللغة وهو kañcāra، واللفظ الدال على "الذهب" هو kāñcana و"الشعاع" في اليونانية القديمة knǟ̂ko وفي البلطيقية kunk-a هو نعت بمعنى "مشع". وفي الجرمانية القديمة xuna(n)gá-n تعني "ذهبي اللون" منها اشتقت honey الإنجليزية التي تعني "العسل" له نفس اللون الموصوف بجذر اللفظ. ونجد هذا الجذر في اللغة الأمازيغية مقرونا بمعنى أصلي ملموس هو "أن تظلم السماء بسبب عاصفة أو نحوها" وهذا أصل معنى "بنّي" الذي تطور إلى ما سواه ك"عسلي اللون" و"ذهبي اللون"، إلخ. اللفظ الدال عليه ڭنو ⴳⵏⵡ (المادة 275 في معجم الجذور الأمازيغية). منه جاء ڭنّوت ⴳⴻⵏⴻⵡⵡⴻⵜ يعني "أظلم" في الأمازيغية التوارڭية، وتيدجينين ⵜⵉⴷⵊⵉⵏⵉⵏ "العواصف"، وأڭناو ⴰⴳⵏⴰⵡ تستعمل بمعنى "الغيمة" منها ئڭنوان ⵉⴳⵏⵡⴰⵏ "السماء")، وتوڭانّاوّات ⵜⵓⴳⴰⵏⵏⴰⵡⵡⴰⵜ "الظلمات" في الأمازيغية التوارڭية. امتدت كل هذه المعاني إلى أڭناو ⴰⴳⵏⴰⵡ "الإنسان الأسود"، كما في أمازيغية نفوسة وغيرها، وتعني "العبد" في غدامس وغيرها. منها لفظ "ڭناوي" في الدارجة المغربية. فواضح إذن أن وصف "الذهبي/البني" في كثير من اللغات مشتق من أصل أمازيغي قديم يعني "ما ينتج عن الغبار والعواصف من إظلام". منه جاء معنى "بُنّي"، ثم معنى "ذهبي اللون". فماذا عن أصل لفظ gold "الذهب" في الإنجليزية؟ أقدم أصل إيتيمولوجي حققه العلماء هو اللفظ الهندو أوروپي الأصلي ǵʰelh₃ منه gulɵ القوطي، وgoud في الهولاندية وǯel̃ta البلطيقية، وzolto السلاڤية، و"زرد" الفارسية تعني كلها "الذهب"، ويعني أصلها الهندو أوروپي (ǵʰelh₃) "الأصفر" أو "الأخضر" أو "اللامع"، ويعني أيضا "أينع" و"نما". فما العلاقة بين ألوان الصفرة والخضرة، من جهة، والنمو من جهة أخرى؟ نجد الجواب عن هذا السؤال في بعض اللغات كاليونانية القديمة حيث تستعمل اللفظة المشتقة من نفس الأصل، وهي χλόη ، بمعنى "خضرة النبات الذي بدأ يظهر وينمو" (منها جاء الإصطلاح العلمي اللاتيني "الكلور"). ومنها أيضا اللفظ اللاتيني helvus يعني "الخضر"، واللفظ العربي "حلفاء" هو أيضا نبات. وعليه، فإن العلاقة بين معنى "الأصفر" و"الأخضر"، من جهة، ومعنى "النمو" اللذين يجتمعان في الأصل الهندو أوروپي ǵʰelh₃ هو أن الأصفر والأخضر هما اللونان اللذان يظهر بهما النبات: إما "أخضر" عندما يكون يانعا، أو أصفر عندما ييبس. لاحظ أن المادة الصائتية المكونة لهذا الجذر الهندو أروپي هي "غل" وهي موجودة في الأمازيغية تحت المادة 624 تعني "التّبن" و"سيقان الزرع" أو "سيقان نبات الذرة" أو "ما يتبقى في الحقل بعد الحصاد". تأخذ هذه المادة صورة غالال ⵖⴰⵍⴰⵍ في الأمازيغية