الهدف من هذا المقال أن أبين بأن اللغة التي نسميها اليوم ب"العربية" أو "العربية المعيارية" أو "العربية الكلاسيكية" أو "العربية الأدبية" هي لهجة من لهجات لغة قديمة تُسَمَّى ب"الپروتوسامية" (أي السامية الأصلية) هي نفسها لهجة من لهجات لغة أقدم هي اللغة الأمازيغية بصيغتها القديمة التي كان يتكلم بها الهوموساپيان Homosapiens الأول التي ثبت اليوم أنه كان يسكن على بعد من مدينة مراكش الحالية بحوالي 170 كيلومترا. قد يبدوهذا الكلام غريبا أو مثيرا بالنسبة لكل من تأثر بالأيديولوجية الشهيرة التي تقول بأن الأمازيغ الأوائل قد "أتووا من اليمن والشام عن طريق الحبشة ومصر". فقد تعلمت من الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير (أنظر كتاب "الفلسفة وفلسفة العلماء العفوية") أن الوظيفة الأساسية لكل فكر نقدي هي "وضع خطوط التباين بين ما هو أيديولوجي وما هو علمي". وهذا عين ما سأحاول أن أفعله في هذا المقال: سأحاول وضع خطوط التباين بين الأيديولوجية التي تحاول رد الأمازيغية إلى العربية، والعلم الصريح الذي يكشف لنا أن العربية هي لهجة متفرعة عن الپروتوسامية التي هي أيضا لهجة من لهجات لغة إنسان إغود، أي الأمازيغية الأصلية. شهادة لساني ذكي ينبغي أولا أن نذكر أن الفرضية العلمية التي مفادها أن أصل اللغات الإفريقية الأسياوية (التي تتضمن الأمازيغية والعربية كليهما) هو من إفريقيا ليست فرضية جديدة. فقد تبناها اللساني الكبير جوزيف ڭرينبورڭ Joseph Greenberg: Language, Culture and Communication 1971) بناء على ملاحظة ذكية مفادها أن المجموعة الإفريقية الأسياوية (Afroasian languageu family) تتكون من من 300 لغة ويتحدث بها حوالي 495 مليون متكلم، ولكنها تنقسم إلى 6 مجموعات فرعية، يتميز كل فرع من فروعها بخصائص صوتية ومورفولوجية معلومة، وهي: المجموعة الأمازيغية (في شمال إفريقيا)، والتشادية (في أجزاء مختلفة من "الساحل" الإفريقي)، والكوشية (القرن الإفريقي، وضفاف النيل)، والمصرية (مصر القديمة)، والأوموتية (جنوب غرب إثيوپيا)، والسامية (الشرق الأوسط). مما يعني أن خمس مجموعات فرعية من العائلة الإفريقية الأسياوية توجد في إفريقيا، بينما توجد مجموعة واحدة من هذه العائلة اللغوية في آسيا. وبما أن هجرة مجموعة بشرية واحدة من إفريقيا نحو آسيا هو أرجح عقلا من هجرة أربع مجموعات من آسيا نحو إفريقيا، فإن ڭرينبورڭ استنتج أن افتراض وجود أصل اللغات الإفريقية الأسياوية في إفريقيا (وليس في آسيا) هو أرجح من العكس. ولا يمكن أن يُرَدَّ على فرضية ڭرينبورڭ بالقول: إن وجود مجموعة لغوية واحدة من العائلة الإفريقية السامية في آسيا (أي المجموعة السامية) قد يعني أنها لغة الجماعة البشرية التي لم تهاجر إلى إفريقيا، وأن المجموعات اللغوية الموجودة في إفريقيا هي فروع لغوية لجماعات بشرية هاجرت من آسيا نحو إفريقيا. فلو كان الأمر كذلك، لكانت المجموعة السامية مجموعة واحدة (بخصائصها الصوتية والصوتية والمورفولوجية وغيرها) تقابلها مجموعة أخرى هي المجموعة الإفريقية المتضمنة لكل المجموعات الفرعية الخمسة المتبقية (بخصائصها الصوتية والصوتية والمورفولوجية وغيرها). وهذا ما لا ينسجم مع واقع الحال، حيث نجد المجموعة السامية مجرد فرع لا يتقابل في خصائصه الصوتية والمورفولوجية مع مجموعة لغوية تجمع جميع اللغات الإفريقية الأخرى، بل إن كل مجموعة من المجموعات الستة فرع قائم الذات مستقل بخصائصه الصوتية والمورفولوجية.. مما يضعنا أمام حالة لغوية واضحة لا يستقيم معها سوى أن نفترض بأن أصل اللغات الإفريقية الأسياوية من إفريقيا لا من آسيا (ڤوويڭلين و ڤوويڭلين 1977 Classification and Index of the World‘s Languages, Voegelin and Voegelin). إلا أن الخطأ الذي يقع فيه ڭرينبورڭ هو أنه افترض بغير دليل بأن اللغة الأم التي تفرعت عنها اللغات الإفريقية الأسياوية لا بد أن تتواجد في موقع جغرافي يربط بين إفريقيا وآسيا، مما دفعه إلى الإفتراض بأن أصل اللغات الإفريقية الأسياوية هو اللغة المصرية القديمة. ولربما التمسنا لڭرينبورڭ العذر في سقوطه في هذا الوهم وذلك لسببين اثنين: أولهما أنه لم يكن يعرف أن العلماء سيكتشفون في ما بعد أن أصل بعض اللغات يتواجد في هامش الرقعة التي تستعمل فيها هاتة اللغات لا في مركزها، كما يتضح من خلال الطريقة التي انتشرت بها لغة البانتو الإفريقية من الهامش نحو الوسط (دانييل ماك أل: 2016 ...). و ثانيهما أن ڭرينبورڭ لم يكن يعرف أن علماء الأنتروپولوجيا سيكتشفون أقدم جمجمة لأقدم إنسان عاقل (من فئة الهوموساپيان الذي ننتمي إليه) سيُعثر عليها في المغرب (جبل إغود تحديدا). شهادة حفرية من العناصر التي كان من الممكن أن تقدم بعض الدعم لفرضية ڭرينبورڭ القائلة بأن أصل اللغات الإفريقية الأسياوية هو اللغة المصرية القديمة هو أن منطقة إثيوپيا إيريتيريا القريبة من مصر كانت هي الموقع الذي اكتشف فيه علماء الحفريات أقدم البقايا للإنسان العاقل الذي يسميه الأخصائيون بالهوموساپيان. فأقدم بقايا للهوموساپيان المتقدم (الذي يعتبر حلقة رابطة بين الإنسان المعاصر وأشكال أخرى بدائية للكائن الإنساني) اكتُشف في كينيا ويعود زمان حياته إلى 300000 ق.م. (براور 1997). ليظهر الإنسان العاقل بالمواصفات المعاصرة حوالي 160000 ق.م وجدت بقاياه في إثيوپيا (ما يُسمى بإنسان هيرطو). لذلك فبعض العلماء مثل سپرينڭر (2003) اعتبروا هيرطو حاملا لأقدم السمات الفزيولوجية للإنسان المعاصر التي من بينها اتساع الجمجمة (1450 مل). وعليه فإن ظهور اللغة الإفريقية الأسياوية الأصلية بهذه المنطقة، كما يفترض ڭرينبورڭ، فكرة مبررة ومنسجمة مع المعطيات الحفرية التي تشهد لظهور أقدم شكل إنساني بهذه المنطقة. إلا أن نتائج رائز الإشعاع الحراري الذي طبق على بقايا إنسان إيغود (5 أفراد) في بحث طويل بدأ في 1981، أثبت أن هذا الإنسان هو من نوع الهوموساپيان القديم وأنه حياته كانت على الأرض منذ أكثر من 300000 سنة. وهذا مما لم يأخذه ڭرينبورڭ بعين الإعتبار لأنه توفي في 7 ماي 2001، أي حوالي 16 سنة قبل اكتشاف إنسان إغود.. فبحسب الباحث الفرنسي جون جاك هوبلان الذي درس بقايا إنسان إيغود أن هذا الإنسان من نوع الهوموساپيان (الإنسان العاقل) بدون شك لا يختلف عنه إلا في طول جمجمته الذي يشترك فيه مع إنسان نياندورتل الأكثر بدائية من الهوموساپيان القديم. فالأرجح إذن أن أصل ما يسمى باللغات الإفريقية السامية يوجد في إفريقيا ، حيث توجد الأمازيغية، وليس في آسيا، حيث توجد العربية (مما يُكذِّب أيديولوجية "أتووا من اليمن والشام" بشكل لا رجعة فيه)، وأن الأرجح أن الإنسان الذي كان يتكلم هذه اللغة الأصلية كان يعيش في شمال إفريقيا (المغرب تحديدا). لكن كيف يحقق علماء اللسان مفردات اللغات تحقيقا تاريخيا ويقدرون أصولها؟ منهج في البحث قويم قد يُعترض على تحقيقنا لأصول اللغات وتصنيفنا لها بالقول: كيف تعرفون أصناف اللغات وأصولها ومنها لغات اختفت ولم يعد لها وجود، كالهندو أروروپية أو الپروتوسامية اللتين لا يُتحدّث بهما اليوم؟ أليس هذا ضربا من التخمين لا دليل عليه، ونوعا من الإدعاء مذموم؟ ردنا على هذا الإعتراض أنه اعتراض جاهل، وأن لعلماء اللسانيات التاريخية منهجية حسابية مُقارنة دقيقة تدعى ب"المنهجية المقارنة" يستعينون عليها اليوم بأدق التطبيقات التكنولوجية الحديثة ويستعملون فيها ما تراكم خلال قرنين اثنين من البحث في أصول اللغات وتاريخ تغيرها وهجرات متكلميها. "المنهجية المقارنة" هي المنهجية التي تمكن علماء اللسانيات التاريخية من تحقيق أصول المفردات واستعادة بعض ما فُقِد منها، وهذه بعض قواعدها: أولا: قاعدة "المتقاربات" اللغوية" Cognates: ومقتضاه أنه لا يُحكم على لفظة س من لغة (ل) ولفظة ش من لغة أخرى (ل') بأنهما متقاربتان، أي أنهما من أصل واحد، إلا إذا كان بينهما تشابه صوتي وتشابه دلالي. مثال ذلك الألفاظ sister في الإنجليزية وswistar في القوطية وsoro في اللاتينية وsvasasr في السنسكريتية وsestra في الپروسية القديمة، إلخ. فتشابه هذه الألفاظ، مبنى ومعنى، وكثرتها المشهودة يدلان على أنها مشتقة من الأصل نفسه، أي من اللغة التي تطورت عنها كل هاته اللغات. ثانيا: قاعدة "عدم الاقتراض": ومقتضاها أن يتأكد الباحث من أن اللفظتين المتقاربتين مبنى ومعنى لم ينتج تقاربهما عن اقتراض لغة (ل) للفظة من لغة أخرى (ل') بسبب تفاعل متكلمي اللغتين مع بعضهما البعض. فلا يجوز، مثلا، أن نستنتج من وجود لفظة "موطور" في الدارجة المغربية وmoteur في اللغة الفرنسية أن هاتين اللغتين مشتقتان من الأصل نفسه، أي من لغة سابقة عليهما تاريخيا منها جاءت الفرنسية والدارجة كلاهما. فهذا عبث لأننا نعلم بيقين لا يشك فيه إلا العابثون أن الدارجة اقترضت لفظة "موطور" من الفرنسية عندما كان المغرب تحت الاحتلال الفرنسي. ثالثا: قاعدة "المعاني البدائية" primitive meaning: ومقتضى هذه القاعدة أنه لا ينبغي الاكتفاء بالمعاني المشهودة للمتقاربات، بل ينبغي مقارنة كل هذه المتقاربات وتحقيق معانيها وأوجه استعمالها في لغاتها إلى أن نكتشف المعاني الأكثر "ملموسية". فعادة ما تكون المعاني الأصلية قريبة لحياة الإنسان البدائية الملموسة وتكون المعاني المجردة مشتقة منها بالتجريد أو بأخذها على المجاز. فإذا وجدنا متقاربين س وش يعني أولهما "القلب" (أي "عضلة القلب") والثاني "الحب"، فالأرجح أن معنى الأولى سابق تاريخيا عن معنى الثانية. رابعا: قاعدة "النسقية" systematicity: ومقتضاها أن الوصف الصحيح لعلاقة المتقاربين ببعضهما البعض متوقف على ملاحظة تغير صوتي نسقي من اللغة (ل) إلى اللغة (ل'). مثال ذلك أن نكتشف أن كل أو معظم الألفاظ س في اللغة (ل) تتضمن صوتا موقوفا في أولها، ومعظم الألفاظ ش في (ل') تتضمن صوتا احتكاكيا ينطق بمخارج النطق نفسها التي نستعملها لنطق س. فإذا أثبتنا ذلك في حالات كُثُر سيثبت عندنا أن دعوى العلاقة التاريخية بين س وش محققة لا شك فيها. المثال الأول: ما معنى "الجنة"؟ ولتوضيح الكيفية التي تمكننا بها "المنهجية المقارنة" من الكشف على أن العربية لهجة من لهجات لغة قديمة هي الپروتوسامية (السامية الأصلية) هي نفسها لهجة من لهجات الأمازيغية، من الكشف على أن العربية لهجة من لهجات لغة قديمة هي الپروتوسامية هي نفسها لهجة من لهجات الأمازيغية، لنعتبر مثال لفظة "جنة" في اللغة العربية. "الجنة" في العربية " الحديقةُ ذاتُ النَّخْلِ والشَّجرِ" (معجم المعاني الجامع). وتستعمل هذه الكلمة على الإصطلاح الإسلامي بمعنى "جنَّة الخلد" : أي جنّة إقامة للخلود التي يدخلها المسلمون الموعودون بها في "الآخرة" بعد الحساب ويتنعمون بها. جمعها "جنّات" نستعملها في قولنا "جنات النعيم" أي الفردوس السماوي. لكن ما أصل لفظ "الجنة" ومعناها؟ في مقاييس اللغة لابن فارس "الجيم والنون أصل واحد، وهو السَّتْر و التستُّر. ف"الجنَّة" ما يصير إليه المسلمون في الآخرة، وهو ثواب مستورٌ عنهم اليومَ. و"الجَنّة" البستان، وهو ذاك لأنّ الشجر بِوَرَقه يَستُر. إلا أن ابن فارس نفسه يستدرك أن هناك معنى آخرا ممكنا للجنة فيقول: "وناسٌ يقولون: الجَنّة عند العرب النَّخْل الطِّوَال". فلماذا هذا التردد بين معنيي "الستر" و"النخل الطوال"؟ فعندما تبحث في القواميس العربية القديمة تجد مادة غزيرة مشتقة من جذر 'جن" تجمع في أصلها الدلالي (أي في معناها الحقيقي الذي اشتقت منه المعاني المجازية والإصطلاحية) بين معاني "الستر والخفاء". من ذلك مثلا ما ورد في لسان العرب: "جن" الشيء يجنه جنا أي "ستره". وفي الحديث : "جن عليه الليل" أي "ستره". من ذلك على ما يبدو اسم "الجن" لاستتارهم واختفائهم عن الأبصار. ومن ذلك أيضا اسم "الجنين" لاستتاره في بطن أمه . و"جن" الليل و"جنونه" و"جنانه" شدة ظلمته. لكن ما علاقة "الجنة" ب"الستر والخفاء"؟ تقدم لنا المعاجم العربية القديمة تفسيرين اثنين مختلفين. قال الراغب الأصفهاني: "وسميت الجنة إما تشبيها بالجنة في الأرض، وإن كان بينهما بون، وإما لستره نعمها عنا المشار إليها بقوله تعالى: "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين" [السجدة/17]. هذا يعني أن "الجنة" سميت كذلك إما لكونها تشبه "البستان" (رغم الفرق الكبير بينهما)، وإما لأن "نعمها" قد أخفيت عن الإنسان فلا يستطيع إدراكها في "الحياة الدنيا". من أوجه ضعف ربط معنى "الجنة" باختفاء "نعمها" أن هذه الكلمة تستعمل للإحالة على بستان أرضي. من ذلك مثلا ما ورد في سورة البقرة 265: {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير}. فالمقصود هنا ب "الجنة" بستان أرضي فوق ربوة. لذلك لا يستقيم أن نقول إن "الجنة" دعيت بهذا الإسم لأن نعمها أخفيت عن الناس. (أنظر أيضا: القلم 20، الفرقان 8، سبأ 16، نوح 12، الدخان 52، الشعراء 57، الإسراء 91، الرعد 4، إلخ). ماذا عن التفسير الثاني الذي يقول بأن "الجنة" سميت كذلك تشبيها لها بجنة الأرض وإن كان بينهما بون؟ ما وجه الشبه بين "جنة" الأرض و"جنة" السماء وما علاقة المعنى الجامع بينهما ب"الستر والخفاء"؟ يعلق الأصفهاني على هذا بقوله" "والجنة: كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض". هذا يعني أن أصل معنى "الجنة" أن شجر البستان يستر الأرض فلا تكاد نراها. وجه الضعف في هذا التفسير أن مادة "جن" عندما تستعمل في الألفاظ الدالة على النبات لا تفيد معنى "الستر والخفاء" بل معنى "الظهور والخروج". من ذلك مثلا أن "وجِنَّ النَّبْتِ" هو "زَهْرُه ونَوْرُه". و نقول: "جُنَّ النَّبْتُ جُنوناً" إذا غلُظ واكْتَهل، وهو بروز لا علاقة له بإخفاء الأرض. ونقول عن النخلة إذا طالت "نخلة مجنونة". ونقول "وجُنَّ النبتُ جُنوناً" أَي "طالَ والْتَفَّ وخرج زهره". متقاربات كلمة "الجنة" في العائلة السامية كثيرة منها: gan و gannā في العبرية تعني "البستان"، و gn في الآرامية حققها كوهن في معجمه (1970:147)، و gīnnǝtā, gīnā في الآرامية اليهودية، و gannǝtā في الآرامية السريانية (حققها بروك)، ووُجدت في المنقوشات السبئية بصيغة gnt. هذا يعني أن مادة gn لفظة سامية قديمة يدور معناها حول "البستان". لهذه اللفظة متقاربات في التشادية الشرقية أعيد بناؤها على *ganH تُنطق gàn في لغة الميڭاما، وتنطق gàŋ في لغة البيديا، وهما لغتان من المجموعة التشادية الشرقية تعني فيها "حقل" أو "مزرعة". وجمعت في التشادية الغربية الأصلية على gwan تنطق في لغة الحوسا مثلا gṓnā́ . يوجد متقارب لهذه الكلمات في الأمازيغية وهو تڭانت ⵜⴰⴳⴰⵏⵜ تعني "الغابة" والشجرة، منها ڭان ⴳⴰⵏ التي في أرڭان ⴰⵔⴳⴰⵏ. لكن المثير في الأمازيغية أن للمتقارب أصلا أعمق منه استُمد معنى "الشجرة"، أي النبات الذي لا يبرح مكانه، وهو تاڭانت ⵜⴰⴳⴰⵏⵜ تعني في الأمازيغية القبايلية "الثبات في المكان الواحد" (المادة 271 في معجم الجذور)، منها اشتق معنى "العناد" (فتستعمل تاڭانت بهذا المعنى أيضا) ومعنى "الصلافة". هذا أصل تاغنّانت ⵜⴰⴴⵏⵏⴰⵏⵜ التاء السابقة للتأنيث والصفة، والجذر غن ⴴⵏ هن نفسه الجذر ڭن ⴳⵏ بعد جعل ياڭ ⵢⴰⴳ احتكاكية. لذلك نجد في الأمازيغية التوارڭية أيضا أن مادة دجن ⴵⵏ و ڭن ⴳⵏ تدور حول "الإستقرار في مكان وعدم مغادرته" كفعل إدجن ⵉⴵⴻⵏ فتستعمل بمعنى "ربض الحيوان (الجمل مثلا) في مكانه". و أجّن ⴰⵊⵊⴻⵏ جمعها ئجّان ⵉⵊⵊⴰⵏ هو المكان الذي تربض فيه الحيوانات. و أسمّيدجانو ⴻⵙⵎⵎⴻⴵⴰⵏⵓ هو الأثر الذي يتركه الحيوان في المكان الذي يربض فيه. من ذلك فعل ئڭن ⴰⴳⴻⵏ "خلد للنوم". و أسڭن ⴰⵙⴳⴻⵏ جمعها إسڭنان ⵉⵙⴳⵏⴰⵏ هي "العش"، فهو "مُستقر" للطير. ومنها أمڭون ⴰⵎⴳⵓⵏ تعني "الجنين النائم في بطن أمه". فتتكون خلاصة تحليلنا أن هناك مادة معجمية هي ڭن ⴳⵏ و جن ⵊⵏ و دجن ⴵⴻⵏ كان معناها في لغة إنسان ئغود يدور حول معنى "الثبات في مكان ما" أو "الإستقرار في مكان ما" منها جاء معنى "الشجرة" ثم "الغابة" و"البستان". كما جاء منها معنى "البقاء في مكان ما والإستقرار فيه"، ومعاني أخرى مولدة ك"العناد" و"الصلافة" وغيرهما كثير. كلمة "الجنة" إذن تطورت من لغة إيغود عبر المراحل التالية: معنى الثبات في المكان الواحد، إلى معنى الشجرة، إلى معنى الغابة، إلى معنى البستان ونحوه، إلى معنى "الجنة" بمعناها الديني الراهن. وبذلك نعرف أن أقدم معنى ل"الجنة" في العربية هو "المُستقر" وليس "ما خفي واستتر" كما يُعتقد. فالعربية لهجة من لهجات السامية القديمة التي هي أيضا لهجة من لهجات الأمازيغية. لذلك فدارس العربية ينبغي أن يعمق فهمه لهذه اللغة بردها إلى أعمق أصولها أي اللغة الأمازيغية. المثال الثاني: ما أصل الضميرين "أنا" ونحن"؟ لنبدأ أولا بالضمير الدال على المفرد المتكلم الحامل لإعراب الرفع (الفاعل) المقدر الذي يُعبَّر عنه ب"أنا" في العربية. فلو تأملت في هذا اللفظ في ذاته ومقابلاته في اللغات الأخرى ك je في الفرنسية لما وجدت شيئا تشترك فيه يدلُّ على وحدة أصلها التاريخي. لكنك بمجرد أن تفحص ما يحمل نفس دلالة هذه الألفاظ في الأمازيغية، وبمجرد أن تحفر بمعول البحث اللساني التاريخي في تاريخ الألفاظ غير الأمازيغية، ستبدأ مظاهر التنوع والإختلاف اللفظي في التساقط واحدة تلو الأخرى إلى أن يبقى اللفظ الأمازيغي ثابتا في أعماق الكَلِمِ تنتظم حوله كل ألفاظ اللغات الأخرى كما ينتظم العقيق حول واسطة العِقد. وفي ما يلى شرح لدعواي بشيء من التفصيل أتمنى أن يكون كافيا. لنبدأ بالضمير "أنا" في العربية الدال على المتكلم المفرد. اللفظ الدال على ضمير المتكلم المفرد الحامل لإعراب الرفع المقدر في الأمازيغية هو نك ⵏⴻⴽ يفصل بين النون والكاف فيها صائت مشموم. ينطق هذا الضمير في تنويعة غدامس نش ⵏⴻⵛ ونشّان ⵏⴻⵛⵛⴰⵏ وعند المزابيين نشّ ⵏⴻⵛⵛⴰⵏ بتشديد الشين، ونشّي ⵏⵛⵛⵉ و نشّين ⵏⵛⵛⵉⵏ أما أما في اللغات السامية فنجد "أنا" في العربية و"أن" في الأوغارتية و"آني" في العبرية، و"أنا" في الإثيوپية تنطق بألف يسحب فيها اللسان إلى الخلف. لكننا عندما نفحص لغات سامية أخرى، نكتشف أن هذا الضمير ينتهي بكاف كما في الأمازيغية. فنجد بأن الضمير ينطق "أناكو" في الأكادية، و "أنك" في الأوغارتية تُتبع فيه الهمزة بفتحة، و "أنك" في الفينيقية لا صائت فيها بعد الهمزة، مما يعني أن الكاف جزء من الضمير في اللغة السامية الأصلية. لذلك يقدر العلماء أن الأصل في نطق الضمير في اللغات السامية هو ʔan-akV (يدل فيه الرمز V على صائت لم يجمع العلماء على طبيعته). وإذا قارنا هذا الأصل بالضمير الأمازيغي نجد أنه مشابه له في الإحتواء على النون والكاف nk كليهما. ماذا عن اللغات الهندو أروپية التي جاءت منها الإنجليزية؟ تخبرنا قواعد المعطيات المختصة بهذه العائلة اللغوية أن الأصل في I الإنجليزية هي ic الصوت الأخير فيها شبيه بالشين، والأصل في هذا اللفظ هو التعبير الهندو أروپي الأصلي eg تنطق uk و ug في الحيثية، و es في الأرمينية، و ego في اليونانية (منها التعبير المعروف egoism)، كلها لغات هندو أروپية. إذا كان اللفظ الهندو أوروپي eg مشتقا من اللفظ الأمازيغي نك ⵏⴻⴽ فينبغي أن نثبت أن النون أصلية في اللفظ الهندو أوروپي ولكنها اختفت في التطور التاريخي للفظة. المفاجأة المثيرة هي أن هناك دليلا ماديا قاطعا على أن النون كانت جزءا من اللفظ الهندو أروپي ثم اختفت. كيف نعرف ذلك؟ في بداية القرن العشرين، اكتشف علماء اللسان مخطوطات تعود إلى ما بين القرنين السادس والثامن بعد الميلاد مكتوبة باللغة التوكارية الأولى، وهي لغة هندو أوروپية منقرضة كان يتحدث بها سكان شمال غرب الصين. وبتحليل مباني هذه اللغة ومعانيها استطاع العلماء أن يغيروا بعضا من فهمهم للغة الهندو أوروپية وأن يعمّقوا بعضا آخر، مما مكن لسانيا أمريكيا اسمه دوڭلاس كوينتين آدمس من جمع معجم لنسخة متأخرة لهذه اللغة يتألف من ألف صفحة تقريبا. و بعودتنا إلى هذا المعجم المهم وجدنا أن اللفظ الدال على ضمير المتكلم في اللغة التوكارتية هو näs تبتدأ بالنون متبوعة بالمقطع äs الذي نجده في اللغات الهندو أوروپية الأخرى (يشبهه es في الأرمينية مثلا). مما يعني أن النون ليست دخيلة على الهندو أروپية، بل كانت موجودة ثم اختفت. ومما يزيد في تأكيد هذه النتيجة أن لهذا الضمير في التوركاتية مقابلا مؤنثا هو nuk يتطابق مع الأصل الأمازيغي في النون والكاف كليهما. الأصل في كلمة "أنا" العربية ، أي الضمير المفرد المتكلم الحامل للإعراب الفاعلية المقدر، هو الضمير نك ⵏⴻⴽ الأمازيغي. فماذا عن ضمير المتكلم في صيغة الجمع "نحن"؟ صيغة الجمع في ضمير المتكلم المبني على الفاعلية نكّني ⵏⴻⴽⴽⵯⵏⵉ بكاف مدورة (في الأمازيغية السوسية والقبايلية وتنويعات أخرى أيضا)، تنطق الكاف فيها أحيانا مخففة نكني ⵏⴻⴽⵯⵏⵉ كما في في تنويعة الأطلس المتوسط بالمغرب. ويختفي التدوير في بعض التنويعات كما في تنويعة غدامس نكّنين ⵏⴻⴽⴽⵏⵉⵏ لا تدوير في كافها، وتنويعة مزاب نشنين ⵏⴻⵛⵏⵉⵏ لا تدوير في شينها. فمن أين جاء تدوير الكاف في بعض التنويعات؟ لاحظ أن صيغة الجمع نكّني ⵏⴻⴽⴽⵯⵏⵉ تتكون من جزأين، أولهما ما يدل على الشخص وهو ما تشترك فيه مع صورة المفرد نك ⵏⴽ أي الصوتان ن ⵏ وك ⴽ، ثم ني ⵏⵉ فماذا تضيف ني ⵏⵉ هاته؟ هناك مؤشران اثنان يدلاننا على معنى اللاحقة ني ⵏⵉ أولهما أن صيغة المؤنث هو نكّنتي ⵏⴻⴽⴽⵯⵏⵉ (في السوسية والقبايلية وغيرهما)، تنطق نكّانيتيض ⵏⴽⴽⴰⵏⵉⵜⵉⴹ في التوارڭية، حيث يستعمل جمع الضمير المؤنث غير الشخص تي ⵜⵉ الذي ذكرناه قبلا. والمؤشر الثاني هو تدوير الكاف الذي تحدثنا عنه، علما بأن التذكير دليل على وجود واو ⵡ حُذفت (كما تقول في الدارجة المغربية "فّْيّْر" ابستدارة الشفتين لتصغير "فار" نتيجة الوجود القبلي للواو بعد الفاء: "فْوِيّر"). نستنتج من هذين المؤشرين أن صيغة الجمع المذكر نكّني ⵏⴽⴽⵯⵏⵉ تحتوي على واو محذوفة هي نفسها وين ⵡⵉⵏ الضمير غير الشخصي الدال على الجمعّ المذكر الذي اشتهرت به الأمازيغية (والذي تجده في لفظ النداء: أهياوين ⴰⵀⵢⴰⵡⵉⵏ) . فيكون أصل نكّني ⵏⴽⴽⵯⵏⵉ هو نك وين ي ⵏⴽ - ⵡⵉⵏ - ⵉ تعوض فيه وين ⵡⵉⵏ ب تين ⵜⵉⵏ في حالة التأنيث (نكّنتي ⵏⴽⴽⵯⴻⵏⵜⵉ)، وعندما يحذف واو الضمير غير الشخصي وين ⵡⵉⵏ يترك وراءه علامة على وجوده القبلي وهو استدارة الكاف تأثرا بالواو المدورة. يترتب عن هذا التحليل أن الأصل في نكّني ⵏⴻⴽⴽⵯⵏⵉ هو نك وين ي ⵏⴽ - ⵡⵉⵏ - ⵉ يدل فيها نك ⵏⴽ على قيمة الشخص ( أي المتكلم)، ويدل فيها وين ⵡⵉⵏ على العدد والجنس (أي الجمع المذكر)، فحذفت واو ⵡ وين ⵡⵉⵏ وياؤها ⵉ إذ أُدغمت الواو في الكاف يجمع بينهما علو الجزء الخلفي للسان عند النطق بهما، وتَرَكَت إحدى سماتها في الكاف، أي الإستدارة. أما اللاحقة ي ⵉ فالراجح أنها علامة إعراب الفاعل في الضمير ينطق ي ⵉ (كما في السوسية والقبايلية وغيرهما)، و ئيض ⵉⴹ (كما في التوارڭية التي تضيف ض ⴹ للاحقة). فتكون البنية الصرفية (المورفولوجية) المجردة لهذا الضمير هي: الشخص الجنس/العدد إعراب الرفع. هذا عن الأمازيغية. فماذا عن اللغات الأخرى؟ مقابل لفظ "نحن" في الإنجليزية we لا تختلف صورته في الإنجليزية القديمة عن صورته المعاصرة إلا في مدّ الصائت: wē و في الجرمانية الأصلية wiz، وفي الهولندية wij، وفي النرويجية vi وعندما نفحص صورة اللفظ في لغات أعرق نجد بأن الواو المستعمل في اللفظ الهندو أوروپي we كان كافا أو ڭافا أو خاء مخففة يجمع بين هذه الأصوات أنها تُنطق برفع الجزء العلوي للسان. من هذا ما أثبته صاحب المعجم الجامع (Nostratic Dictionary ، آرون دولڭوپولسكي، أنظر المادتين 19 و580) من أن الأصل الأوروپي الأسياوي لهذا اللفظ هو ʔVkV أو ʔVgV تتوسطه الكاف أو الڭاف، ينطق كافا في العائلة الألتية (التي تجمع اللغات التركية والمنغولية وغيرهما)، وتنطق في القوقازية الجنوبية ڭافا مدورة، وتنطق في التشوكتشي (في أقصى الشمال الشرقي لسيبيريا) ڭافا متبوعة بصائت مشموم. أقدم لفظ يدل على معنى "نحن" يتضمن كافا كما في الأمازيغية. فماذا عن الإستدارة التي نجدها في هذه اللغة؟ هل هناك ما يشهد لوجودها في اللغات الأخرى؟ تثبت الشواهد اللسانية المتوفرة أن الكاف كانت مدورة أو متبوعة بصوت مدور في لغات عديدة من بينها التشادية التي تنطق فيها gʷ بڭاف مدورة أصلها في اللغات الأفرو أسياوية aku (معجم Nostratic Dictionary المادة 19)، وتنطق kVw متبوعة بصائت نجهله ثم واو في اللغات الأوسترية (التي تجمع لغات عديدة في شرق الهند، والتايلاند وجزر المحيط الپاسيفي، وأخرى كثيرة)، وينطق في القوقازية الجنوبية ڭافا مدورة، وفي الأصل الأفرو آسياوي aku (المادة 19 في Nostratic Dictionary). لكن ماذا عن النون التي نجدها في بداية اللفظ الأمازيغي نكّني ⵏⴻⴽⴽⵯⵏⵉ؟ هل له ما يشهد له في تاريخ اللغات؟ نجد له شاهدين على الأقل أولهما في اللغات السامية حيث نجد naħnu في اللغتين المانية والعربية، ونجد neħna في الإثيوپية، و anini في الأشورية البابلية، و enaħnan في الآرامية (Welfinson, Israel: The History of Semitic Language). فكل هذه الألفاظ إما أنها تبتدأ بنون وإما أن نونها يتبع صائتا يقع في صدر الكلمة. الشاهد الثاني على الوجود القديم للنون في اللفظ الدال على "نحن" في الأمازيغية نجده في العائلة اللغوية الصينية القوقازية وهو na-xʷa يجمع بين النون في بداية الكلمة، وخاء مخففة لها نفس مخرج الصوت الذي للكاف، والإستدارة. فهي بذلك تشهد لأصالة معظم الخصائص الصوتية للفظ الأمازيغي. وهذا عين ما حدث في العربية التي تحولت فيها الكاف إلى حاء. نستنتج من كل ما سبق أن أن الضمير "نحن" في العربية جاء من الأصل الأمازيغي نك ⵏⴽ فتحولت الكاف فيه إلى حاء واختفت فيها اللاحقة غير الشخصية كما اختفت في لغات أخرى كثيرة. فالصيغة المجردة للضمير الأمازيغي الدال على المتكلم المفرد المذكر هي نك ⵏⴽ تضيف إليها صيغة الجمع للضمير غير الشخصي الدال على الجمع المذكر وين ⵡⵉⵏ ، وإعراب الفاعلية i أو يض ⵉⴹ. فاحتفظت اللغات الأخرى بكاف اللفظ الأمازيغي، وبكافه ونونه، أو بكافه ونونه واستدارة كافه الناتجة عن إدغام الضمير غير الشخصي في كافه، رغم أن معظم هذه اللغات فقدت الضمير غير الشخصي وين ⵡⵉⵏ. المثال الثالث: كلمة "وجه" وتجد في العربية لفظة "أديم" التي تستعملها في قولك: "أديم الأرض" أي وجهها. فما قصة هاته اللفظة وما أصلها؟ من ثمار معرفتنا بالأمازيغية، بصفتها "شفرة سرية" داخل اللغات الطبيعية، أن المعجم الأمازيغي حافظ على معاني الألفاظ الأصلية (الأصول) التي يندر أن تجدها في اللغات الأخرى، وأضاف إليها المعاني المجازية المولدة التي توجد في اللغات الأخرى بوفرة. من ذلك مثلا اللفظ الدال على معنى "الوجه" في الأمازيغية وهو ؤدم ⵓⴷⴻⵎ فنجد في اللغة الأموتية لفظ "ديم" يعني "الوجه" و"الجبهة" و"الحاجب". ونجد في الكوشية الشرقية العالية "دمّ" بتشديد الميم بمعنى "الحاجب"، وفي الكوشية الشرقية الدانية لفظ "دام" (تنطق كذلك "دان") بمعنى "أحد نصفي الذقن"، وفي السامية الأصلية "ؤدام" أو"ؤديم" أو ؤدوم" (لا نعرف كيف ننطق حرف العلة الأوسط) بمعنى "الشبيه" و"الصورة" و"الوجه" (منه "أديم الأرض" في العربية). إلا أن الباحث في اللغة الأمازيغية لا يجد الجذر أدم ⴰⴷⵎ بهذا المعنى المولّد وامتداداته المجازية فقط (ؤدم ⵓⴷⴻⵎ "وجه"، سّودم ⵙⵙⵓⴷⴻⵎ "قبّل" و"عانق"، إلخ)، بل يجد معنى آخر ملموسا ذا أصل آخر أعمق منه مرتبط بالمحيط الطبيعي للإنسان القديم. لنشرح. المادة 90 في معجم حدادو هي دم ⴷⵎ تفيد معنى "مد شفتيه نحو الماء من أجل الشرب"، وهذا فعل دومت ⴷⵓⵎⵜ في الأمازيغية التوارڭية. من ذلك أيضا سودم ⵙⵓⴷⴻⵎ بمعنى "ارتشاف السائل إلى آخر قطرة"، وتاسودمت ⵜⴰⵙⵓⴷⴻⵎⵜ هي آخر قطرة. ونجد في الأمازيغية المزابية لفظ ئدّوم ⵉⴷⴷⵓⵎ بمعنى "قطّر". المعنى نفسه تجده في أمازيغية الأطلس المتوسط بالمغرب بلفظ أدّوم ⴰⴷⴷⵓⵎ فيعبّرون عن "التقطير" و"شبكة المياه" باللفظ أسودّوم ⴰⵙⵓⴷⴷⵓⵎ. هذا أصل كلمة ئدامّن ⵉⴷⴰⵎⵎⴻⵏ التي قد يُتوهّم أنها اقتباس من العربية ولكنها ليست كذلك بل مشتقة بدورها من معنى "ما يقطر من السوائل" كالماء ونحوه. واضح إذن أن المادة دم تطورت من معنى "قطر" (كأن يقطر الماء من السماء أو من عين أو إناء) إلى معنى "ارتشاف القطرات بالفم" إلى معنى مواجهة الماء لأجل الشرب. وهذا ما يفسر أن هذا الجذر لم يستعمل في التعبير عن "الوجه" فقط بل استعمل أيضا للإشارة إلى أعضاء الوجه الأخرى كالجبهة والحاجب والذقن، كما استعمل للتعبير عن "المواجهة" أو "المقابلة بالوجه". فلا يمكن الربط بين كل هذه المعاني المعقدة والمشتتة إلا إذا أخذنا أقدم الألفاظ التي اشتُقت منها التي توجد في اللغة الأمازيغية. هذا هو أصل كلمة "أديم" في اللغة العربية. أمثلة أخرى البرج "بناء مُرتَفع على شكل مُستدير أو مُربَّع ويكون مستقلاًّ أو قسمًا مِن بناء عظيم". إلا أن