الغدامسية، وئغلّ ⵉⵖⴻⵍⵍ في أمازيغية الأطلس المتوسط تعني "الحصاد" و"التبن"، وئغليل ⵉⵖⵍⵉⵍ بنفس المعنى في الأمازيغية الشاوية. ف غل ⵖⵍ إذن تعني "سيقان الزرع" اشتق منها معنى "الخضرة" و"الصفرة" ليشتق منها بعد ذلك معنى "الذهب" ومتعلقاته الدلالية. اشتق معنى "الذهب" من ألفاظ صفات وألوان مختلفة لا زالت الأمازيغية تحتفظ بها لأنها أم لغات العالم لا شك في ذلك. "الكهف" نقول في العربية "كهف"، ونقول في الإنجليزية cave فالواضح أن اللفظتين متقاربتان في المبنى والمعنى كليهما. فهل العربية هي التي اقتبست هذا اللفظ من الإنجليزية، أم الإنجليزية هي التي اقتبستها من العربية؟ الجواب: هذا السؤال مغلوط لأن أصل اللفظتين لا يوجد في أي من اللغتين. والجواب الصحيح أن تقارب هاتين الكلمتين راجع لكونهما ترجعان لنفس الأصل في اللغة الأمازيغية. وفي ما يلي بيان الدعوى ودليلها. قد يقال: لو أن أصل معنى "كهف" يوجد في الأمازيغية لوجدنا صلة بين لفظ ما يدل على هذا المعنى (ك"كهف" في العربية، وgrotte في الفرنسية) واللفظ الأمازيغي الذي يعبر عن نفس المعنى وهو ئفري ⵉⴼⵔⵉ. ولكن عدم وجود هذه الصلة دليل على أن اللفظ الأمازيغي ليس هو الأصل. لفظة ئفري ⵉⴼⵔⵉ المعروفة لم تكن تعن "الكهف" في الأمازيغية بل هي مشتقة من مادة قديمة (الجذر 202) وهو أفر ⴰⴼⵔ معناها "حفر". لذلك ف أفرا ⴰⴼⵔⴰ في الأمازيغية النفوسية تعني "الحفرة التي يحفظ فيها الزيتون"، و تافراوت ⵜⴰⴼⵔⴰⵡⵜ هي "الحفرة التي تشرب منها الإبل"، وإفري ⴰⴼⵔⵉ قد تعني "كهف" وقد تعني "حفرة" وقد تعنيهما معا كما في الأمازيغية الشاوية وقد تطورت هذه اللفظة عن طريقين سأذكر واحدا منهما في هذا المقام وهو إضافة كاف إلى آخر الكلمة كما في "فيارك" التشادية و "فيريك" في لغة البداوي بمصر، و "پريك" بكاف مفخمة، في اللغات السامية تعني "حفر" فتطورت فيما بعد إلى فعل "فرق" في العربية، إذ تحولت الكاف إلى قاف كما في الأكادية أيضا "پاراقو"، والأڭارتية "پرق". والأمازيغية هي اللغة الوحيدة التي جمعت بين الأصل بدون كاف والفرع بكاف إذ نجف مادة فرك ⴼⵔⴽ (المادة 196) في الأمازيغية أيضا (الأمازيغية التوارڭية تحديدا). وعليه فإن لفظة ئفري ⵉⴼⵔⵉ لم تكن تعني "كهف" أصلا فلا تعول عليها في تحقيق معنى المادة كف ⴽⴼ بنفي كونها أصلا ل"كهف" أو نفي ذلك. أما لفظ أخبو ⴰⵅⴱⵓ الأمازيغي فهو أيض أصل لكثير من الألفاظ في لغات العالم إذ تجده في "خبّ" المصرية القديمة، و"قب" السامية، تأخذ في الصورة العامة للغات الأورو أسياوية صورة ك̣Vپ̇V وكلها كانت تعني أصلا "دمّر" فتطورت إلى معنى "حفر" ومشتقاتها مبنى كلمة "كهف" ومعناها يوجد في لغات أفرو أسياوية متعددة منها التشادية الغربية نقول kap تعني "الحفرة "، وفي لغة الوارازي نقول kap يعني "الحفرة التي يأتي منها الماء"، وفي المصرية القديمة kpḥ تعني ""الحفرة""، والجامع بين كل اللغات السامية اللفظ kahp. فإذا قارنا بين كل هذه الألفاظ والمعاني في اللغات السامية والإفريقية معا بإحصاء موضوعي للمشترك، سيتبين أن المشترك هو kahVp لسنا متيقنين من صوامته. والجامع بين المعاني هو معنى "الفراغ الداخلي" و"الحفرة". يتأكد هذا الأصل عندما نقارن اللغات الأفرو أسياوية بالهندو أوروپية. فنجد kobu و kuppu في الاييطالية القديمة بمعنى "الحفرة" و"الفراغ"، و koppa في اللغة الأورالية، و kwab في لغة الكارطاڤيليان. الأصل الجامع لها كلها gopa وهو الأصل الهندو أوروپي. وتجد في الأمازيغية أصلا بهذا المعنى يحمل معنى بدائيا ملموسا هو "النفخ" الذي يقوم عليه معنى "الخواء الداخلي" واللفظ هو المادة 344 في معجم الجذور كف ⴽⴼ و ؤف ⵓⴼ منها جاءت ئكف ⵉⴽⴼ تعني "منتفخ" أو "انتفخ"، فإذا أضفت إليها سابقة التسبيب صار الفعل سكف ⵙⴽⴼ أي "نفخ" .. والجذر الأبسط حيث لا وجود للكاف هو ؤف ⵓⴼ يعني "انتفخ". من مادة كف ⴽⴼ جاء منها اللفظ الدال على الرغوة تاكفّي ⵜⴰⴽⴼⴼⵉ ثم اشتق منها اسم الحليب أكفاي ⴰⴽⴼⴰⵢ وهكذا. فلاحظ كيف تتطور المعانى مما يسميه أهل التخصص ب"الإنزلاق المعجمي" Lexical dislocation. أما الدليل على تطور المادة الأمازيغية من معنى "الخواء الداخلي" إلى معنى "كهف" فهو كما يلي: لم تكن تعني المادة كف في اللغات الإنسانية "كهف" أصلا بل كانت تعني "حفرة" أو "فراغ" فقط. من ذلك: "كو" في الكوشية، و "ڭوه" في القوقازية الصينية، و "كاي" في الأسترية (المرجع: The Austric Macro-family لصاحبه پيتروس إليا 1989). ونجد في الهندو أيريپية الأصل ك́اوǝ الذي يعني "فراغ"، وفي الدراڤيدية "ڭاڤي" بنفس المعنى، والأورالية "كوجوا"، وفي اللغات الهندية الأمريكية كوا بنفس المعنى. أما عن الجامع بين كل هذه الألفاظ صوتيا فهو: أن الصائت الأول يكون خلفيا (رفع اللسان خلفا) كالكاف والخاء والواو، والثاني شفوي: نستعمل فيه الشفاه، كالفاء والپاء والڤاء والواو. فإذا نظرت إلى الصورة العامة ستجد: ؤف ⵓⴼ "نفخ" (لاحظ أن ؤف تقليد لصوت النفخ، فهي من ألفاظ المصاقبة onomatopoeia)، جاءت منها كف ⴽⴼ، جاءت منها ك ه ف/پ ومشتقاتها في اللغات السامية والإفريقية الهندو أروپية. خلاصة مصدر "المجازات" المؤسسة لمعاني المفردات المعجمية في اللغات الطبيعية يوجد في الأمازيغية الشفرة السرية التي تخترق لغات العالم.