هذا الإسم الدال على نوع من البناء يجد أصله في معنى "العلوّ" نجده في اللغات الإفريقية منها لغة البداوي تستعمل وصف birga بمعنى "عال". تجد الجذر التاريخي لهذه الكلمة في اللغات الهندوأوروپية بالصيغة المستعادة الجامعة bhergh تنطق في اللغة الحيثية parku، وفي اللغة الهندية القديمة barhaya، وفي السلاڤية bergъ*، وفي الجرمانية birg-a*، تعني فيها كلها "الجبل" أو "طويل". يستعمل هذا اللفظ في الأمازيغية فعلا بمعنى "ارتفع" و"رُفِع" فتجدها في بعض لهجات التوارڭ بصيغة برڭڭّاي ⴱⴻⵔⴳⴻⴳⴳⴻⵢ بصائت مشموم بعد ياب وياڭ الأولى وياڭ الثانية. تستعمل بنفس اللفظ والمعنى أيضا في لهجة تولمت (النيجر ومالي). بينما لفظ الفعل في تاهاڭّارت بورڭ ت ⴱⵓⵔⴳ-ⴻⵜ بصائت مشموم بعد ياڭ. أصل كلمة "برج" كلمة أمازيغية تعني "ارتفع" و"رُفع". هل من الصدفة أن لفظ "النّفْس"، بمعنى soul بالإنجليزية، يجانس لفظ "النّفَس"، بمعنى breath أي ما يدخل من الأنف ويخرج منها من هواء يحيى به الإنسان؟ سيكون هذا التقارب في اللفظ والمعنى مجرد صدفة إذا لم نأخذ بعين الإعتبار أصل هذه الألفاظ في لسان أقدم إنسان عاقل عرفناه لحد الآن، وهو لسان إيغود. وهذا ما علِمناه من تطور هذه الألفاظ والمعاني. يسمي بعض متكلمي الدارجة من المغاربة البرد القارس ب"النفنافي". الأصل في هذه الكلمة أنافو ⴰⵏⴰⴼⵓ تستعمل في بعض التنويعات الأمازيغية كتاولمت (في النيجر ومالي) بعض لهجات التوارڭ بمعنى "الريح المنعش الرطب". ترد بلفظ قريب في القبطية القديمة هو nf لسنا نعلم ما صوامته، وبمعنى "النَّفَس" و"الريح". ومن ذلك فعل nifi في لغة البداوي يعني "هَبّت الريح". أعاد العلماء بناء هذا اللفظ في اللغات التشادية الوسطى على nip/f* منها nifi في لغة تيرا و nìp في لغة دابا (كلاهما لغتان تشاديتان) بمعنى "النّفَس" و"الحياة". من ذلك لفظ naf في لغة الصاهو (وهي لغة إيريتيرية)، وneef في اللغة القفارية (يُتَحَدّث بها في إيريتيريا ودجيبوتي وإيثيوپيا) معناه "النّفَس" و"النّفْس". لا يوجد هذا اللفظ في اللغات السامية والإفريقية فقط بل أيضا في اللغات الأوروأسياوية بلفظ nVbV* لا نعرف صوامتها، معناها "الدخان" أو "السحاب" (تنطق في اليونانية nephos، وفي الهندية القديمة nábhas "السحاب" و"البخار" و"الدخان")، وفي اللغات الصينية القوقازية بلفظ ŋŭp* معناها "استنشق" ، وفي اللغات الأسترالية بلفظ ŋap* معناها "تثاءب" ("المعجم النوستري" لصاحبة دولڭوپولسكي). واضح إذن أن كلمتي "نفْس" و"نَفَس"مترابطتان بلفظيهما (إذ تحتوي على الجذر nf)، وبمعناها، إذ تطورت من معنى "الهواء الذي يدخل ويخرج من الأنف فلا يحيى الإنسان إلا به"، إلى معنى "النّفْس"، وهو قوة حياة الأحياء. فيكون أقدم معاني اللفظ "الريح المنعش" (وهو المعنى المحقق في الأمازيغية)،والمعنى المشتق الأول "الهواء المُحيي"، والمعنى المشتق الثالث "قوة الحياة في الأحياء". أوضح اللساني الأمازيغي سالم شاكر أن كلمة "كسكس" الدالة على نوع من الطعام معروف في شمال إفريقيا هي كلمة أمازيغية أصيلة، فساق على صدق دعواه ثلاث أدلة قوية وهي: 1 الدليل الأول: الإنتشار الجغرافي لهذه الكلمة في شمال إفريقيا رغم اختلاف طريقة نطقها. فتنطق سكسو ⵙⴻⴽⵙⵓ في سوس، والريف، وعند القبايل وغيرهم. وتنطق كسكسو ⴽⴻⵙⴽⴻⵙⵓ (بمشموم بعد الكاف) في الأمازيغية الصحراوية (غدامس، التوارڭ، إلخ). 2 الدليل الثاني: أن اللفظة الدالة على "الكسكس" لا تبتدأ بالسابقة الدالة على التذكير والتعريف التي تجدها في كلمات مثل أرڭاز ⴰⵔⴳⴰⵣ والقاعدة عند شاكر أن الألفاظ التي لا تبتدأ بهذه السابقة ولا تكون مقتَرَضَة من لغة أخرى، يكون غياب هذه السابقة فيها علامة على القدم كما هو الشأن بالنسبة لأسماء أخرى في الأمازيغية تدل على غير المعدود. 3 الدليل الثالث أن اللفظة الدالة على "كسكس" ليست معزولة في الأمازيغية، بل لها مشتقات عديدة منها أسكسوت ... وهو ما يعرف بين متكلمي الدارجة المغربية ب"الكسكاس"، وبركوكس ⴱⴻⵔⴽⵓⴽⵙ (الذي ينطق في بعض الجهات بركوكش ...) صيغته المؤنثة تبركوكست ⵜⴰⴱⴻⵔⴽⵓⴽⵙⵜ وهو "الكسكس ذو الحبات الكبيرة". ومعلوم أن السابقة بر ⴱⴻⵔ في الأمازيغية تدل على معنى "الكبر والتعظيم" إلا أنما لا ينتبه له سالم شاكر أن للفظة الدالة على "الكسكس" جذورا أعمق في الأمازيغية واللغات الأخرى يبين أن لها أصلا في لغة إنسان إيغود لا شك في ذلك. وفي ما يلي بيان دعواي. أولا يستعمل فعل سكسك ⵙⴻⴽⵙⴻⴽ (بمشموم بعد كل سين) بمعنى الغربلة في أمازيغية التوارڭ (المادة 772 في معجم الجذور) مما يدل على أن مادة كس ks التي اشتقت منها الألفاظ الدالة على "الكسكس" تعني "المطحون" أو "المسحوق"، وهو ما ينسجم مع كون هذا الطعام يتكون من حبوب مطحونة على نحو معلوم، ومع كون الأمازيغية خصت لفظة أخرى للكسكس غير المطحون وهو بركوكس ⴱⴻⵔⴽⵓⴽⵙ ثانيا أن مادة ks توجد بوفرة في اللغات الإفريقية والسامية والهندو أوروپية وهي تعني في أصلها "الأسنان القواطع" التي بها نطحن الطعام. وهذه اللفظة في الكوشية الجنوبية *koʔos وفي لغة البداوي koos وفي القبطية t-s. من ذاكl "الكسس" في العربية يطلق على "عيب في الإسنان" يوجد هذا المعنى في الأمازيغية الزناڭية بلفظ أكوس ⴰⴽⵓⵙ و أوكشن ⵓⴽⵛⴻⵏ و أخسان ⵓⵅⵙⴰⵏ كلها تعني "الأسنان". إذا صح تحليلنا، فهذا يعني أن أقدم ما يمكن أن نحققه من لفظ الكسكس ومعناه هو ks بمعنى "المطحون" أو "المدقوق". كلمة "خيل" في اللغة العربية تنطق aḫyél في لغة الجبالي التي لا تزال منتشرة في بعض المدن الساحلية في الجنوب الغربي لعمان، وتنطق ḫeyōl في اللغة الحرسوسية التي لا يزال يُتكلم بها في الجنوب الأوسط في نفس البلد (ما بين 600 إلى 1000 متكلم) تعني "ركض الخيل". أما في الأمازيغية فتوجد ألفاظ بمعنى شديد القرب هي أغيول ⴰⴴⵢⵓⵍ و تغالّيت ⵜⴻⴴⴰⵍⵍⵉⵜ (في جربة) وتغالّيت ⵜⴴⴰⵍⵍⵉⵜ (مزاب) وغيرها من الألفاظ قد تعني "حصان" أو "حمار" أو "بغل" أو "قرد" حسب المناطق. لكن المثير بالنسبة للأمازيغية أن جذر هذا اللفظ مثمر معجميا يؤخذ على معنى "البني" والأسود" وهي ألوان الحيوانات التي تدل عليها الألفاظ الدالة عليها. فنقول في أمازيغية التوارڭ إغوال ⴻⴴⵡⴰⵍ أي "سودته الشمس". نفس الفعل نجده في أمازيغية مزاب بنفس المعنى وهو إغْولⴰⴴⵡⴻⵍ والكلمات بهذا اللفظ والمعنى كثيرة في التنويعات الأمازيغة. لا يعلم كثير من الناس أن "السيف" في العربية هو جانب البحر ("الساحل"). كما لا يعلمون أن مثل هذا اللفظ يوجد في لغ الجبالي العمانية بصيغة sif-t . وتوجد في التشادية الغربية أيضا بمعنى "نهر" بصيغة sip، وفي التشادية الوسطى بمعنى "بحيرة" بلفظ saf تنتشر هاته الكلمة في شمال إفريقيا بصيغة أسوف ⴰⵙⵓⴼ كما في أمازيغية الهڭار، و سوف ⵙⵓⴼ في مزاب، وأسيف ⴰⵙⵉⴼ في الأمازيغية القبايلية والسوسية وغيرهما كثير.تؤخذ كلها على معنى "الوادي" و"النهر". "السبل" (بفتح الباء) في العربية "الرمح" أو الجزء الأحد منه. توجد هذه الكلمة في اللغة الكوشية بصيغة sibil معناها "الحديد"، وفي لغات سامية غير العربية بمعنى "الحديد الذي يستعمل سلاحا". توجد هاته الكلمة عند إدا وسملال بصيغة أسبول ⴰⵙⴱⵓⵍ، وعند الهڭار بلفظ تسوبلا ⵜⴻⵙⵓⴱⵍⴰ وفي غدامس بلفظ أسوبلت ⴰⵙⵙⴻⴱⵓⵍⴻⵜ تعني فيها كلها "الخنجر" أو "الإبرة الطويلة الحادة" أو "السكين". المعنى الأصلي فيها "الإبرة الطويلة" كما يدل على ذلك انتشار هاته الكلمة في مناطق مختلفة في شمال إفريقيا بهذا المعنى (التوارڭ، نفوسة مزاب، ورغلة، الشاوية، إلخ). شهادة "التفرع" من الأدلة على أن الأمازيغية هي أصل اللغات الإفريقية الأسياوية أنك تجد متقاربات مشتركة كثيرة بين الأمازيغية ولغات سامية عديدة لا تجدها في العربية، كما تجد متقاربات مشتركة كثيرة بين الأمازيغية واللغات الإفريقية لا تجدها في أي لغة من اللغات السامية. فعندما يتفرع الأصل، فإن بعض الفروع ستحمل بعض صفات الأصل وتفقد أخرى، بينما يبقى الأصل جامعا لكل صفات الفروع. من الأمثلة (وهي كثيرة) على المشترك بين الأمازيغية والسامية من غير العربية لفظ مور ⵎⵓⵔ (الذي منه تامورت ⵜⴰⵎⵓⵔⵜ تعني الأرض في الأمازيغية) تجده في الإثيوپية بلفظ maret تعني "الأرض، والتراب، والغبار"، والأمهرية بلفظ märet ، والسبأية بلفظ mrt لا نعرف كيف ينطق (فقد اكتشف منقوشا بدون صوامت). ومن الأمثلة عن المشتركة بين الأمازيغية واللغات الإفريقية التي لا توجد في اللغات السانية كلمة إمان ⵉⵎⴰⵏ الأمازيغية التي تعني "الشخص" أو الإنسان توجد في غدامس ونفوسة ووزناكة والريف ومزاب وورغلة وفيڭيڭ وتاقبايليت وغيرها من التنويعات الأمازيغية. تقابلها في اللغة الأوموتية mVn (لسنا نعرف كيف ينطق صامتها) تعني "الناس"، وفي الكوشية mun تعني "الرجل"، وفي القبطية mnyw تعني "الراعي". بل توجد أيضا في اللغات الأوروپية الأسياوية بلفظ manV، وفي الصينية القوقازية بلفظ mVnxV وفي اللغات الأمريكية بصيغة mano بمعنى ”الزوج“. خلاصة تشهد كل الأدلة إلى أن الأمازيغية هي أم اللغات الإفريقية الأسياوية. يشهد على ذلك منطق التوزيع الجغرافي للعائلات اللغوية الإفريقية الأسياوية، واكتشاف أقدم جمجمة للإنسان العاقل في جبل إغود، وأصالة الألفاظ الأمازيغية المشتركة بين هاته اللغة واللغات الإفريقية الأسياوية، وتوفر الأمازيغية على مفردات تشترك فيها مع الفرع الإفريقي وحده والفرع الأسياوي وحده. اللغة الأمازيغية "شفرة لسانية سرية" a linguistic substratum توجد في قلب اللغات الإنسانية، لا شكل في ذلك. فلا يمكن فهم "سر" اللغات الطبيعية إلا بتعميق فهمنا للغة الأمازيغية الأصلية.